Image Not Found

«دلشاد» روايةُ تتعمق في وصف الزمان والمكان

Visits: 17

عُمان: المازن الحسني : رحلة بين دفتين

تعد رواية «دلشاد.. سيرة الجوع والشبع» للكاتبة العمانية بشرى خلفان من أجمل الروايات التي قرأتها منذ فترة ولا زالت تأسرني بتفاصيلها المبهرة، تذكرني أحداث الأيام التي أعيشها بكثير من تفاصيل الرواية، لتأخذني المواقف إلى فصول الرواية وتأخذني الشخصيات التي أقابلها بالواقع إلى شخوص الرواية لأعقد دون أن أدري المقارنات والتشبيهات، حتى إن قادتني خطواتي ذات يوم إلى أحياء مسقط القديمة، يرتبط ذهني لا إراديا بهذه الرواية ذات الحبكة القوية والوصف الدقيق لتفاصيل الزمان القديم والمكان، أما الزمان المتمثل في الأحداث والشخصيات فربما تتشابه كثير منها مع واقع اليوم، فطبيعة النفس البشرية تتشابه حتى مع مرور الزمان وانقضاء السنوات، وأما المكان القديم بتفاصيله الدقيقة فتشبه إلى حد كبير أحياء مطرح وأحياء مسقط القديمة فيحدث في العقل ربط بين الواقع وخيالات الكاتبة في روايتها «دلشاد».

أعلم يقينا أن الآراء لا تتفق جميعها على قولٍ واحدٍ، إلا أنني ألتمس انتشار الرواية ومكانتها بين القراء العرب، فما ورد في صفحات الرواية الأولى من معلومات تفيد بالمبيعات الكبيرة للرواية -التي صدرت عن دار «منشورات تكوين» الكويتية- حيث طبعت الرواية الطبعة الثالثة، وكل طبعة لا تقل عن 2000 نسخة، وإن اعتبر البعض أن ذلك ليس مقياسا على مكانة الرواية، إلا أن ما ورد في إنجازات الرواية دليل على ذلك، فقد حصدت الرواية جائزة كتارا في نسختها الثامنة وكذلك تأهلت الرواية للقائمة القصيرة لجائزة «البوكر».

ولم تحقق الرواية هذا الانتشار والإنجازات من فراغ، إنما جاء نتيجة اشتغال أدبي رفيع امتلكت مفاتحه الكاتبة بشرى خلفان، ففي شخوص الرواية، منحت كل شخصية صورة إنسانية كاملة، كأنها عاشت في داخل كل شخص على حدة، فلم نجد طول الرواية تناقضا في تصرفاتها وحواراتها، فذلك «دلشاد» بطل الرواية إن كان يمكننا القول، الذي نشأ نشأة متزعزعة بعيدا عن والدته التي تعيش بقربه ولكن بعيدا عنه في آن واحد، بعيدة عنه روحا لا جسدا، بعيدة عنه اهتماما لا مسافة، نشأ حالما بأن يعيش مع جيرانه، هؤلاء الجيران الذين لهم أم «ما حليمة» التي ترعاه كما ترعى أبناءها، وتضمد جراحه كأنه ابنها، ليتمنى «دلشاد» أن تموت أمه الحقيقية ليعيش في كنف الاهتمام كما يعيش أبناء «ما حليمة».

تدور الرواية حول «دلشاد» الذي يكبر على ذات الزعزعة من الفقر والجوع، يكبر رويدا رويدا وتدور مع الأحداث بتفاصيل لا تعرف الحشو والملل، يعيش مراحل عمره مارا بشخصيات كثيرة، وأحياء عديدة، يضطره العمر أن يعمل شتى الأعمال حتى يتزوج، ويعيش لحظات من الحب والأمل في زواجه، لكن الحياة تقسو عليه أكثر وأكثر، فمن أحبها وعشقها منذ الطفولة ماتت بعد ولادتها بابنته «مريم» تلك الفتاة الصغيرة التي يختار لها والدها طريقا لتعيش مكرمة، أو ربما لتعيش ذليلة مقابل لقمة تسد بها فاهها، فيتركها أمام منزل أحد التجار «بيت لوماه» لتعمل «خادمة» ويغادر هو إلى حيث لا يجده أحد، فيرحل باحثا عن عمل يسد به جوعه ويعيشه بعيدا عن عالم ذاق فيه من الهوان والجوع والذل، عالم اضطره أن يترك ابنته «مريم» لتواجه مصيرها، وتواجه بقية حياتها وتصنع مسارا للرواية تنتقل برشاقة من قصة «دلشاد» إلى قصة «مريم دلشاد» التي تعيش في منزل مليء بالخدم، تحت إمرة صاحبة البيت «فردوس» وصاحب البيت «عبداللطيف» الذي يعتبر كثير السفر، ليعود ذات يوم إلى منزله فتخطف نظره «مريم» التي تصبح مع مرور الأيام زوجته رغم غضب «فردوس» على هذا الاختيار الذي قد يهدد مكانتها في البيت، فكيف لخادمة أن تصبح صاحبة بيت في لحظة!

هذا واحد من صراعات الرواية التي تسردها الكاتبة بشرى خلفان بسلاسة وعذوبة رائعة، إلى جانب الكثير من التفاصيل والأحداث والشخوص والصراعات التي لا يتسع المجال لذكرها، ولكن قد تكون أسطري هذه مادة تعِّرف القراء بهذه الرواية، التي وجدت فيها الكاتبة مسارا رائعا لأسر القارئ وجذبه حتى نهاية الرواية وليس في حواراتها فقط، بل في وصف المكان كذلك، ليشتعل الخيال أثناء القراءة بتكوين مشهد حي يصور المكان، الأحياء الضيقة المنتهية بمنزل كبير، الممرات متعددة الارتفاع والتي تطل في إحدى زواياها على البحر وعلى السفن، صورة الميناء البحري المليء بالتجار البانيان وأصوات العمال التي تعلو وسط احتشاد الناس، صورة الحياة والوديان وتضايق المكان المليء بالحجارة القاسية، وصورة بقعة الخيام والجيرة والمجتمع، صورة أحياء الهند والمدينة الصاخبة المليئة بالبشر التي تشكل زحاما لا تعرفها مسقط ولا أحياؤها، كل ذلك جمعته الكاتبة بشرى خلفان في الرواية التي أذن لها أن تنتهي مع بارقة أمل أن يكون هناك جزء آخر منها، فتقول الكاتبة في آخر سطر بالرواية «تمَّ كتاب الجوع، يليه كتاب الشبع بإذن الله»، وإلى ذلك الحين تبقى رواية دلشاد آسرة بكل ما فيها من تفاصيل، رائعة إلى حد كبير يجعلني شخصيا أتوق إلى الجزء الثاني حيث تستكمل الكاتبة بشرى خلفان سرد خيالها الجامح بصورة كأنها حياة حقيقية.