Image Not Found

إسهامات الحضارة الإسلامية في علوم الطبيعة (4)

أ. د. حيدر بن أحمد اللواتي ** – الرؤية

المنهج التجريبي

بعد أن قمنا بعرض سريع لمنجزات ومساهمات علماء الحضارة الإسلامية في علوم الطبيعة الثلاثة، والتي عادةً ما يتم التركيز عليها عند الحديث عن منجزات الحضارة الإسلامية، لكن أحيانًا- أو ربما كثيرًا- ما يتم التغاضي أو الالتفات إلى أهم إسهام قدمته الحضارة الإسلامية، وهو التوجيه نحو منهج التجريب والاستقراء وإعطائه قيمة عُليا في دراسة علوم الطبيعة.

فلقد غدا المنهج التجريبي أساس علوم الطبيعة، فاليوم لا تعرف علوم الطبيعة بمواضيعها فحسب؛ بل أيضًا بالمنهج المُتَّبع في دراستها، فإذا لم يكن المنهج تجريبيًا، لم تعد تصنف اليوم من ضمن علوم الطبيعة حتى وإن كان الموضوع مختصًا بعلوم الطبيعة، فمثلًا الرجوع إلى الموروث البشري أو الديني لأي دين من الأديان لإثبات حقيقة علمية مرتبطة بعلوم الطبيعة- وبغض النظر عن صحة تلك الحقيقة من خطأها- فإنها لا تعد من حقائق علوم الطبيعة لأنها لم تستخدم المنهج التجريبي في الوصول إلى الحقيقة العلمية، ففي علوم الطبيعة فإن المعرفة تستقى من التجريب لا من غيره.

ومن اللافت للنظر أن القرآن الكريم- كما يشير بعض المفسرين- من أقدم الكتب التي أشارت إلى استخدام منهج التجريب والملاحظة لدراسة وفهم الطبيعة وفي آيات كثيرة، فلقد ذكر القرآن الكريم وركز كثيرًا على المنهج الاستقرائي والمعتمد على الملاحظة والتجريب وبصورة بارزة ولافتة للنظر بحق.

يقول الفقيه الكبير السبزواري في معرض تفسيره للآيات 190-195 من سورة آل عمران “… الاعتماد على التجربة والاستقراء، ويعتبر الإسلام هو الذي أنشأ المنهج التجريبي وسبق الفلسفة المعاصرة والبحث العلمي في القرون المتأخرة”. (1)

بل إن السيد الصدر في كتابه “الأسس المنطقية للاستقراء” يذهب بعيدًا في هذا المنحى؛ حيث يوضح أن القرآن ركز على المنهج الاستقرائي في إثبات الصانع جلت قدرته، ويوضح أن السر في ذلك يرجع إلى “… الارتباط المنطقي بين منهاج الاستدلال العلمي، والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة، قد يكون هو السبب الذي أدى بالقرآن الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع، تأكيدًا للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع”. (2)

ومن الملاحظ أن علماء الطبيعة في الحضارة الإسلامية اهتموا كثيرًا بالتجريب وأعطوا قيمة كبيرة له وأكدوا على أهمية الاستقراء كثيرًا. يقول جابر بن حيان “من كان دربًا كان عالمًا حقًّا، ومن لم يكن دربًا لم يكن عالمًا، وحسبك بالدربة في جميع الصنائع أن الصانع الدرب يَحْذِق، وغير الدرب يُعَطِّل”. (3)

والدرب لفظ أخذ من التدريب ويعني به التجريب؛ بل نجد في عباراته إلى أن المنهج الاستقرائي وسيلة للوصول إلى المعرفة العلمية في مجال علم الكيمياء، فقد ورد عنه “استقراء النظائر واستشهادها للأمر المطلوب” وقوله “التجربة محك معتمد لكنها وحدها لا تكفي إنما تأتي صنعة الكيمياء بالعوامل الثلاث العلم والعمل والتجربة” (4). وعلى الرغم من تأثر جابر بن حيان بالفلسفة اليونانية- كما أشرنا إلى ذلك سابقًا- إلّا أنه وبالمقابل أدخل التجربة والاستقراء في علم الكيمياء، وأنشأ مختبرًا علميًا بحثيًا في الكيمياء ربما يكون الأول من نوعه في تاريخ البشرية، ولذا عده الكثيرون أنه المؤسس الحقيقي لعلم الكيمياء؛ حيث قام بإدخال التجربة والاستقراء لدراسة المادة وتحولاتها.

وكما ذكرنا آنفًا في مقالة سابقة فإن ابن الهيثم ضرب بآراء أرسطو عرض الحائط في علم البصريات معتمدًا بذلك على منهج التجربة والاستقراء.

بينما نجد أن علماء وفلاسفة الحضارة اليونانية اعتمدوا على التفكير العقلي والتأملات وهمشوا المنهج التجريبي، مما جعل الحضارة اليونانية لا تقدم ما يذكر من حيث الإنجازات العلمية والتقنية المعتمدة على التجريب والاستقراء. فعلى الرغم من حجم الإنجازات الضخمة على مستوى الفلسفي؛ إذ هزوا عقل الإنسان هزًا عنيفًا وأيقظوا فيه التطلع إلى معرفة القوانين والأسس النظرية، لكن إنجازاتهم تكاد لا تذكر على مستوى التجربة والاستقراء.

ويلخص د. فؤاد زكريا ذلك بعبارة بليغة “فكان لهم بذلك علم قادر على تغيير عقل الإنسان دون أن يكون قادرا على تغيير العالم” (4).

ومن هنا فإننا ندّعي أن منهج العلوم الطبيعية الحديث والمبني على الاستقراء والتجربة منهج إسلامي أصيل، وربما يكون القرآن الكريم هو أول من ركز عليه واستخدمه علماء الحضارة الإسلامية، ولذا فهو من أهم وأبرز ما أنتجته الحضارة الإسلامية وهو أهم إرث ورثته أوروبا وبنت عليه الصرح العلمي الشامخ.

وإذا كان المنهج الاستنباطي يُنسب إلى اليونان وأرسطو، فإن من العدالة نسبة المنهج الاستقرائي القائم على التجربة إلى القرآن الكريم وإلى الإسلام؛ فالحضارة الإسلامية هي من أوائل الحضارات -وربما الأولى- التي أولت اهتماما فائقًا به وأشارت للبشرية إلى أهمية استخدامه لإعمار الأرض.

إن ابتعاد المسلمين عن إعطاء قيمة حقيقية لمنهج الاستقراء والتجربة- كما يرى البعض- ربما كان سببًا أساسيًا في تأخرهم عن الركب الحضاري، ولن يتأتى لهم اللاحق بهذا الركب إلّا من خلال الأخذ بهذا المنهج والعمل به في شتى مناحي الحياة، بدلًا من المبالغة في التركيز على منهج الاستنباط القائم على التنظير دون النظر إلى الواقع وتعقيداته.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس


المصادر:

السبزواري، مواهب الرحمن في تفسير القرآن، ج7
الصدر محمد باقر، الأسس المنطقية للاستقراء
زكي نجيب محمود، جابر بن حيان
يمنى الخولي، بحوث في تاريخ العلوم عند العرب
فؤاد زكريا، التفكير العلمي