علم الأحياء
في مقالتنا السابقة تحدثنا عن مساهمة علماء الحضارة الإسلامية في علم الكيمياء وتوصلنا إلى نتيجة مفادها أن مساهماتهم اقتصرت على المساهمة التراكمية ولم يساهموا بأسس علم الكيمياء بل آمنوا بما آمن به أرسطو وفلاسفة اليونان وبنوا عليه بنيان علم الكيمياء، واليوم سنتطرق إلى نوع المُساهمة التي قاموا بها في علوم الأحياء فهل هي مساهمة في أسس علم الأحياء أم أنها مساهمات تراكمية شبيهة بتلك التي ساهموا بها في علم الكيمياء.
يمكن تعريف علم الأحياء بأنه علم يختص بدراسة خواص الكائنات الحيَّة ووظائفها وتصنيفها كما يهتم بتركيبتها الفسيولوجية، ويعد علم الأحياء من أقدم العلوم التي اهتم بها الإنسان، ويعد أرسطو من أوائل الفلاسفة الذين أبدوا اهتماماً بالغًا فيه، حيث يعد من أهم من عمل على محاولة تصنيف الكائنات الحية في الحضارة اليونانية.
واهتم علماء الحضارة الإسلامية بهذا العلم أيضًا وبرز عدد منهم ونالوا شهرة كبيرة، منهم ابن البيطار وابن سينا والجاحظ وابن النفيس والدميري والقزويني وغيرهم، إلا أن الملاحظ أن إسهاماتهم كانت في تطوير علم الأحياء القائم على الأسس والقواعد التي تبناها علماء وفلاسفة اليونان، ولم ينقلبوا على ما ورثوه من الحضارة اليونانية بل أقروه وبنوا عليه فمثلا ظلت نظرية أرسطو في نشأة الحياة هي السائدة (نظرية الخلق التلقائي)، كما ظلت أسس تقسيم الكائنات الحيَّة شبيهة بما ورثه المسلمون من الحضارة اليونانية مع توسع في التصنيف وذلك بسبب توجه علماء الحضارة الإسلامية نحو الملاحظة والتجريب والتي ميزتهم عن علماء اليونان وفلاسفتهم، إلّا أن أساس التصنيف القائم على الخواص الظاهرة للكائنات الحية ظل كما هو وظل التقسيم التقليدي للكائنات (حيوان ونبات وإنسان)، وكان من نتائج التوجه نحو الملاحظة والتجريب اكتشاف الدورة الدموية من قبل ابن النفيس، والكشف عن عدد من الكائنات الحيَّة ووصفها وتشريحها، لكن كل ذلك لم يشكل انقلابا أو تغييرا لما ورثه المسلمون من اليونانيين، أما اليوم مثلا فلقد حدث انقلاب كبير على التصنيف الثلاثي البسيط فتم تقسيم الكائنات الحية إلى نطاقات ثلاث ومن ثم تم تقسيم النطاقات إلى خمس ممالك وتقع النباتات والحيوانات كممالك منفصلة ضمن هذه الممالك الخمس.
غير أن بعض المفكرين طرحوا فكرة تطور الكائنات الحية ووجود السلف المشترك والتي تعد أحد أهم أسس علم الأحياء اليوم، طرحها بعض الفلاسفة المسلمون وتبنوها، وقد تناول الأستاذ مجدي عبد الحافظ في كتابه المعنون “فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام” وذكر عددًا منهم؛ إذ أورد عن كتب إخوان الصفا وهم من فلاسفة القرن الثالث الهجري عبارات توحي بإيمانهم بفكرة تطور الكائنات بعضها عن بعض، مثل قولهم “آخر مرتبة النبات مُتصلة بأول مرتبة الحيوان وآخر مرتبة الحيوانية متصل بأول مرتبة الإنسانية وآخر مرتبة الإنسانية متصل بأول مرتبة الملائكة” كما وردت عبارات أخرى “النبات متقدم في الوجود على الحيوانات في الزمن..” (1)
كما وردت عبارات شبيهة عند ابن خلدون في مقدمته المشهورة “انظر إلى عالم التكوين كيف ابتدأ من المعادن ثم النبات ثم الحيوان على هيئة بديعة من التدريج: آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات… وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان..”.
وهناك عبارة أخرى وردت في “المقدمة” أُثير حولها بعض اللغط وهي “واتسع عالم الحيوان وتعددت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان صاحب الفكر والروية، ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينتهِ إلى الروية والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان بعده»، واللفظ الذي اختلف فيها هو “القردة”؛ إذ إن بعض النسخ تذكر كلمة “القدرة” بدلًا من “القردة”. (2)
لكن بعض الباحثين شككوا في إيمان هؤلاء العلماء والفلاسفة وتبنيهم لمفهوم تطور الكائنات الحية، فقد ورد في هامش كتاب “فكر ابن خلدون العصبية والدولة” ما نصه: “ويريد بعض الباحثين أن يستنتجوا من هذه الفقرة ومثيلاتها الواردة في المقدمة أن ابن خلدون “قد سبق داروين إلى نظرية التطور”. والحقيقة أنه لا علاقة بين ما يقرره ابن خلدون هنا وبين نظرية التطور الداروينية. فالمسألة هي بيان “اتصال الأكوان” بعضها ببعض، الشيء الذي يسمح بالقول بإمكان اتصال الإنسان بالعالم العلوي، عالم الملائكة. وتلك فكرة كانت شائعة عند مفكري الإسلام قبل ابن خلدون، خصوصًا إخوان الصفا). (3)
وفي نظرنا سواء آمن فلاسفة وعلماء الحضارة الإسلامية بفكرة التطور أم لم يؤمنوا بها، فلم يتضح لنا أثر هذا التبني على علم الأحياء، كما إنهم لم يفصلوا في شرحها والتعرض لميكنتها وإثباتها تجريبيًا إلّا من خلال بعض الملاحظات؛ بل ربما غلب عليها الطابع الفلسفي، مما يوحي بأن فكرة التطور التي تبنوها ربما تكون راجعة لبعض الآراء الفلسفية التي ترجع إلى الفلسفات القديمة، أكثر من كونها فكرة علمية.
ولذا فإننا نميل إلى أن مساهمات علماء الحضارة الإسلامية في علوم الأحياء كمساهماتهم في علم الكيمياء لا تعدو أن تكون تراكمية، وليست مساهمات في أسس العلم وقواعده الأساسية.
وللحديث بقية…
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مجدي عبد الحافظ، “فكرة التطور عند فلاسفة الإسلام”، ترجمة هدى كشرود، طبعة عام 2005.
وليد نويهض، “آراء ابن خلدون في مراتب الوجود واتصال الأكوان وتطورها”، بحثًا عن مفردة “قردة”.
د. محمد عابد الجابري، “فكر ابن خلدون العصبية والدولة” صفحة 68، مركز الدراسات العربية.