1- علم الكيمياء
يقر عددٌ كبير من المهتمين بتاريخ علوم الطبيعة بالدور الكبير للحضارة الإسلامية وخاصة في عهد الخلافة العباسية في تطوير علوم الطبيعة المختلفة، وعلى الرغم من أن تقسيمات علوم الطبيعة تعد من الأمور الحديثة نسبيًا، ففي السابق كان العالم يدرس مختلف المجالات العلمية والدينية والفلسفية معًا، إلا أننا سنحاول في هذه السلسلة أن نسلط الضوء على ثلاثة تخصصات علمية بشكل خاص وهي الكيمياء والأحياء والفيزياء، ونحاول أن نقيم دور الحضارة الإسلامية في تأسيسها وتطويرها.
ويمكننا أن نصنف المساهمات العلمية في هذه العلوم الثلاث إلى صنفين، الصنف الأول هو المساهمة في بناء كيان العلم ونظرياته الأساسية التي يقوم عليها ذلك العلم، والآخر، مساهمات نطلق عليها بنائية أو تراكمية وهي المساهمات القائمة على الصنف الأول ولا تشكل قواعد للعلم وأسسا ينبني عليها ذلك العلم، ولتوضيح الفرق بينهما فيمكننا تشبيه العلم بالبناء المتكون من طوابق عدة، فالصنف الأول يشبه الأسس والدعائم لذلك البناء والتي يقوم ويتكئ عليه البناء كله، وأما الطوابق فهي شبيهة بالمساهمات البنائية والتي قامت وبنيت على تلك الأسس.
ففي علم الكيمياء الحديثة مثلا تعد فكرة وجود جسيم الإلكترون فكرة أساسية يقوم عليها كيان علم الكيمياء برمته، وانهيار هذه الفكرة سيقلب علم الكيمياء رأساً على عقب، وبالمقابل ففكرة أن الماء لا يغلي عند 100 درجة مئوية عند الضغط الجوي لا تعد فكرة أساسية، وخطأها لن يؤدي الى انهيار علم الكيمياء، وعلى الرغم من أهميتها فهي لن تؤثر في أسس العلم وقواعده.
وبناء على هذا التصنيف فإننا نحاول أن نسلط الضوء على طبيعة مساهمة علماء الحضارة الإسلامية في هذه العلوم هل مساهماتهم كانت من الصنف الأول أم من الثاني؟ فهل ساهم المسلمون في بناء هذه العلوم وغرس أسسها أم أن مساهماتهم كانت بنائية وتراكمية ولا ترقى لتكون مساهمة في بناء أسس العلم وقواعده؟
وسنبدأ أولا بمساهمات علماء المسلمين بعلم الكيمياء وكما هو معلوم فإن هذا العلم يهتم بطبيعة المادة وأصلها وتفاعلاتها المختلفة، وكيف يمكن أن نقوم بتحويل المواد المختلفة إلى مواد أخرى ذات فائدة مرجوة.
ويعد جابر بن حيان أبرز علماء الكيمياء في الحضارة الإسلامية ولا ينازعه أحد في ذلك، فقد ساهم مساهمة فاعلة في اكتشاف وتصنيع مواد جديدة فقد قام باكتشاف الماء الملكي وهو خليط من حمض النيتريك وحمض الهيدروكلوريك، كما قام باكتشاف حمض الكبريتيك والنيتريك ونترات الفضة وكحل الإثميد، وينسب له اكتشاف القلويات أيضاً واستعمال ثاني أوكسيد المنغنيز في صنع الزجاج كما ساهم بأعمال مهمة في مجال تنقية بعض المعادن من الشوائب، واشتهر عنه أنه استخدم الموازين الحساسة.
لكن كل هذه الاكتشافات العلمية الهامة تندرج ضمن ما عنوناه بالمساهمات التراكمية، فهي مساهمات تطبيقية لا تؤثر في أسس العلم وقواعده، فهل ساهم جابر وبقية علماء الكيمياء في عصر الحضارة الإسلامية في بناء كيان علم الكيمياء وقواعده؟
الواقع أن من الصعب القول بذلك فالمتتبع سيجد أن جابر بن حيان وغيره من علماء الكيمياء كأبي بكر الرازي مثلا ظلوا يؤمنون أشد الإيمان بالأسس العامة لعلم الكيمياء والتي آمن بها علماء وفلاسفة الحضارة اليونانية، فلقد آمنوا مثلا بفكرة الإكسير وتحويل المعادن الرخيصة إلى معادن نفيسة فكانوا يعتقدون أن المعادن مثل الذهب والفضة والنحاس والحديد والرصاص والقصدير من نوع واحد وأن أصل هذه المعادن يرجع الى الزئبق والكبريت، كما أنهم آمنوا بل وتبنوا آراء أرسطو في أصول علم الكيمياء فكانوا يعتقدون أن المادة الأولية تكتسب صورا أربعة وهي الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة ولذا نشأت أربع مواد أولية وهي النار والهواء والماء والتراب، وأن جميع المواد الأخرى المركبة تتكون من هذه المواد الأربعة بنسب متفاوتة، وعلى الرغم من أن النظرية الذرية طرحت في الحضارة اليونانية وتبناها ديمقريطس، إلا أن أحدا من علماء المسلمين لم تثر اهتمامه وظلت علوم الكيمياء تدور في فلك آراء أرسطو (1، 2).
ولذا فمن الصعوبة بمكان القول بأن إسهامات جابر بن حيان وبقية علماء الحضارة الإسلامية والذين اشتغلوا في علم الكيمياء كانت إسهامات في بناء كيان العلم وأسسه بل هي إسهامات تراكمية، قامت وبنيت على أساس القواعد التي آمن بها اليونانيون وانتقلت إلى الحضارة الإسلامية فبنى هؤلاء العلماء علم الكيمياء على هذه الأسس والقواعد يقول الدكتور محمد يحيى الهاشمي ” أخذ جابر مادته الكيمياء من مدرسة الإسكندرية التي كانت تؤمن بإمكانية انقلاب العناصر، ولم يهمل الجانب النظري الذي يمت إلى الفلسفة اليونانية والتصوف الشرقي بصلة قوية” (1)، ويقول زكي نجيب في كتابه عن جابر بن حيان “..ونظريته في تكوين المادة هي نفسها في جوانبها الهامة كلها نظرية أرسطو” (1) ويقول الشريفي إن جابر بن حيان وأبا بكر الرازي أخذا بنظرية العناصر الأربعة (3).
ويقول الدكتور ناجي بسباس “لو أن جابر بن حيان أنكر فكرة “الصنعة وتدبير الذهب” لكانت منزلته كمنزلة عبقري من عباقرة القرن العشرين في علم الكيمياء” (4) ويعني بالصنعة وتدبير الذهب فكرة الإكسير التي تحدثنا عنها.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصادر:
1- الإمام الصادق ملهم الكيمياء، د. محمد يحيى الهاشمي
2- جابر بن حيان، زكي نجيب محمود
3- جابر بن حيان وجهوده في علم الكيمياء لقاء شاكر الشريفي مجلة التراث العلمي العربي العدد 38 2018
4- جابر بن حيان، 720 – 813 هـ: مؤسس علم الكيمياء الحديثة، المجلة العربية العلمية للفتيان 1999 ص 66 -71 مجلد 3 عدد 5.