بدايةً لنبحث في التركيبة اللغوية لما يسمى “نظرية المؤامرة”، التي تتكون من لفظين “نظرية” و “المؤامرة”. فلفظة “نظرية” هو مصطلح بحد ذاته، جذره من “ن-ظ-ر”، أي “نظر” المعروف المعنى في اللغة والمؤدي للبت في الشيء ومشاهدته والتأمل فيه وتكوين تصور عنه. والنظرية اصطلاحاً تُعرف أنها “قواعد ومبادئ تُستخدمُ لوصفِ شيء ما، سواء أكان علمياً، أم فلسفياً، أم معرفياً، أم أدبياً، وقد تثبتُ هذه النظرية حقيقة معيّنة، أو تساهمُ في بناءِ فكر جديد”. أما لفظة “المؤامرة”، فأصلها من “أ-م-ر”، موصولاً إلى “التٱمر”، والاشتراك في ترتيب وتنفيذ عمل غير مشروع خُفيةً. وتعرّف اصطلاحاً بأنها “قيام طرف ما معلوم أو غير معلوم بعمل منظم، سراً أو علناً، بالتخطيط للوصول لهدف ما مع طرف آخر، ويتمثل الهدف غالباً في تحقيق مصلحةٍ ما أو السيطرة ضد الجهة المتآمر عليها، ومن ثم تنفيذ خطوات تحقيق الهدف من خلال عناصر معروفة أو غير معروفة”.
وبالفهم والتعبير البسيطين، فإن المؤامرة هي مشروع خبيث تشترك فيه جهة أو أكثر من جهة لتخطيط وتنفيذ عمل “شرّير” ضد طرف آخر، الذي هو المتآمَر (بالميم المفتوحة) عليه، يبدو في ظاهره “خيّراً”، يخدم الطرف المتآمِر (بالميم المكسورة). ووصف “المؤامرة” اصطلاحاً هو اتهام من قبل طرف متضرّر يحاول إلقاء اللوم عما يشتكي منه، أن يكون من عمل طرفٍ متآمِر (بالميم المكسورة)، ينفذ ضده خطة خبيثة تبدو في ظاهرها خيّرة. ويبدو أن “نظرية المؤامرة” قد أصبحت في واقع الياة عبارة سخرية تستخدم ضد كل من يشتكي من فشلٍ ما، ويلقي باللوم على طرف خارجي – عادة أقوى منه – لتبرير تكرار الفشل. وفي الأغلب، يستخدم هذا المصطلح المركب من قبل المدافعين عن الدول الضعيفة (النامية!) التي تتهم الدول القوية (المتقدمة!) أن تكون السبب في تخلفها.
ولنترك التعريفات جانباً، ولننظر في واقع مجريات الأمور في العالم. لا أظن أن ثمة أحد ينكر أن دول العالم منقسمة في طرفين، أحدهما “قوي ومتقدم” والآخر “ضعيف و(متخلف) نامٍ”، وربما تكون بينهما بعض الدول التي هي على مشارف الخروج من حيّز الضعف والنمو، إلى سماء القوة والتقدم. وتعريفنا للقوة والتقدم يتركز أساساً – وهو واقع الحال – في المجال الاقتصادي والعسكري بالإضافة للوضع السياسي والعلمي والثقافي والاجتماعي ومنسوب الحرية والديمقراطية (بمعناهما المتعارف عليه) في البلدان. وفي مقابل ذلك تجتمع في حالتي “الضعف والتخلف” الصفات العكسية المقابلة للقوة والتقدم، بغياب تلك العناصر أو نقصها في البلدان المعنية. وكذلك فإن الدول “المتقدمة” متآلفة ومتحالفة لاتحاد واشتراك أهدافها تجاه العالم المتخلف، وتجمعها اتحادات ومحافل يتم فيها تناول مصالحها المشتركة والتخطيط لاستمرار ازدهارها على حساب الطرف الاخر.
ولو نظرنا إلى هذا التفاوت في المميزات بين الطرفين، لوجدنا أن الدول القوية المتقدمة تفتقر إلى كثير مما يعتبر موارد أساسية لتحقيق ذات القوة والتقدم، ومنها الثروات الطبيعية – النفط والغاز والمعادن وبقية ثروات باطن الأرض والزراعة، وكذلك وفرة الموارد البشرية. ولو استعرضنا قائمة الدول العشرين الأكثر سكانا في العالم بتعداد سكاني أعلى من 70 مليون وحتى المليار والنصف نسمة لكل منها، لوجدنا أنها – باستثناء الولايات المحتدة الأمريكية واليابان وألمانيا – لا تعتبر من الدول المتقدمة بل وغالبيتها تعتبر متخلفة، رغم وفرة الموارد البشرية وامتلاكها للثروات الطبيعية في الكثير من الحالات. والعكس صحيح، فإن غالبية “العالم الغربي” الذي يتربع على قمة قائمة الدول المتقدمة يفتقر لكلا الموردين باستثناءات محدودة. فما الذي مكّن تحقيق القوة والتقدم فيها؟
اعتداءات دول على دول أخرى، وشعوب على شعوب أخرى، حفل بها التاريخ الحديث على مر القرون الماضية، ونتجت واستمرت من تلك الاعتداءات عشرات الحالات من الاحتلال والاستعمار بمختلف العناوين من الانتداب العسكري والسياسي واتفاقيات الحماية والصداقة وغيرها. وقد تنافست دول أوروبا الغربية على استحواذ مساحات جغرافية واسعة قد غطت كل أرجاء المعمورة، ولعل بريطانيا حازت الحصة الكبرى، حتى سميت “الإمبراطورية التي تغيب عنها الشمس” ليس جزافاً، بل لأنها فاقت زميلاتها وجاراتها في بسط السيطرة الاستعمارية في أقاصي الشرق وأقاصي الغرب وما بينهما. وزميلاتها فرنسا وأسبانيا وإيطاليا وهولندا وألمانيا وغيرها قد احتلت البلدان ونهبت الثروات واستعبدت الشعوب. ولا يخفى أن الولايات المتحدة الأمريكية نفسها نشأت كبلد محتل مستعمر مترامي الأطراف ومتعدد الولايات، تقاسم مناطقها زملاء الاحتلال الأوروبيون، ولكن بنموذج احتلالي مختلف، اعتمد على إبادة الشعب الأصلي في الأرض المحتلة (بتقديرات مليومنية فاقت أعلاها الخمسين مليوناً) واستيفاد الملايين من بلدان زملاء الاحتلال الأوروبي بالهجرة إلى “الأرض الجديدة” واستوطنوها وكأنهم وجدوا قارة فارغة من السكان. والتحق البلد الجديد بزملاء الاحتلال، ليتسنم مركز القيادة فيما بعد وانخرط في أعمال بسط القوة وقهر الشعوب بنماذج مستحدثة من الاحتلال فاقت ذكاءً وخبثاً، وكأن الزمالة الاحتلالية قد أسست جبهتها المتقدمة المشتركة لذلك.
وقد تركز انتخاب أهدافاً للاحتلال من البلدان والتنافس فيه على أساس الثروات الطبيعية من المعادن والغلال الزراعية والثروات التراثية التاريخية وغيرها، فضلاً عن المواقع الجغرافية التي اعتُبرت أساس التمكين في السيطرة على الطرق البحرية ومواقع تخزين ونقل الثروات المنهوبة لرفد موارد البلدان الغاصبة. فغدت ثروات الشعوب المحتلة أساس الحياة في البلدان الغاصبة، بل والمواد الخام للتصنيع ومواد الوقود للآلة الاقتصادية فيها، بحيث يتم تصدير بضائع مصنّعة من المواد الخام المنهوبة إلى أقطار العالم بما فيها بلدان المصدر لتلك المواد الخام المنهوبة، وبقيمة اقتصادية ربما تفوق مئات المرات تكلفة ما تم سرقته. وكل ذلك تحت راية كاذبة تسمى “الاستعمار” الدال على العمران والتعمير، حيث يمنّ الغاصبون على الشعوب المحتلة احتلالهم وتواجدهم فيها لتحقيق العمران والتقدم فيها.
وقد شهد القرن العشرون – خصوصاً نصفه الثاني – تحت ضغط ثورات التحرر الشعبية المتتابعة، بالتراجع الظاهري وخروج الاحتلال من البلدان المحتلة، بعد استكمال بناء منظوماتهم الاقتصادية والعسكرية لاستدامة بلدانهم، تاركين وراءهم المنظومات اللازمة في البلدان “المتحررة”، التي تضمن استمرار تدفق الموارد إلى البلدان الغاصبة دون انقطاع، مع تبني الدول “المتحررة” لمناسبة احتفالية سنوية تحت عنوان “عيد الاستقلال”. وما ذلك سوى ترسيخ في وجدان تلك الشعوب مذلة أنها كانت محتلة مستعبدة فيما سبق، وكذلك بأنها قد “تحررت” نهائياً وأصبحت صاحبة قرارها باستمرار تعاملاتها مع أي كان من البلدان، بما فيها تلك الغاصبة التي احتلتهم واستعبدهم طوال عقود وقرون من السنين، لضمان توقف مقاومة “المحتل من الباطن”.
بغض النظر عن التبعات الوجدانية السلبية على الشعوب، مما يسخرها لاستمرار الاحتلاب والاغتصاب المتستر وراء العديد من صيغ العلاقات بين البلدان، فهل استقلت البلدان الغاصبة واستغنت عن الموارد التي بنت اقتصادها وآلتها العسكرية عليها؟ بالطبع، لا! بل أن استمرارية رخائها قد تأسست وانبنت على الموارد المنهوبة واستدامة الحصول عليها وبالتكاليف التي تناسبها، بحيث أصبحت من أسس الأمن الوطني لها، لأن وضعيتها المتقدمة عالمياً لا يمكن استدامتها دون ذلك التدفق من الموارد. أفليست تمتلك تبريرها في أن تدافع عن “أمنها الوطني” من ذلك المنظور، وهل يمكن أن تضحي به توخياً لبسط العدالة والإنصاف تجاه الشعوب التي رفعت عنها احتلالها مؤخراً؟ وفي نفس الوقت، هل يمكن لاستراتيجايتها الراسخة في اغتصاب الموارد ما بعد رفع الاحتلال أن تكون معلنة، فتؤدي إلى اشتعال الثورات الشعبية المطالبة للحفاظ على الثروات الوطنية في البلدان “المتحررة”؟
بالطبع، الخيار السابق لاستبقاء تدفق الموارد المنهوبة كان استمرار الاحتلال بمختلف نماذجه المباشرة – العسكري والسياسي والاستعماري والانتدابي، الذي غدى مكلفاً وصعب الاستدامة تحت وطء الثورات. وحتى نظرة التاجر البسيط ستتوجه إلى البحث عن الآلية البديلة الأقل تكلفة والمستديمة واستبدال الاحتلال المباشر وتحويله إلى وضعية متسترة تبقي البلد المحتل “المتحرر” في تبعية مستمرة تدر التدفق المطلوب للموارد اللازمة. ولا شك أن ثمة سبلاً أقل تكلفة وأخفى وقابلة لاختلاف التحليلات والتفسيرات للتمويه فيما لو انكشفت بعض حبائلها. والنظرة الفاحصة فيما يدور من حولنا من توغل كوادر الغاصب المنسحب بين صفوف اتخاذ القرارات في البلدان النامية والخبراء الوافدين والانقلابات ذات الألوان المختلفة، التي تسعى في استبقاء الوضع المتخلف لتلك الدول ومنع خروج شعوبها من الجهل وحتى تحديد اختيار شركائها الدوليين، مع التدريب والتأهيل العميق للكوادر الوطنية بزرع الولاء للغاصب المنسحب ظاهراً، ومن خلال المعاهدات والاتفاقيات والديبلوماسية الخبيثة التي تغلف البرامج والخطط الحقيقية “الاستعمارية لتبدو في ظاهرها نافعة. ولا يخفى أيضاً سيطرة تلك الكتلة الغاصبة من “زمالة الاحتلال” على المحافل الدولية التي أسستها لذات الغرض، فضلاً عن المؤسسات الدولية التي تلعب دور الربط بالمعاهدات الملزمة والتهديد للمخالفين ووضع القيود الاقتصادية في أيدي البلدان بوسائل الإقراض الجزافي تحت عنوان التطوير وبث وتشجيع الفساد والانحلال الاجتماعي ونحوه، واستحواذ سيطرة تداول الأغذية والأدوية والسلع والعملات والخدمات عالمياً.
وبالرغم من فداحة الوضع في تعطل التطور في البلدان المتخلفة وترسّخ الجهل في الشعوب، فإن قدرة التحرر من الواقع المفروض بآلة إعلامية ثقيلة تخدم مصالح الناهبين تنجح في إبقاء الشعوب “النامية” – المتخلفة في الحقيقة، في حالها الغارق في السبات. وكلما تقادم الوضع في تلك الحالة، أصبحت راسخة وغدى تمكن الخروج منها أقل احتمالاً.
وبينما المعترك بين “القوي والمتقدم” من ناحية، و “الضعيف والمتخلف” من ناحية أخرى، من الوضوح بمكان، بحيث يتم ترسيخ التبعية المؤدية لاستمرار الاغتصاب، كان استمرار الاحتلال بالإشهار أو الإخفاء، فإن الخطط الخبيثة تكون مستمرة تحت اللافتات البراقة بعناوين اتفاقيات التعاوان وتطوير الموارد والثروات الطبيعية والعمران وغيرها. وطرح “المؤامرة” كتوصيف للحالة يكون صائباً كإثارة للشك في نوايا الغاصبين ودورهم في إبقاء التخلف. إلا أن الطرح حول فشل نهوض الدول المتخلفة يتم إرجاعه إلى عدم أهلية النهوض لدى تلك الشعوب، والسخرية من أية محاولة لاتهام عناصر خارجية تؤدي إلى استمرار الفشل، فيتم إطلاق عنوان التذرع “بنظرية المؤامرة” على الحالة.
وهكذا يصبح استخدام عنوان “نظرية المؤامرة” بتلك الكيفية من أكبر المؤامرات في حد ذاته.