Image Not Found

الطب الإسلامي والبديل والحديث

إرشاد بن موسى اللواتي

هذا المقال هو مناقشة فكرية لموضوع الطب بثلاثة من تصنيفاته – الحديث والبديل والإسلامي، وليس بحثاً استقصائياً “علمياً” لأي منها، ويجدر أخذ ذلك في الاعتبار عند مطالعته.
طال ما تناقش به المتابعون والمهتمون في ورود روايات بالألاف منسوبة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) والأئمة من أهل بيته (عليهم السلام)، مضمونها يتطرق إلى الشئون الصحية ونصائح التداوي في حالات مرضية كثيرة، ذكر البعض أن الروايات المعنية تربو على عشرة آلاف رواية (لم أطلع سوى على الأقل القليل منها)، بأسانيد متفاوتة في اختلاف درجات تقييم صحة الروايات حسب ورودها لدى كل فرق المسلمين. وبطبيعة الحال فإن ذلك الزخم وجّه الكثير من المؤرخين والباحثين والدارسين لتسجيل وجمع ذلك الزخم، ثم تبويبه حديثاً تحت عنوان “الطب الإسلامي”. المعروف أن بعض الكتب المرجعية للروايات مثل البخاري ومسلم والبحار والكافي قد أفردت مساحة لهذه الروايات تت مختلف العناوين مثل “كتاب الطب” و “الطب النبوي” وغيرها، وتعاقبت الدراسات التي تمخضت عن كتب تختص بعرض “الطب الإسلامي” كموضوع متفرد. ونشرت مؤخراً سلسلة محاضرات لسماحة آية الله عباس تبريزيان (من إيران) بصورة موسّعة بعنوان “دورة الطب الإسلامي” (متوفرة على اليوتيوب) اشتملت على طرح الموضوع في حلقات عديدة. وهذا ما جرى عليه اسم طب النبي أو الطب النبوي أو الطب الإسلامي، وما إلى ذلك من التسميات.
وعليه فلا يبقى هنالك سؤال موضوعي إن كان الإسلام قد تطرق إلى صحة الإنسان وعلاجه فعلاً. أوليس “العقل السليم في الجسم السليم”؟! ولكن هل يقتضي اهتمام الإسلام بالصحة والتداوي أن يكون كل ما يوصي به استحداثاً في عالم الصحة والعلاج، أم أنه يجوز أن تكون أساليب التداوي والمحافظة على الصحة البشرية مما جربته البشرية على مر العصور التي سبقت حيث منّ الخالق عز وجل على الأمم التي سلفت العلوم والتجارب التي دلتهم على ما أوجد الخالق من طرائق المنفعة للأبدان فيما قد خلقه في الكون؟!
يجدر بالذكر هنا أن النصوص لم تربط التقيد بما توصيه من الباب التعبدي، وإنما هي نصائح هامة تفيد من يطبقها ويتقيد بمحتواها بالتمتع بالصحة البدنية والتعافي من الأدواء المعنية. وفي جملتها وتغطيتها وحجم التفاصيل الواردة فيها، فقد استحقت الاهتمام ممن عني بها أن تطب برنامجاً واسعاً من مقتضيات الاهتمام بالصحة والتداوي.
ويبدو أن خلاصة أسس الطب الإسلامي تتركز في التغذية – “المعدة بيت الداء، والحمية رأس الدواء” و “ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه” و”حسب ابن آدم لقيمات”، من ناحية، ومن النواحي الأخرى فقد اشتملت تلك الروايات على النصائح في مختلف الجوانب التي تغطي بدن الإنسان وما تقتضيه طبيعته من السلوكيات للحفاظ على سلامته وصحته والتعامل مع ما يمكن أن تعتريه من العلل والحالات المرضيّة، وذلك يغطي مجالاً واسعاً من التفاصيل في أجزاء البدن وفعالياته الطبيعية. وكذلك تتطرق الروايات إلى الجوانب الروحية والنفسية (غير المادية) للإنسان ذات الأثر على صحته، كالكآبات والهموم والقناعة والرضى والصبر. ثم أيضاً تتطرق الروايات إلى الجوانب الغيبية كوسائل للتداوي من قبيل الأدعية والرقيات والمعوّذات، التي تدخل في باب التداوي نطاقاً لا سيطرة للإنسان عليه ولا باب يؤدي إليها سوى الإيمان والاعتقاد والتسليم التام بعجز الإنسان والقدرة الإلهية.
وورود بعض الروايات بفاعلية أسلوب تداوٍ معين لا يعني بالضرورة أن رسول الله أو بعض أهل البيت قد اخترعه، بل لعله يكون نهجاً في التداوي قد زكّاه أولئك (ع) لنجاعته. ومثال ذلك الحجامة والكي وما إلى ذلك، التي عُرف أنها عُرفت لدي الصينين منذ القدم، والكثير من الأغذية والثمار والأعشاب، ووردت الروايات لتوصيتها كعلاج فاعل في العديد من الحالات المرضية المعروفة.
والجانب المكمل للطب والمُمكّن لإيصال المنفعة في جزء كبير منه – بعد التشخيص – هو الصيدلة. ففضلاً عن كون الروايات قد أوردت زخماً وافراً يغطي السلوكيات الميسِّرة للتداوي، وجملة كبيرة من الأدعية والرقيات للتوسّل للشفاء، فإن الصيدلية “الإسلامية” تتمتع بثراء كبير وتنوّع في المواد التي أوردتها الروايات، من الثمار والأغذية والنباتات والمعادن وحركات اللمس والوخز والإدماء والتعرض للشمس والهواء والمياه وغيرها. والأساس في التوجه هو “ما خلق الله من داء إلا وخلق له دواء”. وغالبها هي ما تبنّته الأمم العريقة من الصينين والهنود والأفارقة والشعوب الأمريكية وغيرها عبر التاريخ، ويجوز أن يكون فيها الغث والسمين.
هنالك الكثير من التشكيك في ما يسمى “الطب الإسلامي” في كافة جوانبه التشخيصية للداء والتوصيفية للعلاج بما فيه الجانب الصيدلي، فضلاً عن قلة الإيمان بنجاعة الجوانب الروحية والنفسية، وأكثر منها في الجوانب الغيبية، وذلك ليس بجديد. ولعل مرده إلى عموم ضعف الإيمان الديني وشموليته، وإحساس الإنسان بالاقتدار بمجرد تمكنه من بعض العلم، وما يسمى “العلمانية” حالة تؤدي إلى تضييق النطاق على الدين باعتباره مسألة تتعلق بالعلاقة الوجدانية بين الإنسان وخالقه فقط، وعزله من الحياة العامة، لمن اعتقد بوجود الخالق، ومكان الدين حينئذ ينصر في المساجد والمعابد، وإدخاله في معترك الحياة لتنظيم سلوكيات الإنسان يعتبر من الرجعية، لكون العلم لم يتوصل إلى دليل لمصداقية دعاوى المممثلين له من “الكهنوت” في أبواب العلوم عموماً، ولاعتبار أن المجتمعات (الغربية وغيرها) التي عزلت الدين من الحياة هي المتقدمة علمياً أكثر من التي لم تحذو حذوها. طبعاً الوغول في مناقشة هذا الجانب بتوسّع يخرجنا عن صلب موضوعنا، ولذلك نقتصر.
تختلف خيارات التطبب في العالم، حسب المنطقة التي ننظر إليها، بين الطب الحديث (ويسمى أيضاً “ألّوباثي” Allopathy)، و”المعالجة المثلية” (ويسمى أيضاً “هوميوباثي” Homeopathy)، والطب الصيني (الوخز بالإبر والأعشاب والحجامة وغيرها)، والطب الهندي (ويتنوع بين “الأيورفيدا” Ayurveda واليوغا وغيرهما)، والطب التقليدي الأفريقي، وغيرها الكثير من المنظومات الطبية المطروحة والمطبقة بأساليب رسمية في بلدانها وغيرها من المناطق الجغرافية في العالم. وهناك الكثير الكثير من البدائل التكميلية التي يلجأ الناس إليها بحثاً عن العلاج خصوصاً في الحالات المستعصية التي لا تنجع فيها علاجات المنظومات الطبية الرئيسية.
خيارات التعالج لدى البشر في نوعية الطب الذي يلجؤون له ظلت على مر التاريخ خيارات شخصية للأفراد الذين قد يطبقونها أيضاً على أفراد أسرهم، وقد تتأثر المجتمعات بما ينتهجه ساستها وقادتها وشخصياتها البارزة دينياً واجتماعياً وثقافياً، وقد يفرض الخياراتِ توفرُ البدائل في المناطق المعنية وتنافسها إعلامياً، وقد تفرضها محدوديةُ الوفرة المالية لدى من يُبتلى من باب كفاية النفقة العلاجية المطلوبة، فيتم اللجوء إلى الأرخص تكلفة والمقدور عليه.
ومن الطبيعي أن تكون المنظومات العلاجية القديمة قد أثْرت نفسَها من مخاض تجارب البشر على مر آلاف السنين، فضلاً عن دراسة علمية مستفيضة للمكونات الأساسية للبيئة الحاضنة لتك الشعوب، التي ظلت تجرب هذا الاحتمال وذاك للحصول على علاج ناجع لشكوى صحية انتشرت بين الأهالي. فتخصّصَ البعض في تجميع ودراسة الأغذية والأعشاب ومكونات النباتات والتربة والمعادن ومحتويات البحار والمحيطات وسموم الأفاعي والحشرات بحثاً عما يزيح المعاناة الصحية عن الناس، وكذلك مختلف الممارسات البشرية ذات الأثر الصحي الضار والنافع. وكما في حال كل العلوم البشرية، فإن الطب لا شك يستفيد من المحصول التراكمي للتجارب البشرية واكتشاف المؤثرات الضارة للابتعاد عنها والنافعة للتمسك بها حسبما تقتضي كل حالة.
وكما لا يخفى أن ما هو الحال عليه فيما يسمى بالطب الحديث ليس سوى تحصيل الموروث القديم تراكمياً والتوسع في التجارب والبحوث وتطوير الأدوات ومواد الأدوية إلى يومنا هذا ويستمر. كما لا شك أن تركيبة المستشفيات المتقدمة التي يلجأ الكثير منا للتطبب فيها هي ثمرة إنضاج متقدم للنماذج القديمة كـ”البيمارستان” (دار المرضى) الذي نظمه الأطباء المسلمون كابن سينا والفارابي وغيرهم في عصورهم. ولا يخفى أن صناعة الصيدلة مبنية على تجربة المواد التي من شأنها تحقيق أثر إيجابي لمعالجة شكوى صحية لدى ىالبشر. الفارق في صناعة الصيدلة في الطب الحديث هو أنها تتبنى استخدام وتطوير مركبات كيماوية كمصدر أساسي، التي تثبت التجارب جدواها في العلاج، رغم كونها ذات “أعراض جانبية” متفاوتة على الجسم البشري، قد يبكر أو يتأخر ظهورها. وبها توصل الطب الحديث إلى الإسراع في عملية التشافي من الكثير من الأدواء، بالمقارنة مع الأسلاف من المنظومات العلاجية، وتمكن من إنجاز تقدم كبير في الحلول الجراية وتحقيق تقدم كبير في الأساليب المتقدمة كالإشعاع وغيره.
لعل النظرة الناقدة تجاه “الطب الحديث” قد نشأت حديثاً بخلفية تسبيبه لأعراض وآثار جانبية قد تتحول لمشكلة أكبر من الداء المقصود معالجته والتكاليف الباهظة التي يضطر المرضى تكبدها إن رغبوا في اللجوء إليه. والنظرة التحليلية الخاطفة ستشير إلى أن “الطب الحديث” قد حول المعالجة من خدمة اجتماعية تتوفر لمن يحتاجها دون النظر إلى قدراته المادية، إلى تجارة عظيمة الربحية لمن يمتهنها. الإحصائيات المتوفرة تبين أن صناعة “الطب الحديث” قد قيّمت بمبلغ 1.42 تريليون دولار (1,420,000,000,000) عام 2021م (حسب موقع statista.com) على المستوى العالمي – بين شركات الصيدلة والمؤسسات الرسمية لاعتماد الدواء والمنظومات العلاجية للطب الحديث. لا شك أن السؤال يكون مطروحاً عما يدور خلف إنتاج وتسويق الأدوية من مبررات، هل هو صحة البشر أم ربحية القطاع. ويجدر بالذكر أنه حسب الإحصائيات الرسمية قبيل نهاية عام 2021م، وبينما كانت لقاحات جائحة الكورونا متاحة فقط للأمم الثرية بانتقاء، فإن أرباح الشركات الأساسية الثلاثة (فايزر، بيونتيك، موديرنا) فاقت الألف دولار في كل ثانية، أي ما يربو على 34 مليار دولار سنويا، فما بال القارئ يكون مبلغ ربحية كل شركات اللقاحات، وكم ستكون الأرباح وصلت عند تغطية كل أمم العالم… ففي “الطب الحديث” قد أصبحنا نلجأ للمتاجرين فيه، أصحاب أغراض التربح، الذين رغم إشهارهم لقيم وقواعد ممارسة المهنة، فهم قد تختلط عليهم الأمور حينما تتنافس صحة البشر مع تحقيق الأرباح الذي أسست شركاتهم لتحقيقها.
وكذلك فعندما تلتقي المصالح الربحية بين الطب والصيدلة، فتكون الشكوك مثارة حول قواعد تشخيص الأمراض والوصفات الطبية المعتمدة لها، التي تنتهج شركات الصيدلة أساليب لترويجها لا تقل تضليلاً عن عموم البضائع الاستهلاكية التي يطرها صانعوها والمتاجرون بها في الأسواق الاستهلاكية. بل وترقى الشكوك حتى للأوبئة التي تنتشر بين وقت وآخر، في حيرة المتأثرين بها إن كانت تتلك حالات تتولد وتنتشر طبيعياً بين البشر، أو أنها برامج ممنهجة لخلق الطلب على المنتجات الصيدلية المراد تسويقها.
وهنا يبلغ بنا المدى لنتساءل: هل التطبيب والعلاج يستمر كونه من الحقوق الأساسية للبشر، ومن واجبات القادر على توفيره لهم، أم من الأبواب المشروعة للتربّح دون حساب وبغض النظر عما يترتب على البشر نتيجة اللجوء للتعالج في فيه – فضلاً عنن تقيق الأرباح لمصادر توفير العلاجات من أجلها؟!
وفي المقابل، لا يتردد الناقدون للطب البديل والطب الإسلامي، استدراج تبرير استغلال بعض الممارسين للطب البديل للبسطاء من الناس والاحتيال عليهم – الذي هو لا شك حاصل، الذي هو من طبيعة بعض ضعاف النفوس، ولكون الجانب التنطيمي والرقابي ضعيفاً في هذا الجانب. والفاحص العاقل يرى أن الاستغلال والاحتيال واردٌ حصوله بين البشر، في الطب الإسلامي والبديل، والطب الحديث، وما سواه من المعاملات البشرية قاطبة.
مكونات الطب الإسلامي هي أساساً الأعشاب والثمار وخلاصات النباتات والمكونات الطبيعية من البيئة كضوء الشمس والحرارة والتدليك وبعض إفرازات كائنات حية (كسم النحل) وإخراج الدم الفاسد، وكذلك بعض الرقى العلاجية. وكل ذلك ليس بغريب عن عموم وسائل الطب البديل كأساس. أما الرقيات والأدعية المشتملة على طلب الشفاء، فهي كغيرها من أدعية الحاجات البشرية المشروعة، وبناؤها على أساس الضعف البشري الذي يشمل الكثير من الحاجات التي يتوق الإنسان إلى تحصيلها، والابتلاءات التي يطلب من الله عز وجل دفعها عنه. وكلما تعمق إيمان الإنسان توسعت دائرة حاجاته إدراكاً منه بمدى ضعفه، حتى تبلغ كل أفعاله بحيث ينتبه إلى أن ليس ثمة فعل تمكن من أدائه إلا بتمكين الله له. فطلب الشفاء بالدعاء ليس سوى دفعٍ لابتلاء المرض الذي يصيب الإنسان. والدعاء لا شك أنه من لب الدين.
وللأسف ينتهج الناقدون لوجود “الطب الإسلامي” أسلوب التهكّم متحدّين دعاة الطب الإسلامي بتعريضه للاختبار والتجربة، رافعين راية الطب الحديث ومستقوين بما وراء الطب الحديث من الماكينة الضخمة من المنتفعين بمئات المليارات سنوياً. علماً بأن تلك المنظومة من المختبرات يملكها أصحاب صناعة الصيدلة التجار، الذين ستتضرر صناعتهم لو ثبتت جدوى البدائل العلاجية لما يعرضونه هم، وسبق وأن طعنّا أعلاه فيما يتعلق بسلامة أغراض قطاع الطب الحديث والصيدلة. وبالرغم من ذلك، فقد ساعد انتشار قنوات التواصل الاجتماعي على ظهور كم كبير من المواد الإعلامية التي تدعم الطب البديل ووسائله كحلول للتداوي والمعالجة مع تدنّي احتمالات الأعراض الجانبية غير المرغوبة فيها، وإن وُجدت فتكون أخف من مثيلاتها من حلول “الطب الحديث”، وذلك بالرغم من سرعة تحصيل العلاج المعروفة عن الطب الحديث في الكثير من الحالات.
أرجو أن يكون قد اتضح من المناقشة أن ليس ثمة اعتراض على فكرة الطب الحديث سوى أن الأغراض فيه تختلط بين الهدف السامي في مساعدة المريض وبين تحقيق الربحية للشركات التي تمتهن الطب والصيدلة الحديثين، وذلك مما ينتشر من التقارير والتحليلات في الإعلام العام. وأغراض تحقيق الربحية سريعاً قد تؤدي بالتالي إلى التضحية بمستويات سلامة الحلول العلاجية المعروضة. وليس من شك بأن الطب الحديث قد فرض نفسه واحتل رقعة واسعة من سوق “الصحة والتداوي” أصبح لا غنىً عنه فيه، مع استمرار اختيار نسبة كبيرة من سكان كوكبنا اللجوء إلى الخيارات البديلة والبقاء عليها.