لستُ الوحيدة التي يخطر في بالها هذا السؤال كلما خرجتُ في مسار جبلي داخل السلطنة وبكل يقين فأنا لم أجرب إلا نسبة ضئيلة من هذه المسارات. هذا السؤال الذي أصبح أكثر إلحاحا – خاصة بعد رحلة مشي طويلة امتدت لأيام في قرى الجبل الأخضر العابقة بالهيبة والجمال – يتكرر من قبل محبي المشي الجبلي، وقادة المسار من الشباب العماني المبدع، وحتى المشاركين من الدول الخليجية الذين يأتون عُمان خصيصا لمساراتها الجبلية المتميزة.
لكن يبدو أن هذا التساؤل لا يخطر على بال المسئولين مطلقا ولا يبدو أننا سنلحق قافلة السياحة العالمية قريبا. بعيدا عن وجهاتنا السياحية الداخلية والتي لا ترقى خدماتها إلى المستوى المطلوب لا محليا ولا إقليميا – مقارنة بجهود دول مثل قطر والسعودية التي بدأت متأخرا وسبقتنا الآن بأشواط ضوئية – فإني سأترك السياحة الترفيهية جانبا لأنها تثير الشجون والأسف وربما الغضب من حال (محلك سر). وسأكتفي بالحديث عن سياحة المسارات الجبلية.
ما الذي يمنع من أن تكون عُمان وجهة رئيسة لمسارات عالمية متميزة مثل المسارات الموجودة في النيبال والهند وتنزانيا (كلمنجارو) والمغرب (توبقال) على سبيل المثال؟ لا أقارن هنا بين دول أوروبية لها مسارات ذات سمعة عالمية وتخطيط شديد التفصيل وحجوزات تصل إلى شهور قبل مواسمها الفعلية، بل أتحدث عن دول نامية مثلنا إن صح التعبير. ما الذي ينقصنا بالمقارنة بهم؟
لا شيء لا شيء!
يأتي عشاق المغامرة والمشي الطويل من انحاء الدنيا لهذه المسارات الطويلة التي تمتد لأيام، يكتشفون الطبيعة على أقدامهم ويقيمون إما في النزل المحلية أو بأسلوب التخييم، من أجل الوصول إما إلى القمم المعروفة فيها أو لتجربة المسارات الطويلة المميزة فيها، يحملون حقائب صغيرة على ظهورهم وما يكفي من الماء والعدة لقطع مسافات محددة كل يوم، في حين يتكفل فريق الاعداد بحمل متاعهم إلى النقطة اللاحقة، ويصاحبهم دليل أو أكثر من أهل المنطقة حتى يحققوا هدفهم بنجاح. في حين يفضل بعضهم أن يحمل متاعه كله ويمشي حسب الخرائط الموضحة والإشارات الموجودة في الطريق ودون دليل في المسار. وهي عملية ممكنة التنفيذ في عُمان من خلال تجربة شخصية سأسردها في منشور مستقل لاحقا.
من ناحية جمال المسارات الجبلية في عُمان فهي كثيرة التفرد والتنوع ما بين صحراء وجبال ووديان وتلال وسهول وقرى نائية وكأنها من زمن مفقود، وبحار وشواطئ وقيعان لا مثيل لها لمحبي الغوص، وكهوف وتشكيلات جيولوجية متفردة من أقصى الشمال في مسندم إلى بر الحكمان في الشرق، ومن عمق الداخل العماني حيث القرى والأرياف والمدرجات الزراعية والبرك المائية المخبئة في قلب الجبال القاسية الوعرة وكأنها لؤلؤ مكنون، مرورا بالكثبان الرملية والصحاري الباردة في الشتاء إلى الغابات الساحرة والشلالات الموسمية والأجواء الخريفية الوادعة في الجنوب. أما المناخ فباستثناء جبل شمس مثلا فإنها الأنسب من حيث اعتدال درجة الحرارة دون خوف كبير من تساقط الأمطار الغزيرة أو الثلوج أو الأجواء الشديدة البرودة التي تصعب من مستوى المسار.
هل تنقصنا الكفاءة البشرية؟ مطلقا! كل يوم ازداد اعجابا بالشباب العماني الذين يعملون إما بشكل تطوعي أو مقابل مبالغ قليلة في قيادة هذه الأنشطة، فلا تنقصهم المعرفة العلمية بالبيئة ونمط الحياة وأنواع الشجر والثمر والصخر والبنيان والتاريخ وجغرافية المكان بل وذاكرة الآباء والأجداد، وهم في كل هذا يسكبون عليك معارفهم وتجاربهم وانت تسير معهم في هذه المسارات الوارفة، فيعرفونك على كل نبات واستخداماته الطبية والعلاجية، ويدلك على أسماء الحيوان والطير المحلي، ومنهم العارف بالجيولوجيا فيشرح لك نوع الجبال والصخر وتدرج الألوان والتكوين، ومنهم المحب لفنون الشعر والأدب والطرب الجميل فيضيف على مسارات الطبيعة نغما وموسيقى ، وفوق كل ذلك فلا تنقصهم روح المغامرة والفضول والإقدام والبنية الرياضية القادرة على خوض مختلف التجارب البدنية التي تتطلب الشجاعة والجرأة مثل السباقات الطويلة والنزول في الكهوف واستكشاف المسارات النائية بل والمشاركة حتى في بعض البحوث العلمية المتعلقة بالبيئة والتي أخفق فيها سواهم، إلى جانب ممارسة مختلف الأنشطة الرياضية. أما طيب الكلام وحسن المعشر والأخلاق فلن تجد وصفا يكفي لجمال أرواحهم.
ما الذي ينقصنا سوى رؤية ثاقبة تقوم بتأهيل المسارات الجبلية ميدانيا أولا وبشكل أكثر ملائمة للسياحة الجبلية ومن ثم إعلاميا؟ ما الذي ينقصنا سوى الإرادة والتخطيط في إدارة هذا النوع من المغامرات واستغلال الطاقات الموجودة لدى هؤلاء الشباب وأغلبها مهمشة ولا يتم الالتفات لقدرات ومعارف شبابنا أو دعمهم إلا ما قلّ. ما يُقال هنا عن إهمال السياحة الجبلية يُقال أيضا وباختصار عن فئة الرياضيين العمانيين الذين لو وجد الدعم المادي المناسب لأصبحوا في مقدمة الرياضيين مثل العدائيين الدوليين ومتسلقي الجبال والقمم الشاهقة.