Image Not Found

الاهتمام بالأدلة المناهضة

أ.د. حيدر بن أحمد اللواتي ** – الرؤية

من الأمور الذي تغيرت في البحوث العلمية قبل بضعة قرون وكان لها أثر هام على مسيرة البحث العلمي الاهتمام بما يُسمى بالأدلة المناهضة وعدم الاكتفاء بالنظر إلى الأدلة الداعمة للفكرة العلمية ففي علم الطب مثلاً كان الطبيب فيما سبق يقوم بعمل تجربة دواء على عدد من المرضى فإذا نجح الدواء في معالجة عدد منهم فإنه يهتم بذلك الدواء ويعده دواءً ناجحًا ويحاول أن يعممه دون الاهتمام كثيرًا بالتجارب الأخرى التي لم تنجح.

وعادة كان ينظر لعدم نجاحها لوجود أسباب مجهولة أو طارئة منعت من نجاحها في تلك الحالات، لكن التجربة العلمية اليوم تنحو منحى مُغايرًا فهي تهتم اهتمامًا بالغًا بالنتائج السلبية وتضعها في عين الاعتبار أيضًا، فإذا فشل الدواء مع عدد معتد به من المرضى فلا يمكن إهمال ذلك ولا تسمح السلطات الصحية في تلك الحالة بتداول الدواء وتسويقه ما لم تتضح أسباب فشل الدواء مع تلك الحالات حتى لو لم يكن للدواء آثار سلبية بارزة.

ولذا فليس المهم في هذه الدراسات عدد الذين نجح معهم الدواء فقط إنما المهم هو نسب النجاح للدواء، ولذا فمن المهم معرفة عدد الذين تم إجراء تجربة الدواء عليهم وعدد من نجح معهم الدواء والعدد الذي لم يحقق الدواء نجاحًا يُذكر معه.

لكن الملاحظ أن عددًا من الادعاءات التي نجدها في بعض الكتب وفي بعض الصحف لا تعير كثيرا من الأهمية للأدلة المناهضة؛ بل أحيانا ربما يتم التغاضي عنها حتى في بعض الدراسات والبحوث العلمية.

فمن الأمور التي نلاحظها وخاصة مع بداية السنة الميلادية ما تقوم به بعض الصحف من نشر تنبؤات العرافين، ويتم التركيز عادة على نجاحاتهم السابقة ولكن هذه الصحف لا تذكر لنا مطلقا الأدلة المناهضة للادعاء المذكور فلا تشير مثلا إلى نسب نجاح توقعات العراف المذكور، فلربما تنبأ بآلاف الأحداث ونجح في التنبؤ بعدد بسيط منها وهو الذي تم الترويج له.

وقد نجد أيضًا ظاهرة شبيهة تتكرر في بعض الكتب التي يحاول أصحابها دراسة عادات النجاح لدى الأفراد الذين تصفهم بالناجحين ومن ثم الادعاء بأن هذه العادات هي السر وراء نجاحهم وأن على القارئ بذل جهده لغرس هذه العادات في شخصيته.

فمثلًا هناك من يدعي أن أحد أهم أسرار النجاح هو القيام في الصباح الباكر، وأن هناك دراسات أوضحت أن أغلب أو ربما جميع الناجحين يقومون في الصباح الباكر! أو ربما يشير البعض إلى أن سبب النجاح يرجع إلى المطالعة وتخصيص أوقات للقراءة، فجميع الناجحين أو جلهم يخصصون أوقاتًا للمطالعة ومن ثم يسوقون قائمة طويلة تضم أسماء لامعة.

وهكذا الحال في بعض الإحصائيات التي تشير إلى أن عددًا من العلماء البارزين والمبتكرين لم يكملوا دراستهم الجامعية، وكأن من يورد هذه الإحصائيات يريد أن يوهم القارئ بأن هناك تلازم بين عدم اتمامهم للدراسة الجامعية وتفوقهم العلمي أو قدرتهم على الابتكار.

ونحن لا نختلف في أن القيام باكرًا والقراءة عادات حسنة، إلا أننا نتحفظ على النتيجة التي توصل إليها فالمؤلف لم يقيم ولم يشر إلى الأدلة المناهضة، فلم يراجع مثلا الحالات الأخرى والتي تشير إلى عدد الأفراد الذين يقومون في الصباح الباكر ولم يحققوا نجاحات مذكورة، ولم يشر إلى أية إحصاءات عن الأفراد الذين يقضون أوقاتا طويلة في القراءة والمطالعة ولكنهم لم يحققوا أهدافهم ولم يقدموا للبشرية شيئًا.

وفي مجتمعاتنا الإسلامية تنتشر أحيانا ظواهر شبيهة ولكن بصور مختلفة، فيقال للبعض إن قيامك بعمل أو طقس ديني غير منصوص عليه سيُحقق لك أمانيك، فلقد جربه زيد وعمرو وقيس من الناس وتحققت أمنيتهم!

لكنه وبالمقابل لم يشر لنا إلى عدد الأفراد الذين قاموا بالعمل ولم يحققوا هدفهم ولم يصلوا إلى بغيتهم، فإذا كانت التجارب السابقة هي الدافع للقيام بهذا العمل أو الطقس الديني فلابد من الاهتمام بالأدلة المناهضة في هذه الحالة ولو قام بإحصاء دقيق لذلك فلربما توصل إلى نتيجة مغايرة تماما واتضح له أن غالبية من قام بالعمل لم يحققوا من أمنياتهم شيئا.

لذلك ولربما يكون مهما التركيز على النسبة بدل الأرقام المطلقة والتي لا تعكس نسب النجاح ولذلك فعندما يدعوك شخص ما إلى القيام بعمل معين أو طقس ديني غير منصوص عليه لتنجح في مسعاك وبغيتك بحجة أن هناك من وفق في مسعاه عندما قام بتلك الأعمال تذكر أن العدد ليس مهما بل لابد من البحث عن نسب النجاح، فلربما نسب النجاح لا تزيد عن 1%. فهل ستضيع وقتك وجهدك في عمل نسب النجاح فيه لا تتجاوز الـ1%؟!

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس