رغم كون التعريف الأولي للعلمانية قد نشأ للدلالة على ما لا يتجاوز فصل الدولة عن الدين، فإن الاستخدام الفعلي للمصطلح قد تجاوز ذلك في الواقع، ووصل إلى حد أن يجتمع في مفهومه كل ما يعارض الدين ويدعو للتحرر منه والانطلاق إلى تأييد كل فرضية ونظرية علمية حديثة – فضلاً عما يسمى “حقيقة علمية”، وخصوصاً حينما يتعارض ما يحوز على وصف “العلمي” مع المفهوم من معطيات الدين والشرائع.
لا يختلف حتى المتديّنون المحافظون في قاعدة أن الدين الإسلامي يحضّ على العلم ويحثّ على التعلّم وطلب العلم. والقرآن الكريم مليء بتلك الدلالات حيث يرد في الآيات الكريمة “يعلمون” و “يعقلون” و “يتفكرون” و “فلينظروا” و “أفلا ينظرون” وغيرها. والتنزيل الحكيم قد بدأ بــ “اقرأ”. وما تقدّمَ العلمُ الحديث بين البشر إلا بعدما برع العلماء المسلمون في وضع أسسه الجوهرية بعيداً عن الخرافات والأساطير التي كان أتباع الشرائع السابقة قد انتهجوها كأساس الدين، وقائمة أسماء العلماء المسلمين تطول.
وتمخّض عن تطبيق وتطوير تلك العلوم التي أسهم المسلمون في وضع أسسها من التقدّم ما أبهر العالم، لدرجة أن انعكست الآية لينعت – فضلاً عن أتباع الأديان الأخرى – بعض المسلمين أنفسُهم دينَهم بالتخلّف والرجعيّة لكون عجلة التطوّر العلمي قد توقّف دورانُها بين المسلمين، في حال أن الغرب انطلق بتدوير عجلة العلم لديه وتجاوزَ ولا يزال كل التوقعات والمنظورات.
في أسباب توقّف دوران عجلة التطور العلمي لدى المسلمين بحثٌ طويل ومعقد لم يتمكن الباحثون التوصل إلى تحليل مقنع وخلاصة فيه يمكن الركون إليها. وأسقط ذلك بيد العاجزين فلجأوا إلى مقارنة المتغيرات، وخلصوا إلى أن ما تغيّر في العالم الغربي ونتج عنه التقدّم العلميّ إنما هو نبذ الدين – الذي كان سبب تخلّفهم – وإخراجه من الحياة اليومية للمسيحين واليهود، فخلصوا لأن ينسبوا تخلّف المسلمين لتعلقهم بدينهم – “الدين أفيون الشعوب”، ومنه الدعوة للحداثة والتطور خارج أطر الدين. ومن المؤسف أن يغيب عن أذهان أولئك الباحثين – ومن ركن إلى تلك الخلاصة – أنّ تديّن ذلك المجتمع انطوى على الخرافات والأساطير التي حجبت العلم، بينما على العكس من ذلك نتج عن تديّن المسلمين توصّلهم لتلك الإنجازات العلمية الجوهرية، التي لولا تسرّبها من المناطق التي وصلها المسلمون في أوروبا إلى وسط القارّة لما أتيحت لهم تلك الموارد المستفيضة في كافة أبواب العلوم التي أثمرت تقدّم الغرب. وثمّة حكايات عن سرقات علمية وتزوير لا نحب أن نتطرّق إليه في هذا الموقف.
ومن صميم مناقشتنا هنا أن دين الله الذي تديّنّا به وشريعته السمحاء التي نجتهد في ترجمتها في مسلك حيواتنا، إنما هي لكل شأن من شؤون الحياة – عقيدةً وعبادةً ومعرفةً وعلماً وعملاً وتعاملاً، ولكل زمان ومكان. قد نتعب في تطبيق بعض مقتضياتها ونؤجر عليه، وقد نزلّ في فهمٍ من فهومها فيصحّحه اجتهاد من يلينا، حيث يثمر اجتهاد المسلم في فهم دينه تصحيحاً لما قد يكون أسيء فهمه في السابق من النصوص والتراث، إلا أن دين الله وما شرعه للناس لا يصل إلى موقع استفهامٍ لصلاحيته مهما كان. وإلا أصبنا بالخزي والخسران.
قد يضلّ البعض عن أن محورية وجودنا في الدار الدنيا هو بناء آخرتنا ونوال رضى المولى خالقنا، والشريعة قد ضمّت ما يضيء لنا دروب الحياة في هذه المرحلة الدنيوية ويمكّنُنا من قضاء ما كتب لنا من الأجل في طاعةٍ وكرامةٍ دون الإخلال ببناء آخرتنا. وعلينا الاجتهاد بما آتانا الله من الهداية والمنح والنعم للنجاة في مواقع الابتلاء، حيث أن تعدّد الخيارات هو من سنن هذه المرحلة، فيهتدي السعداء بالطاعة ويحوزون الرضى والأجر، ويضلّ الأشقياء “بالأبلسة” وترجيح الهوى على طاعة المولى ويخسرون الدنيا والآخرة. ولا شك أن الإيمان بالآخرة والسعي لها هو محور الابتلاء.
وأتجاسر بطرح فهمٍ في بعض آيات الذكر الحكيم، حيث روى لنا الله عز وجل مجريات الحوار بينه عز وجل وبين إبليس حول السجود لآدم. لا أظن أن “علميّة” حجة إبليس كانت محلّ نقاش. فقد احتج الملعون بكونه خلق من النار حين أن آدم قد خُلق من الطين، والنار أرقى من الطين، فكيف يكون سجود الأرقى للأدنى – إبليس لآدم…؟! فاحجتاج إبليس بحجّية اطلاعه على ذلك العلم أولد عنده الاستكبار فكفر وأبى السجود، وبذلك استحق الإبعاد واللعنة وأن تملأ به وبمن يتبعه جهنم.
وخلاصةً، فإن العلمانية كما أفهمها هي استبدالٌ لجزء من التنزيل الحكيم بما تتمخض عنه مساعي أبحاث علماء الدنيا، رغم تعارضه مع الذكر الحكيم، فيما يسمى بــ”نظريات وحقائق علمية” وما شابه. ويجوز في نظري أن يكون الفهم الحاصل لدينا من تراثنا ونصوصنا قد أخفق في تفصيل من تفاصيله أو جزئية من جزئياته أو حيثية من حيثياته، وذلك ما قد يكشف عنه اجتهادنا في استقراء ما لدينا دون كلل. ولكن لو رسِي قرار المرء على قبول ما يتعارض مع الدين والشريعة استغناءً عن بعضه، فتلك هي العلمانية المتمثلة في ترجيح “العلم” على “الدين”، كان ذلك في أيٍّ من أمور الناس.
والله أعلم…