Image Not Found

اقتصاد الخدمات المستقلة

عباس آل حميد

العمانيون الباحثون عن عمل هم أمل الاقتصاد الوطني، فهم القوة الضاربة التي نستطيع بها الدخول بقوة في اقتصاد الخدمات المستقلة العالمي (Gigeconomy)، والذي هو ركن أساس في اقتصاد المعرفة المعولم.

الرائع في الأمر هو أنَّ معظم التغيُّرات الاقتصادية والسياسية والتقنية الحاصلة مؤخرا، والمسببة لكل التقلبات الاقتصادية العالمية، إنما تَصُبّ في صالحنا الوطني في السلطنة، وتوجد لنا العديد من الفرص العظيمة النادرة للنهوض باقتصادنا الوطني مستقلا عن النفط؛ وذلك عبر الانتقال الناجح لاقتصاد المعرفة المعولم.

من أهم هذه التغيرات والتوجهات الجديدة التي تصب في صالحنا هو ظهور والتنامي المذهل لاقتصاد الخدمات المستقلة.
وفقًا لدراسة أجرتها منصة أب ورك في عام 2018م؛ فإن 56.7 مليون أميركي (35٪ من القوة العاملة في الولايات المتحدة) يعملون لحسابهم الخاص، ويعملون بمعدل مليار ساعة عمل حرّ في الأسبوع.

وفي هذا السياق تذكر ماكينزي أنه: “مع استمرار نمو الاقتصاد القائم على الخدمات عند الطلب، فمن المؤكد أننا سنشهد تزايدا سريعا لهذه النسبة، حيث يتوقع أن يهيمن هذا الاقتصاد على المشهد الاقتصادي العالمي”.

إن اقتصاد الخدمات المستقلة هو بيئة اقتصادية رقمية إلكترونية تعتمد على المهام المؤقتة، حيث يتعاقد فيه أصحاب الأعمال مع مستأجرين مستقلين في تعاقدات قصيرة المدى، عبر المنصات الرقمية، مثل منصة أب ورك وغيرها.
وبذلك يمثل اقتصاد الخدمات المستقلة فرصة عظيمة للأفراد للاختيار بين الوظائف والمشاريع المؤقتة في جميع أنحاء العالم، في مقابل عوائد مالية مجزية.

ليس ذلك وحسب، وإنما يستطيع العماني الباحث عن عمل (وأي فرد عموما) من خلال استمرارية تعامله في منصة عمل ما، تكوين سجل تاريخي جيد لأدائه عبر المنصة الرقمية، يمكّنه من إنشاء وكالة أعمال خاصة به لتقديم خدماته على مستوى العالم. وبذلك يشكل اقتصاد الخدمات المستقلة تهديدًا حقيقيا كبيرًا لمؤسسات الأعمال لا سيما التقليدية منها، حيث إنه يخلق من الأفراد من دون حاجة منهم لأية مصروفات رأسمالية أو تشغيلية عددا هائلا من المنافسين الأكثر كفاءة، والأشد مرونة، والأقل سعرا، وكلفة.

وبذلك يكون العمانيون الباحثون عن عمل وعموم القوة العاملة العمانية أمل الاقتصاد الوطني للنهوض من أزمته الحادة، فهم من خلال عملهم في اقتصاد الخدمات المستقلة العالمي يمكن أن يعودوا على البلد بعشرات البلايين من الدولارات سنويا بشكل مباشر، ولأن هذه الدخول تتوزع بشكل مباشر في أيدي الناس العاديين، فإنها تتحول إلى قوة شرائية واستثمارية ضخمة في البلد، وتتميز بأنها ذات أثر مضاعف ومعجل كبير، مما يتضاعف معه إجمالي العائد
المباشر للبلد إلى مئات البلايين من الدولارات سنويا.

غير أنَّ نقطة الضعف الرئيسية التي تعوقنا عن الاستفادة من هذه الفرص العظيمة تتمثَّل في ضعف القوة العاملة العمانية، وهو ما يمكن التغلُّب عليها بتكلفة محدودة، وجهد معقول، بمشاركة من القطاعين الحكومي والخاص وفق خطة مدروسة يتم تنفيذها باحترافية بالغة.

إن ما نحتاج إليه للانتقال الناجح إلى اقتصاد المعرفة المعولم، ومعالجة مشكلة الباحثين عن عملٍ بصورة جذرية، هو تطوير القوة العاملة العمانية بشكل احترافي (وليس أكاديميًّا) في المهن ذات الطلب الأكبر والأجور الأكثر عالميًّا، والمهن الأكثر انتشارًا، وذات الأهمية الاستراتيجية في مؤسَّسات القطاعين العام والخاص، وتمكينهم من الدخول في اقتصاد الخدمات المستقلة، والتعامل مع الفضاء الافتراضي، عملا وتدربا.

ويُشكل هذا الأمر العمود الفقري لنجاح جميع السياسات والإجراءات الأخرى التي تتَّخذها الدولة للنهوض بالاقتصاد الوطني، وتحقيق الرؤية الوطنية للبلد. إننا لا نقصد بتطوير القوة العاملة العمانية قيام الحكومة بتدريب مئات الألوف من الموظفين والباحثين عن عمل؛ لأن هذا غير مُجْدٍ في عصر اقتصاد المعرفة، لأن الأهم في عصر المعرفة ليس ما يملكه الأفراد من المهارات، وإنما ما يقدرون على اكتسابه من مهارات وقدرات، لأن الاقتصاد وما يتطلَّبه من قُدُرات ومهارات آخِذا في التغيير بشكل مستمِرّ ومتسارِع. ناهيك عن الصعوبات التشغيلية والإدارية بالغة التعقيد، فضلا عن التكاليف الهائلة اللازمة للقيام بتدريب مئات الألوف من الأفراد.

لحُسْن الحظ أن الفضاء الافتراضي يُوفِّر بشكل مستمر أحدث وأفضل البرامج التدريبية والتطويرية اللازمة للقيام بجميع الوظائف المطلوبة بتكاليف زهيدة جدا، من خلال المنصات التدريبية الإلكترونية. ولهذا يمكننا القيام بتطوير مواردنا البشرية بتكاليف وجهود إدارية وتشغيلية قليلة جدًّا، ولكن بفاعلية كبيرة، وبديمومة، وذلك بالاستفادة من التسهيلات التي يُتِيحها هذا العصر (والتي لم تكن مُتوفِّرة حتى قبل عِدَّة سنوات من الآن).

إنَّ كل ما نحتاجه للقيام بهذا الأمر بشكل مستديم على المستوى الوطني الشامل هو العمل على ثلاثة محاور استراتيجية؛ وهي خلق وترسيخ ثقافة الاحتراف والتطور المهني، وتكوين الحافز والدافعية في المجتمع، وأخيرًا فتح قنوات التطور والعمل المهني أمام الباحثين عن عمل، وعموم القوة العاملة العمانية، لتمكينهم من دخول اقتصاد الخدمات المستقلة العالمي، والنجاح فيه. حسب تقديرنا فإن تكلفة هذا الأمر لا تزيد عن بضعة ملايين من الريالات سنويا.

لمعرفة التفاصيل والخطوات العملية المطلوبة لتحقيق هذه الاستراتيجية يمكن الرجوع إلى الدراسة الاستراتيجية المفصلة التي أعدتها شركتنا مزارز في هذا الصدد، والتي سيتم إصدارها قريبا، وعرضها مجانا للمنفعة العامة في موقعنا www.mazars.om.

من جهة أخرى، وباعتباري كنت واحدا من أولئك الباحثين عن عمل لسنوات طويلة، قبل أن أعرف كيفية اكتساب الرزق في الفضاء الافتراضي، أوجه كلامي بكل تواضع وصدق وإخلاص ليس للعمانيين الباحثين عن عمل وحسب، وإنما لجميع مخرجات الجامعات والكليات والمعاهد المختلفة في مختلف مناطق ومحافظات السلطنة، الذين توقفوا عن البحث عن عمل يأسا، وأقول لهم إن تغيير مصيركم هو بأيديكم أنتم، ولا أحد في الكون كله يستطيع مساعدتكم كما تستطيعون أنتم ذلك.

أنتم تكافحون وتبذلون، وكل ما هو مطلوب منكم أن تصبّوا هذا الجهد الذي تبذلونه فعلا في الدخول في اقتصاد الخدمات المستقلة العالمي، والعمل فيه، فإن عوائده المالية مجزية، والعمل فيه ممتع، وجميل وحر، من دون أن تتحملوا مشقة مغادرة محافظاتكم ومناطقكم التي ترعرعتم فيها، أو حتى مغادرة منازلكم، كما يمكنكم العمل فيه لعدد الساعات والأيام والأوقات التي يحددها كل منكم لنفسه.

ربما يكون بداية دخولكم في اقتصاد الخدمات المستقلة العالمي أمرا مرهقا وشاقا نوعا ما، إلى أن تتعودوا، ومن ثم تبدؤوا بالإدمان عليه، ولكن لا شك في أن هذه المشقة هي أقل بكثير جدا ولا تقارن بالمشقة التي أنتم تعانونها فعلا. وعلى كل حال فالتعود على أي شيء يكون صعبا في البداية، كما كان الحال تماما لدى تعلمكم قيادة السيارة مثلا.

لمن يقرر منكم الضرب بمعوله لكسب قوته من الفضاء الافتراضي، فإن عليه اتباع الخطوات التالية:
1)ـ سجل نفسك في إحدى منصات العمل الرقمية العالمية (ليس العربية أو الإقليمية)، كعامل حر. شخصيا أنصح البدء بمنصة www.upwork.com. إذا كنت لا تجيد اللغة الإنجليزية بتاتا يمكنك التسجيل في إحدى المنصات العربية، والتي لها سوقها أيضا، مثل https://om.mostaql.com.

2) ـ ابحث في المنصة عن الخدمات التي تستطيع تقديمها من خلال المنصة كعامل حر، وينسجم مع قدراتك. اعلم أن هذه المنصات تتضمن أعمالا من مختلف الخدمات ومن مختلف القطاعات وبمختلف المستويات، من أقلها درجة إلى أعلاها درجة. وعليه فحتى لو لم تكن صاحب اختصاص البتة، وكنت خريج ثانوية عامة أو ما شابه، لا يزال بإمكانك تسجيل نفسك في المنصة والبحث فيها عما يناسبك من خدمات تستطيع تقديمها.

3) ـ أكمل ملفك الشخصي والمهني في المنصة. تذكر أن سلاحك الأول في استقطاب الأعمال الجيدة هو جاذبية ملفك المهني، بالمقارنة مع سعرك للساعة.

4) ـ ابحث في منصات التعليم الإلكتروني المختلفة مثل www.udamy.com أو www.coursera.org عن برنامج تدريبي يطور قدراتك المهنية في المجال الذي قررت أن تقدم خدماتك فيه. في العادة هذه البرامج تؤهلك بشكل ممتاز لتقديم خدماتك (وفق المستوى المهني الذي يناسبك) في فترة بسيطة جدا، لا تتجاوز الشهر في كثير من الأحيان، ولا تتجاور تكلفتها بضع عشرات من الريالات العمانية. إذا كنت لا تملك هذا المال فلا بأس ابحث لك عن منصات أو برامج بديلة مناسبة، ومن المحتمل أن تجد البرنامج الذي تحتاجه حتى بأقل من 4 ريالات عمانية. وإذا كنت لا تملك حتى هذه، فعليك البحث في اليوتيوب، أو جوجل، ومن المتوقع جدا أن تجد برامج مجانية، وإن لم تكن بنفس الجودة.إذا كنت لا تجيد اللغة الإنجليزية فابحث عن برامج عربية لمهارات وخدمات تعجبك، ويمكنك تقديم خدماتك فيها في الفضاء الافتراضي. من بين المواقع التي تعرض برامج تدريب احترافية باللغة العربية جامعة حمدان بن محمد الذكية.

5) ـ خلال فترة قيامك بالتدرب وتطوير مهاراتك في المجال الذي تسعى تقديم خدماتك فيه (ولنقل شهرا واحدا مثلا)، قم بالتعود على المنصة التي سجلت فيها نفسك، وأبحث فيها عن ملفات العاملين في نفس مجالك ومستواك (المنافسين لك)، وبناءً على ذلك حدد سعرك للساعة.

6) ـ توكل على الله، وابدأ بتقديم خدماتك، ولكن بسعر خصم جيد عن سعر الساعة الذي كنت حددته لنفسك، وذلك حتى تجذب العملاء إليك، واحرص على التواصل اللطيف السريع والمرن معهم، وعلى رضاهم واحرص أيضا على التميز في تقديم خدماتك، لأن إيراداتك مرتبطة بكل هذا بشكل مباشر.

7) ـ بمرور الوقت، وتقديمك لعدد أكبر من ساعات العمل على المنصة الإلكترونية، سيتزايد الطلب على خدماتك بشكل  متسارع، وبالتالي ستكونقادرا على رفع سعرك للساعة، ولاحقا بإنشاء وكالتك الخاصة بك.

لمزيد من الوضوح عن كيفية التعامل مع اقتصاد الخدمات المستقلة العالمي والاستفادة منه سواء كنتم أفرادا أو مؤسسات صغيرة، يمكنكم الاستعانةبالفيديوهات التي سأقوم بنشرها لهذا الغرض على موقعي الإلكتروني الشخصي www.alhumaid.org.