Image Not Found

هموم على طاولة “كأس العالم”

Visits: 9

مصطفى بن محسن اللواتي – الرؤية

مع دخول كأس العالم لمراحله النهائية، يستحضر الذهن متعة هذه اللعبة، وجمالية فنونها، وروعة التكتيكات التي يبدع فيها كل مدرب ولاعبوه، ومستوى التنافس الكبير الذي تشهده ملاعب تم تشييدها بأفضل التقنيات التي عرفتها البشرية.

لعبة بفضل جماليتها، ثم بفضل تسويقها وترويجها، وبفضل إبراز نجومها بشكل ملفت، استطاعت الولوج للقلوب، واكتساح النفوس، لتصبح الرياضة الأولى عالميا بلا منازع، ولتشكل المتعة الأهم، والمتنفس الأجمل، والملاذ الأحسن لجماهير لا تعد ولا تحصى، وعلى مدى أكثر من قرن من الزمن.

هذه الكرة التي أصابت ملايين الجماهير حول العالم بالجنون الكروي، فتسابقوا لحضور هذا العرس العالمي الكبير، رغم ما يكلفهم ذلك من جهد ووقت ومال كثير، ضاربين عرض الحائط بقاعدة “من استطاع إليه سبيلا”.

وتبرز خلال هذا المهرجان الكبير، الكثير من التقليعات الغريبة التي لا تنفك عن اللعبة، ولها متعتها الخاصة في خلق أجواء أكثر متعة، وإضفاء سعادة أكثر إبهارا.

ولا ننسى ما يرافقها أيضا من “تحوّل” الجميع بلا استثناء إلى “محللين” رياضيين، كل يدلي بدلوه، ويحاول تصحيح مسارات المدرب والطاقم الفني للمنتخبات، في عملية “إشغال” نفسي عقلي مستمر، وعملية “تعطيل” لكل الأمور الحياتية الأخرى.

يذكروننا بذلك حينما يصاب أحدنا بأنفلونزا، وإذا بجميع من حولنا يتحولون لأطباء كل يصف دواء من تجربته الخاصة أو ينهاك عن أمور سمعها هنا وهناك.

قطر في نسختها الخاصة بها لكأس العالم أثبتت قدرات هائلة في تنظيم المسابقة، ولا أحد يستطيع أن ينكر الجهود الضخمة التي بذلت، والمليارات التي صرفت، والسنوات التي تم العمل خلالها، لتخرج هذه التظاهرة العالمية بهذا النجاح الكبير والذي شهد له القاصي والداني.

قطر وخلال كأس العالم أسست لبنية تحتية للبلاد لستين سنة قادمة، وقفزت بالبلد في نمو وتطور هائل كبير.

ومن الجميل جدا أن يزور الواحد هذا البلد خلال هذه الأيام ما دام الصرف في حدود المعقول والإمكانيات، ليشاهد تلك الأجواء الجميلة والممتعة، حيث مئات الآلاف من مختلف الجنسيات بين محتفِل ومستمتع، تتلاقى الأجناس والشعوب والقبائل في موقع واحد صغير، لأنها فرصة عمر لا تأتي إلا نادرا، ومن الجميل أن لا يفوتها الشخص.

ولكن..

وإلى جانب كل هذه المتعة، وكل تلك الاستعدادات، وكل الفنون الجمالية التي تابعتها عيون وقلوب الملايين..

إلى جانب كل هذا تستحضر الذاكرة، وأيضا تشاهد العين في الواقع الحالي الذي نعايشه، كثيرا من القضايا والحوادث مما هي بعيدة عن لعبة كرة قدم بما هي لعبة.

منافسات كرة القدم، بل وكل المهرجانات والاحتفاليات الضخمة، -وكأس العالم على رأسها- أصبحت توّظف لكثير من الأغراض الخارجة عن هدفها الأساسي، وعن برنامجها الذي تم تأسيسها له.

ومسابقة كأس العالم تم توظيفها اقتصاديا وتجاريا بشكل بشع جدا، ففي كل مسابقة تصرف المليارات في التنظيم، من بناء ملاعب، وشوارع، وبنى تحتية مما هي فوق حاجة البلد المستضيف، وعلى الإبهار من خلال أحدث التقنيات الإلكترونية.

ناهيك عما تصرفه البلدان المشاركة على فرقها وتدريبها، وعلى الإعلانات وحقوق البث والتذاكر والطيران والفنادق وكثير مما يصرفه متوسطو الدخل وضعيفوه، ليدخل جيوب الأثرياء والحكومات الإمبريالية التي تنهب الفقراء وشعوب العالم التي تسميها تارة بالعالم الثالث وأخرى بالنامية، بعد أن رأوا -عن غير قناعة- أن لفظ الدول المتخلفة أصبح لا يناسب لغة العصر.

كل هذا في الوقت الذي تلتقي فيه نفس الدول تحت قبة الأمم المتحدة لتتحدث عن المجاعة والجفاف والفقر ولا تستطيع إيجاد حلول لها.

وأصبح الإعلان واحدا من أبرز أصدقاء ومرافقي كأس العالم، وأصبح الترويج لسلع معظمها تافهة ومضرة أمرا مطلوبا ومهما لجلب المال، ويتم التغاضي والتناسي عما يمكن أن تسببه تلك المنتجات من أضرار صحية وبيئية ضخمة في المستقبل، بل ويمكن أن تؤثر على جيوب الضعفاء وإمكانياتهم نتيجة التأثير الذهني والعاطفي لهذه الإعلانات الضخمة والتي تترسخ في ذاكرة أجيال بكاملها.

وطوال عقود من الزمن شاهدنا إعلانات الخمور والسجائر والمشروبات الغازية والحلويات والأطعمة السريعة من الشركات التي كسبت المليارات من جيوب شعوب مضّها الجوع، وتعيش تحت خطوط الفقر التي رسمها نفس أولئك الإمبرياليون.

ولم تفارق السياسة كأس العالم؛ بل وفي كل مسابقة تزداد الرسائل السياسية كمًّا وكيفًا، فالساحة الكروية لكأس العالم أصبحت ساحة غربية بامتياز، يستطيع الغرب بسياساته أن “يفصل” من مسابقة كأس العالم من يشاء بحجج مخالفة حقوق الإنسان، وبحجج جرائم الحرب، وأية حجة يراها تناسب سياساته، وظلت السياسة تتحكم حتى في اختيار الدولة المستضيفة، بل وحتى في رئيس الفيفا وأعضائه.

السياسة أبرز عنوان بات يصبغ مثل هذه المهرجانات والفعاليات، بعيدا عن كل المثاليات التي يتم التغني بها في مثل هذه المسابقات.

وفُصلت القضية الفلسطينية عن السياسة لا لأنها ليست منها؛ بل لاهميتها داخل قلب وضمير الأمة العربية والإسلامية، ولأهميتها الخاصة في توضيح صورة المستضعفين (الفلسطينيين) والظالمين (الصهاينة).

الرياضة العربية والإسلامية غير الرسمية لم تتنازل يومًا عن هذه القضية المحورية التي تشغل العالم كله، فالشعوب العربية التي لا تمتلك مساحات حرية داخل مؤسساتها الأكاديمية، ولا في أروقة إعلامها، ولا في أزقتها وشوارعها، تبنت المهرجانات العامة لتعبر عن حبها لفلسطين، ولقضية فلسطين.

وكانت ملاعب كرة القدم أفضل متنفس لهذه الشعوب، بل إن بعض الأندية الرياضية العربية من خلال فرقها ذهبت أبعد من ذلك، وانتجت أغانٍ لفلسطين تغنت بها جماهيرها في ملاعبها، فالترجي التونسي والاتحاد الليبي أنتج كلاهما أغنية بعنوان “فلسطين”، فيما نادي الرجاء البيضاوي المغربي أنتج أغنية “رجاوي فلسطيني”، ونادي الزمالك المصري أغنية “فلسطين أرض عربية” والنجم الساحلي التونسي أغنية “النصرة لفلسطين”، والوحدات الأردني أغنية “عرب على ورق” والأخضر الليبي أغنية “بلادي فلسطين” وهكذا.

وكان علم فلسطين و”كوفيتها”حاضرين باستمرار في كل مسابقات كأس العالم، رغم المنع عدة مرات.

وظهرت فلسطين جليا في كأس العالم الحالية بقطر، بل تبارت الجماهيرية الإسلامية في الاستخفاف والسخرية من مراسلي القنوات الصهيونية الذين قدموا من الكيان الغاصب للترويج للتطبيع.

وللأسف من الملاحظات المؤلمة التي شاهدناها في هذا الكأس هو أن قطر أصبحت ثالث دولة خليجية تفتح خطوط طيران مباشرة بين مطار بن غوريون والدوحة، وأصبحت بذلك تستقبل أكثر من 15 ألف مشجع صهيوني، ورغم أن نقل هؤلاء للدوحة سيتم من خلال شركة طيران قبرصية، إلا أن هذه الشركة في جزء منها مملوكة لشركة سياحة إسرائيلية.

ورغم أن قناة الجزيرة استضافت الصهاينة على شاشاتها طوال عقود، إلا أن الجديد أن مراسلين من الكيان الغاصب متواجدين في الدوحة من خلال أستوديو تم افتتاحه هناك خصيصًا لهما. وأيضا ومن خلال مكتب سياحي خاص يعمل فيه 11 دبلوماسيا وقنصليا صهيونيا لمتابعة شؤون المشجعين الصهاينة.

وللتذكير فقط، ان الذاكرة والذهنية العربية والاسلامية خلال عقود ماضية من الزمن كانت ترى ان المنافسة مع رياضيّ دولة الكيان الغاصب هو نوع من التطبيع المباشر، وكان خطًّا أحمر وقتها.

في عام 1958 فازت دولة الكيان الغاصب بتصفيات آسيا وأفريقيا دون أن تلعب مباراة واحدة، نتيجة مقاطعة الدول كلها، وفي عام 1974 تم طرد هذا الكيان من الاتحاد الآسيوي بقرار من الكويت تبناه الاتحاد الآسيوي، مما حدا باتحاد اتحادات أوروبا للالتفاف على الحظر وقبول هذا الكيان كعضو منتسب ثم لاحقاً كعضو كامل العضوية فيه بعد سنتين.

حركة المقاطعة هذه دعت الفيفا إلى تقسيم الفرق المتأهلة إلى أربع مجموعات جغرافية راعت فيها الاعتبارات السياسية كي لا يتم مقاطعة هذا الكيان.

ولا زالت ذاكرة الطفولة عندي تختزل مباراة البرازيل وإيطاليا والتي قاطعتها كل القنوات العربية والإسلامية ولم تعرضها لأن الحكم فيها كان من الكيان الغاصب.

كرة القدم بكل فنياتها وتقنياتها، وإعلامها القوي الذي يخلق في الجماهير حماس التشجيع لأشهر سابقة وأخرى لاحقة.

اللعبة الساحرة كما يسمونها استطاعت العبور إلى القلوب، واستطاعت جذب العقول، وكل هذا لا بأس به في الحدود المعقولة، ولكن ما حدث أن الغرام تجاوز الكرة إلى اللاعبين، وإلى الدول نفسها.

فمارادونا- مثلًا- مدمن مخدرات، لكنه أصبح محبوبًا، وتم التجاوز عن كل سيرته السيئة، لمجرد أنه فنان ومبدع في الكرة.

استطاعت هذه اللعبة “تذويب” قيم وأخلاقيات تؤمن بها وتقرها شعوب وأديان وأعراف وعادات على مرّ التاريخ.

وما مارادونا إلا مجرد مثال واحد صغير، وإلا فإن الجماهير أصبحت تحب وتدافع عن دول استعمارية لا زالت تنهب وتحتل وتفتك وتعمل المجازر لتنهب ثرواتها، وكل هذا بحجة أن الرياضة لا علاقة لها بالسياسة ولا بد من فصلها عنها.

“علمانية” من نوع آخر، “وميكيافيلية” من نفس الجنس، في حين أن تلك الدول المجرمة بنفسها تستغل هذا الحدث الرياضي “لتنظيف” سيرتها، وجعلها ناصعة البياض، وفعلا وللأسف تنجح في ذلك.

ولطالما ظل شعار “الروح الرياضية” تتغنى به ملاعب الكرة، بل ويتبارى في ترديده لاعبو الحواري، وطلبة المدارس. ورغم جمالية الشعار، وما يمكن أن يخلقه من روح أخلاقية عالية تتجاوز كل “النرفزات” وحالات الانفعال والغضب، إلا أن ملاعب الكرة وفي عمومها تقول غير ذلك، وما زال اللاعبون يمارسون أبشع أنواع إيذاء الخصم، ثم يدّعون -والكاميرات تفضحهم- أنهم الضحايا!

ولا زال الكذب والتمثيل يسيطران على سلوك معظم اللاعبين.

اما الجماهير فحدّث ولا حرج، فالخسارة تفقد الجمهور توازنه، فتصدر منه سلوكيات أقل ما يقال عنها أنها لا تليق بالإنسان كإنسان، ولا زالت ملاعب الكرة، وشوارع دول عديدة تشهد على حالات شغب يموت فيها أناس، ويصاب آخرون، ويسجن كثيرون.

مضافا لكل هذا، لا زال تاريخ كأس العالم يحدثنا -والصحافة العالمية كتبت عنها- عن أساليب مارستها المنتخبات الغربية لإخراج منتخبات عربية وآسيوية وأفريقية، ولتمنع صعودها للأدوار التالية، أو لتمنع خروج مثيلاتها.

في عام 1982 شهد الجميع المؤامرة الإلمانية النمساوية على الجزائر على ملعب خيخون بإسبانيا والذي منع الجزائر من التأهل وحلّت ألمانيا محلها.

أيضا عام 1998 وفي آخر 8 دقائق من مباراة النرويج والبرازيل، سجلت النرويج هدفين أحدهما من ركلة جزاء وصفت بـ”الظالمة”، وأكدت تقارير أن البرازيل تساهلت في المباراة، لتحرم المغرب من الصعود للدور الثاني.

ومثل هذه المؤامرات شهدتها مختلف البطولات الكروية ولن تتوقف لأنها تنم عن “روح رياضية” فيها كثير من الادعاء.

وبرزت قضية الشذوذ والمثلية بشكل ملفت خلال مسابقة هذا العام، وكان واضحًا جدًا التركيز الغربي عليها لدرجة كبيرة وعالية، خصوصا مع خروج قطر بقرار منع رفع شعارات المثليين داخل الملاعب وفي الأماكن العامة. ما يُستغرب منه حقا هو هذا الضغط الغربي في هذه القضية، وتلك المحاولات المستميتة لإبراز الشذوذ وكأنه أمر طبيعي.

هذا الغرب الذي يتغنى بالحريات في الممارسة، وبالحريات الدينية، بقدرة قادر، ومن خلال نفس الشعارات أصبح ينادي بأن حرية المعتقَد تتوقف أمام الشواذ، والشأن الداخلي للأوطان يتم تجميده أمام المثليين، وكل تلك الشعارات “بِلَّها واشرب ميّتها” ما دمت تتحدث عن أناس خرجوا عن الطبيعة البشرية والإنسانية التي خُلقوا عليها.

وما مواقف بعض الدول الغربية العنيفة والتي مارستها تجاه قطر وتجاه رئيس الفيفا لدرجة إبلاغه أنه لن يكون رئيسا للدورة القادمة إلا مؤشر لانزلاق خطير لما يدّعون أنها رياضة.

وأخيرًا.. ورغم كل هذا، إلا أن كرة القدم ستظل ولعقود طويلة قادمة، جاذبة للملايين، وسيظل تأثيرها وتأثير ما يرافقها من إعلام ترويجي تسويقي لرسائل قيمية وأخلاقية وسياسية وتجارية كبيرا ومستمرا على النطاق الذهني والعقلي والعاطفي.

وتعديل المسار لن يكون ممكنا في ظل الضعف والخَوَر الذي تعيشه دولنا وشعوبنا الإسلامية والتي تحولت وللأسف لشعوب مستهلِكة متهالكة، وشعوب لا تمتلك إرادتها ولا تعرف مواطن قوتها، شعوب فقدت وعيها وإدراكها أمام إعلام شرس لعب طوال قرن على إعادة تشكيل الوعي، وعلى تغيير المفاهيم والقيم لتتناسب مع القيم الغربية المتفسخة، وأخيرا على تخدير العقل ليكون تابعا لا قائدا.

نحن أمام تحديات ضخمة قادمة، وقد تكون المعركة القادمة أشرس بكثير من سابقتها، ولا شك أنها ستكون أسرع ولن تحتاج لكل هذه السنوات الزمنية الطويلة.