مرَّ في المقالة السابقة بعنوان “اثنان أم واحد؟” أن ثمَّة رؤية فلسفية ظهرت من (خارج الصندوق) تُعرف بـ”الحكمة المُتعالية”، يصفها الشلبي بقوله: “ثورة فلسفية عميقة، قلبت القاعدة الماهوية المتمكنة بعمق في التراث الفلسفي السابق مُحدثة بذلك تغييرًا في العديد من المخاضات الفلسفية”. (انظر: الشلبي، كمال عبدالكريم: أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي إلى مركزية الفكر الوجودي ص 14).
وأحد تلكم المخاضات: “علاقة الروح بالجسد”؛ فالروح بحسب الرؤية الفلسفية الكلاسيكية كانت تسكن الأعالي، ثم وبقدرة قادر، نزلت من عليائها مُتخذة البدن سكناً مؤقتاً لها، كالطير الذي وقع في القفص، ولا خلاص له من سجنه إلا بذبول وفناء هذا الجسد فيتحرر ويعود مجددا إلى عليائه.
كائنان غريبان عن بعضهما، لا تربطهما صلة، فأين الكائن الروحاني من الكائن الترابي، وفجأة وعن غير ميعاد مسبق، التقيا في عربة من عربات الزمن، وسيترجل الروح حالما تصل العربة محطة الموت، ليعود إلى عليائه، بينما يعود البدن إلى التراب كما كان من قبل.
مرة أخرى تبرز “الثنائية” لدى التفكير الفلسفي الكلاسيكي في تصوره لعلاقة “الروح بالجسد”، وبذلك تظل الأسئلة المتعلقة بعلاقة هاتين الكينونتين الأجنبيتين عن بعضهما بلا أجوبة حاسمة.
يكتب بدوي فيقول: “لقد قرر ديكارت في التأمل السادس من تأملاته وجود النفس في الجسم ليس كوجود الربان في السفينة، وإلا لما تألمت النفس كلما اختل في الجسم شيء، كما أن الملاح لا يتألم إذا أصيب جزء من السفينة بعطب. إذن كيف يفسر ديكارت العلاقة بين الجسم والنفس؟ الواقع أنه في إجابته على تساؤلات الأميرة “أليصابت” يتحير ولا يقدم تفسيرا مقنعا لهذه المسألة”. (انظر: عبد الرحمن بدوي: موسوعة الفلسفة ج1ص497).
يشير بدوي إلى الأسئلة التي بعثت بها الملكة “أليصابت” إلى ديكارت تستوضحه حول علاقة المجرد بالمادي كيف تتم على الرغم من التميز التام بين البدن وبين النفس؟ كيف تُحرك الإرادة المادة؟ كيف يحدث في النفس ألم لوقوع خلل في البدن؟
إنها “الثنائية” مرة أخرى، والتي ظل الإرث الفلسفي يرزح تحت ثقلها، حالت دون إعادة التفكير في الموضوع برمته.
بذات المنظار الذي أجرى به الشيرازي عملية استئصال تلك “الثنائية” في ميدان علاقة الحركة بالمتحرك، وتحديدا منظار “أصالة الوجود” الذي يصفه كوربان بقوله: “فتيل ثورة أذكاها الشيرازي في سرديات الفلسفة الإسلامية” (انظر: مقدمة كوربان على كتاب المشاعر ص 13) أجرى عملية استئصال ناجحة للغاية، لهذه الثنائية في هذا المخاض أيضًا.
الخطوة الأولى بعد ثبوت “أصالة الوجود” كانت: إزالة الثنائية والفواصل الوجودية بين أبعاد الوجود الواحد، وهذا يجعلنا “أمام فهم متصل للوجود لا ثغرات فيه” (انظر: الشلبي، كمال عبد الكريم: أصالة الوجود عند الشيرازي من مركزية الفكر الماهوي إلى مركزية الفكر الوجودي. ص161، مصدر سابق).
“في ظل هذا المنهج، يتم تفسير حقيقة الوجود بصورة مُتميزة، بحيث تُحفظ وحدته رغم تمتعه بالكثرات من قبيل الشدة والضعف، والزيادة والقلة، والعلو والدنو، فتشبه من هذه الجهة حقيقة الضوء. وكما أن الظاهرة الطبيعية تنمو وتظفر بالتكامل من دون أن تفقد هويتها الخارجية، فكذا حقيقة الوجود فهي واحد خارجي شخصي يمكن أن ينتشر في جميع مراحله المختلفة، ويتمتع بألوان الكثرة، كالسبق واللحوق والشدة والضعف، من دون أن تلحق هذه الكثرات- وإن كانت غير متناهية- أي ضرر بوحدته وهويته الشخصية الخارجية”. (انظر: اليزدي، مهدي الحائري: هرم الوجود دراسة تحليلية لمبادئ علم الوجود المقارن. ص7. ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني).
بعد ذلك نخطو الخطوة التالية بطرح التساؤل التالي وفق زوال الفواصل وإزاحة الاثنَيْنِيَّة:
“لم لا يكون هذان الغريبان كائنًا واحدًا؟ بُعدان لكينونة واحدة؟”.
النتائج الثورية التي تمخضت عن ذلك نوجزها لاحقًا.