{وَكَذَ ٰلِكَ جَعَلۡنَـٰكُمۡ أُمَّةࣰ وَسَطࣰا لِّتَكُونُوا۟ شُهَدَاۤءَ عَلَى ٱلنَّاسِ وَیَكُونَ ٱلرَّسُولُ عَلَیۡكُمۡ شَهِیدࣰاۗ}[سُورَةُ البَقَرَةِ: ١٤٣]”.
هذه الأسطر المتواضعة هي محاولة لاستقراء دلالة “الوسطية” في الإسلام، ومراجعة ما تم التسالم عليه من مدلولتها. وبالطبع، ليست محاولة للدخول في علم التفسير، لعدم وجود الأهلية والمعرفة الكافية.
لا يبدو أنه ورد في القرآن الكريم ذكر “الوسطية” بغير هذا المعنى المراد في الآية الكريمة التي استهللت بها المقال. بينما وردت كلمة “وسط” في الذكر الحكيم في أربعة موارد غيره: سورة “البقرة” (والصلاة الوسطى)، سورة “المائدة” (من أوسط ما تطعمون)، سورة “القلم” (قال أوسطهم)، سورة “العاديات” (فوسطن به جمعاً).
تلك الوسطية لهي مسئولية كبيرة ملقاة على عاتق الأمة، وفيها الشهادة على الناس. وهي مزدوجة لإيصال رسالة الإسلام تطبيقياً، بينما يشهد الرسول على الأمّة.
وسطية الإسلام والأمة والشريعة لا تعنى بالتأكيد الوسطية بين الحق والباطل، أو حتى بين التشدد والتساهل. ولو كان المعنى المقصود بوسطية الموقع بين موقفين، لتَعلّقَ ثباتُها بثبات كلا الموقفين، فإن تحرك أحدهما نتج عنه تحرّك موقع تلك الوسطية، والذي سيجعل المبدأ “مرناً” متقلّباً.
وسطية الإسلام لا تقاس بما حولها، بل هو مبدأ الاستقامة وطريق الحق المنزّل من الله، القائم بذاته، الذي قد يقارن به سواه لاستشفاف المفارقة.
ومن المؤسف أن يصل اهتزاز الفهم لدى بعض المسلمين إلى إسقاط ذلك المعنى الخاطيء للوسطية على بعض أمور الدين كالمنظومة الاقتصادية والاجتماعية والقانونية. فالله عز وجل لم ينزل أسس المنظومة الاقتصادية الإسلامية بحيث تكون وسطاً بين الرأسمالية والاشتراكية، حيث لم توجد المنظومتان الوضعيتان من أساسهما، بل أن ما ينزل الله هو الحق.
كما أن ما يُطرح حول كون التشريعات الإسلامية “وسطية” بين “الإلهية والبشرية” حتى توازن بين النزعات الغريزية والروحانية في الإنسان. وللأسف الشديد، فهذا التفكير قد يوحي للباحث أن الغرائز في الإنسان كان أمراً واقعاً مفروضاً على واضع الشرائع، فاضطر لأن يجعلها “وسطية” حتى يضمن تطبيق البشر لها. وهذا ينطوي على فساد التفكير. إن الله عز وجل واضع الشرائع هو البارئ الخالق الذي ابتدع الإنسان وصوّره وخلقه وأوجد له منظومة وسنناً تتيح إكماله لما خُلق له في هذه الدنيا، وشرّع له ما يصلح حاله في الدنيا ويبني به آخرته. فليس ثمّة احتياج لوسطية الفرائض، بل فيها خيارات ومراتب ومراقي لبذل الجهد، فينال كل مجتهد نصيبه.
أما كون الدين “يُسراً”، فكله يسر حسب مرتبة المتدين والراغب في تحصيل النصيب، ولكل مجتهد نصيب. وحتى أهم الفرائض التي ورد أنها عمود الدين – الصلاة – فلا تخلو من مشقة لا يقوى عليها الكثير، خصوصاً صلاة الفجر، التي يقضيها الكثير من المؤمنين بعد وقتها. وكذلك الصيام، حيث يشتكي الكثير من المشقة في إتمامها، لحد أن يجتهد الكثير في تأويل مخارج تعفي من أدائها. وهكذا…
فخصوصاً في عصرنا الذي يشهد التقلبات الفكرية والعقدية وانهيار المبادئ، وانتشار الفلتان في الأخلاقيات الاجتماعية والدينية من جراء التقدم العلمي الحديث والتأقلم المفروض بإزالة الحدود التواصلية، فإنه يقتضي أن تكون المرتكزات الدينية واضحة وثابتة. ما يسمى “قنوات التواصل الاجتماعي” والإعلام المتطورة بمواكبة التقدم في تقنية المعلومات تخترق الحدود التي كانت لها اعتباراتها سابقاً من قبيل الحدود الموروثة والحياء ومخافة الفضيحة المجتمعية لم تعد وازعاً. بل أبعد من ذلك، حيث مراعاة أن “الله يرانا ويسمعنا وسيحاسبنا” تفقد تأثيرها في الصخب الحديث الذي يفك التعلّق الديني.
ومن ناحية أخرى، فإنه يتم طرح التماهي في الاقتراب من التوجهات المستحدثة الواردة من الخارج ومساعي الانفكاك مما يُحكم عليه أنه من عناصر الانغلاق والتخلف والرجعية، تحت عنوان “الحداثة”، بحيث ينحصر الإنسان الملتزم دينياً في موقف دفاع مستميت للتمسك بالتراث.
وهنا يمكن أن تختلط الحسابات خصوصاً لدى الجيل الجديد من الشبان والشابات، ولدى من لم يكن قد ارتوى من الثقافة الإسلامية الصحيحة كفايةً مقابل انفتاحه على الثقافات المستوردة والمتغلغلة في وسطنا، وخصوصاً من الغرب. الغرب يشهد طوفاناً من التقلبات الفكرية التي نشأت في مجتمعاته واضطرم العصر بها خصوصاً بعد نجاح الثورة الصناعية وانتشار الرخاء والترف، فتهاونت العزائم الروحية وتهالكت عرى التمسك بالمباديء الذي لا يخلو من كلفة التضحية ببعض الراحة والمال وتكبّد المشقة. والابتلاء من الله لا شك حاصل في انغماس البشر بالترف عن الدين، وبناء الدنيا على حساب الآخرة. وقد ورد في الذكر الحكيم:
{ وَإِذَاۤ أَنۡعَمۡنَا عَلَى ٱلۡإِنسَـٰنِ أَعۡرَضَ وَنَـَٔا بِجَانِبِهِۦ وَإِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ كَانَ یَـُٔوسࣰا * قُلۡ كُلࣱّ یَعۡمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِۦ فَرَبُّكُمۡ أَعۡلَمُ بِمَنۡ هُوَ أَهۡدَىٰ سَبِیلࣰاً }
[سُورَةُ الإِسۡرَاءِ: ٨٣-٨٤]
وبالطبع، فكون الدين “يُسراً” ثابت لا جدال فيه، وما تلك بوسطية بين الرحمانية والشيطانية، بل أن أبوابه مفتوحة على مصاريعها لكل من اهتدى قلبه لله. والولوج من المداخل السهلة اليسيرة إنما يفتح القلوب للسعي في التسامي لتحقيق الجوائز الأكبر المزدوجة: ” { وَمِنۡهُم مَّن یَقُولُ رَبَّنَاۤ ءَاتِنَا فِی ٱلدُّنۡیَا حَسَنَةࣰ وَفِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ حَسَنَةࣰ وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [سُورَةُ البَقَرَةِ: ٢٠١]. وهذا ما ندعو به.
هدانا الله وإياكم وسدد فهمنا وخُطانا، وإياه ندعو بالاستغفار من كل زلل.