لا تقتصر المُناسبات والأنشطة الرياضية العالمية على مُمارسة الألعاب الرياضية ولا تتوقف عند المنافسة في أنشطة بدنية فتلك هي الواجهة الجذابة لها، وإنما تتعدى ذلك إلى كونها ثقافة بحد ذاتها ولها جمهورها الواسع جدا المنتشر من أقصى الأرض إلى أقصاها، وفي نهايات القرن العشرين وخلال القرن الحالي فإنها توسعت لتشمل ثقافات وأيديولوجيات أخرى تدخل في نطاق الفعاليات الإنسانية، فرأينا اللاعبين يدخلون للملعب وهم يمسكون بأيدي أطفال كرمز لكونهم قدوة لهم ومثلاً أعلى ينظرون له بإعجاب شديد، ورأينا الشعارات المنادية بتجنب المخدرات والمؤثرات العقلية كنوع من التثقيف بأضرار تلك الأمور على صحة الإنسان، كما رأينا ما يزيد من وعي الناس ضد التفرقة العنصرية وغيرها من الأمور التي طالما كانت أمورا متفقا عليها لدى غالبية الثقافات والأمم.
الجديد في السنوات الأخيرة هو سعار الحملات الداعية للمثلية والشذوذ وتقبل المتحولين جنسيًا، فبدأت كنوع من الدعوة للفردانية وحرية الأفراد التي تكفلها دساتير الأمم، وهذا المقدار لا يعنيني في هذا المقام فلكل أمة أطرها في تقبل الحريات وخطوطها الحمراء التي لا تقبل تجاوزها، وطالما كانت تلك الدعوات محصورة في نفس تلك الأمم فهو شأنها وهي التي ستتحمل عواقبها عاجلا أم آجلا، ولكن المُثير للانتباه هو أن تلك “الحرية الفردية” لم تكتفِ بذلك المقدار من الرفاهية في تلك الأمم، فبدأت بانتقاد من يخالفهم الرأي تحت عناوين زائفة من قبيل “خطاب الكراهية”، فكل من كان ينتقد المثلية والشذوذ أصبح متحدثاً بخطاب الكراهية ويخضع لقوانين ومحاكمات وعقوبات تعسفية وذابت الحرية الشخصية التي كانوا ينادون بها كبلورة ملح في ماء مقّطر، ويا ليت تلك الدعوات وقفت عند منع الانتقاد، بل أصبحت في بعض البلدان تنادي بإجبار الناس لقبول المثلية والشذوذ بصرف النظر عن اعتقاداتهم الشخصية الخاصة وإخضاعهم كرهاً لقبول تحويل أطفالهم جنسياً حتى لا يتم حرمانهم من الوصاية عليهم وتدمير عائلاتهم، وهذا لعمري يفوق ما كان يمكنني تخيله يوماً ما، ولكني كنت أعزي نفسي بشيء من المرارة بأن كل تلك الممارسات تقف عند حدودهم الجغرافية وأننا طالما بقينا في أوطاننا ولم تجبرنا ظروف الحياة القاسية وكوارثها البشرية والطبيعية على الهجرة لتلك البلدان طلبًا للرزق أو طلبًا للحياة، فإننا في مأمن من دعواتهم العفنة الآسنة، ولكن لم يقف الأمر عند حدودهم الجغرافية، أليس كذلك؟
فقد أصبحوا يحاولون إكراهنا على قبول شعارات المثلية والشذوذ في أراضينا وفي عقر دارنا، وإن رفضنا ذلك، أصروا على مخالفة قوانينا وثقافاتنا وتمادوا في الوقاحة حتى وهم ضيوف لدينا يتمتعون بأرقى أنواع الضيافة والكرم، فلا يخفى عليكم ما فعله منتخب ألمانيا من إيماءات كتم الأفواه كنوع من التعبير أننا نكتم حريتهم في التعبير عن مساندتهم للمثلية والشذوذ، والأسوأ من ذلك قيام وزيرة ألمانية بالحضور للمدرجات وهي تضع شعار المثلية تحت طبقة من ملابسها، حتى إذا ما استتب لها الأمر في مقعد الجمهور كشفت ذلك الشعار في تحدٍ صارخ لسيادة الدولة التي استضافتها وإمعانًا في إظهار عدم احترامها لأي قانون، أين ذهب مبدأ سيادة القانون وأين ذهبت التربية والحضارة والأخلاق؟ لقد سلختها كما سلخت “الجاكيت” الذي أخفى شعار المثلية.
كل ما سبق ذكره كان توصيفاً لما حصل، ولا أظنني زدت شيئا لم يكن القارئ الكريم يعرفه مسبقاً، ولكن فيما يلي أسطر بضع ملحوظات عن الموضوع، ولعلها مرت عليكم أيضا من خلال الحوارات الساخنة في وسائل التواصل الاجتماعي عن الموضوع.
أولا: كان بإمكان منتخب ألمانيا أن يتحمل بطاقة الإنذار الصفراء لكابتن المنتخب إن أصر على وضع شعار المثلية، ولكنه تجنب ذلك حرصا على النتيجة الكروية للمسابقة، وهذا يرينا أن أهمية موضوع الشعار ليس مبدأ ذا أولوية لديهم، فهو مجرد عناد صبياني لا أكثر، وبمجرد تزاحمه مع نتائج اللعبة والمسابقة تم التخلي عنه.
ثانيا: نفس تلك الدول كانت لفترة طويلة من الزمن تجرم المثلية والشذوذ وتمنع الشواذ من الالتحاق بوظائف مثل الجيش، وكانت عندها تدعي أنها رائدة حقوق الإنسان في العالم، والآن مع تغير الأمر ورضوخها لضغوط لوبيات الشذوذ أصبحت تعتبر قبول المثلية نوعًا من حقوق الإنسان تطلق أحكامًا على بقية العالم من موقع أخلاقي عال وضعت نفسها فيه.
ثالثا: من يقرأ شيئاً من التاريخ يرى فظائع تلك الدول الاستعمارية ونهبها لثروات الأمم ومقدراتها واستعبادها لشعوبها، بل لا تزال كذلك بشكل مستتر، وليس سعارها في شعارات المثلية إلا ذر الرماد بالعيون لتغيير التاريخ الأسود البشع لها بخفة يد الساحر على المسرح.
رابعا: سيتضح لك إن تمعنت بما جرى في فعاليات كأس العالم للآن أن تلك السلوكيات السيئة كانت تسعى (لكسر الرأس) وقهر القوانين ووطأ الثقافات في البلد المستضيف والإقليم الجغرافي ككل، المسألة هي فرض الإرادة وإرسال رسالة واضحة أننا كعرق أبيض لا زلنا نحكم العالم ونفرض عليه معايير الإنسانية والأخلاق وأننا نفعل ما نُريد متى شئنا كيف شئنا.
برأيي أن تلك الشخصية الرسمية كان الأولى أن يتم إبلاغها بأنها غير مرغوب بوجودها في أراضي الدولة المستضيفة لأنها ضربت بالاحترام واللباقة عرض الحائط.
وقد يُقال إن منع الحجاب في المؤسسات التعليمية ومقرات العمل في بعض دول الغرب يشابه منع عرض رموز المثلية هنا، فلِمَ نعترض على منع الحجاب هناك ثم نمنع رموز المثلية هنا؟ هذه المقارنة تنطوي على مغالطة واضحة، فالحجاب ليس شعارًا نرفعه للتعبير عن أيديولوجية معينة وإنما هو جزء من اللباس الساتر للجسم بالنسبة لمن يرتديه، فإن كنت ستعتبر الحجاب “رمزًا” دينيًا وشعارًا أيديولوجيًا فمن نفس المنطلق ستعتبر بقية ملابس المرأة الساترة لجسمها رمزًا وشعارًا دينيًا أيديولوجيًا وسيلزم من ذلك تسويغ منعها من ارتداء الملابس إطلاقًا! فهل يقبل عاقل أو شبه عاقل هذا الكلام؟
نعم يمكننا أن نقبل الاعتراض على ما فعله بعض المسلمين من ممارسة الطقوس الدينية مثل صلاة الجماعة والتراويح في الميادين والطرقات إن كان لدى ذلك البلد مانع من ذلك، فإن كان هناك مانع لديهم فلا مسوغ للتجمهر والصلاة في الميادين المفتوحة والطرقات والشوارع طالما أن هناك مساجد يمكنهم من الصلاة فيها.
الخلاصة هي أن مسألة إبراز الرموز الأيديولوجية ورفع الشعارات التي تخص الأنشطة الرياضية خاضعة تمامًا لثقافة البلد المستضيف لتلك الفعاليات والأنشطة، فإن قيل لك امتنع؛ فالأولى لك أن تمتنع ولا تعاند.