محمد بن رضا اللواتي
سألت فتاة، غداة تجمع ستين خريجًا جامعيًا من شتى الكليات العُمانية في ملتقى بيت الزبير، هذا من أصل 225 متنافساً على مقاعد ورش تفاعلية غرضها تعريف الخريج بأدوات التفكير اليومي، ووسائل التفكير النقدي، والوعي بالتفكير الفلسفي، ولماذا أساسًا ينبغي أن نفكر، وكيف نفهم صحف أهل التصوف والعرفان، سألت فتاة على هامش هذه الورش سؤالاً هاماً وهو:
لو كان “أرسطو” حاضراً، هل كان ليحضر هذه الورش؟
أجبتها بالإيجاب! وأضفت:
إنه كان ليحضر معه الدنماركي “كيركيجارد” كذلك!
فردت تقول:
أليس هذا الذي كان ينادي بضرورة إسقاط التفكير الفلسفي من الحساب، فلماذا يريده “أرسطو” أن يكون رفيقاً له؟
لا شك أنَّ الإجابة عن تساؤلها المار بدت واضحة الآن للقارئ. فإنَّ من يُريد أن يُعلم الآخرين وسائل التفكير النقدي ينبغي أن يمنح المجال لمُخالفي فكرته ليطرحوا ما في جعبتهم من أفكار. كان من الضروري لمثل “كيركيجارد” أن يتواجد في ورش ملتقى “بيت الزبير” تلك ليقول للخريجين: “لا تستمعوا لما يقوله أرسطو، فالفلسفة تعد بكل شيء، لكنها لا تفي بشيء على الإطلاق”!
مقولة “كيركيجارد” المارة – وإن كان قد أطلقها حول علاقة التفلسف بالإيمان بالله – يعتقد بها العديد هذه الأيام، إنهم يتساءلون – سؤال الناكر وليس المستفسر-: هل خريج كلية التجارة في حاجة إلى أن يقدم له مفكر بحجم “عبد السلام بن عبد العالي” محاضرة حول “الفلسفة” ودورها في تعزيز قدرات التفكير؟ وهل هذا سيُساعده في الحصول على الوظيفة مثلا؟
وهل يحتاج خريج كلية الهندسة إلى “الزيني” ليُحدثه حول “لماذا نفكر”؟
تُرى ما الذي سيستفيده المخترع الشاب في معمله من محاضرة يُقدمها له “العجمي” عن “أدوات التفكير”؟ وماذا ستُضفي محاضرة ساعة كاملة يلقيها “الزدجالي” عن “معوقات التفكير” لموظف الموارد البشرية أو مضيفة على متن الطيران العماني؟
وهل ستتمكن الباحثة الاجتماعية والأخصائي النفسي ومندوب العلاقات العامة من تطوير أداوت أعمالهم اليومية بمعرفة أدوات “التفكير المنطقي”؟ ما منفعة مدير التسويق من تعلم كيفية استخدام شفرة “أوركام”؟ وما الذي ستقدمه معرفة انقسام العلم إلى تصور وتصديق أو أنواع الدلالات وأشكال القياس للبرنامج الانتخابي للمترشح لمجلس الشورى العُماني؟
“بيت الزبير” و “اللجنة الوطنية للشباب” كان لهما رأي آخر. لقد أجابا بالإيجاب!
إنهما يتبنيان مقولة “وايتهد” التي تقول بأنَّ التفكير الفلسفي “يبنى القصور الشامخة قبل أن يكون العمال قد حركوا حجراً واحدًا، ويهدمها قبل أن توضع مواد البناء فى أماكنها”، ومقولة “جون ديوي” الذي يقول: “وظيفة الفلسفة أن تنشئ نماذجا يجري على نمطها التفكير ويسير بمقتضاها السلوك، وبها تتقدم الحضارة”. ولكن، مع من الحق في هذا الاختلاف؟
ثمة تساؤل أهم من ذلك، قد يكون من الأجدر أن نحصل على إجابة عنه، لأنها ستعيننا على تشخيص الرأي الأفضل من بين الرأيين المتقدمين، وذلك التساؤل هو:
لماذا في كل أمم العالم – تقريبًا – يتم اقتطاع الإنسانيات والفنون في مرحلتي التعليم الأولية والجامعية؟
هل لأنَّ بعض صُناع السياسة يرونها رتوشاً لا فائدة منها، في وقت يتم على الأمم فرض الاستغناء عن كل ما ليس له قيمة مادية لتبقى هذه الأمم بعقول أجيالها في مجال تنافسي داخل السوق العالمية فحسب؟ لماذا يجب أن تخسرهما المناهج الدراسية وعقول وقلوب الأهالي والأطفال أيضاً، على حساب المهارات التي تناسب الإنتاج الربحي وسوق العمل فقط؟ (انظر: الدكتورة ريتا فرج، نقلا عن مارثا نوسباوم، الأزمة الصامتة، ترجمة: فاطمة شملان، موقع حكمة، 16 سبتمبر/ أيلول 2016).
الإجابة التي يتبناها البعض عن التساؤل المار – والذي وصمناه بالهام – هي:
لأنَّ التفكير النقدي والتساؤلي يقف ضد العقل الإذعاني ويقوض دعائم التفكير الاجتراري، وهذا ما لا تطيق وقوعه القوى التي ليس في مصلحتها ذلك، لذا فهي تعمل على اجتثاث منابع التفكير الحُر وقلع مقدرة الرفض وقول لا، وأفضل مكان يصلح لأن يكون منطلقا لهذا التجفيف هي المدارس والمعاهد والجامعات.
“جاريث ماثيوز”، الفيلسوف الأمريكي المتخصص في تدريس الفلسفة للأطفال، يقول إن نتائج العديد من الدراسات تؤكد أنَّ الطفل في سن صغيرة قادر على بناء حجج جيدة، وصياغة تساؤلات مهمة عن القيم، واللغة، والميتافيزيقا، وحتى نظرية المعرفة. إن أدوات التفكير النقدي، والتفكير الفلسفي سوف تزيد قدرة الطفل على قول “لا” حينما لا يتفق مع رأي أو آخر، وألا ينصاع لرأي ما لمجرد أنَّ قائله صاحب سلطة أعلى.
هنا يُمكن القول بأن سر أهمية الفلسفة للأطفال ينبع من قدرتها على تقوية ثقتهم في ذواتهم، في أسئلتهم التي يُخفونها خشية أن تُقابل بالضحك، فهُم مع الوقت يدركون بالفعل أنَّ تلك أسئلة ممكنة وقد سألها غيرهم من قبل، بذلك تفتح الفلسفة عقولهم، ويمنحهم التفكير النقدي القدرة على إبداع أفكار أفضل مما يصر عليها مدير مدرستهم أو رئيس جامعتهم أو عمدة بلدتهم. (أنظر: الفلسفة للأطفال حقا؟ شادي عبد الحافظ).
اليوم سيسأل الطفل:
أبي لماذا نحن هنا؟ ومن أوجد العالم؟ ولماذا؟
لماذا الصدق حسن والكذب قبيح؟
لماذا عليَّ أن أساعد الفقير؟
ولكن غدا سيسأل:
لماذا يوجد بالأساس فقير؟
ولماذا سماسرة الحروب يجولون بلداننا؟
ولماذا ينبغي أن يكون ثمَّة بلد محتل؟
يبدو، أن الإجابة عن التساؤل الذي طرحناه سابقًا حول مدى صواب ما قام به “بيت الزبير” و”اللجنة الوطنية للشباب” بتنفيذهما لورش تمنح الخريجين أدوات للتفكير النقدي، وخلال 3 أيام متواصلة، قد ظهرت إجابته للقارئ جلية واضحة، وبالتالي فقد ظهر له أيضًا مدى عدم دقة المثال اللاتيني الذي وضعناه عنوانا لهذه المقالة.
يقول “هيجل”: “إن بومة منيرفا لا تبدأ بالطيران إلا بعد أن يرخي الليل سدوله”!
وهو يُريد بذلك أن يقول بأنه وعندما تشتد الحلكة ونفتقد إلى بصيص نور، عندها لندع الحكمة، أي الفلسفة، تتحرك، فإنّها سوف تكفل لنا إدارة الأزمة بنجاح. لندع إذن “منيرفا” تُحلق، ولنرى ما الذي سيحدث عندما يقول الطفل لمديرة مدرسته أن الأسلوب الذي تعتمده مدرسته في تعليمه غير مجد، وهذه هي الأسباب، وما الذي سيقع عندما يقول الجامعي بأن الأدوات المتبعة في حل أزمة الباحثين عن العمل صحيحة إلا أن دماء جديدة بإمكانها تقديم أداء أفضل في هذا الملف، وتلك هي المبررات.
المهم هنا أن الستين شابا وشابة ممن حضروا هذه الورش أجمعوا على أنهم استفادوا فعلا منها، فلقد وضعت الورش هذه بين أيديهم حزمة من الأدوات المساعدة على ممارسة لون مختلف من التفكير، وكشفت لهم ما وراء الستار من معارف، لا شك بأنها ستعمل على ضخهم بنضج هم في مسيس الحاجة إليه عند نزولهم الحياة، والتي يحاول البعض أن يصورها لهم بأنهم ليست إلا سوق ضخمة فحسب!
المصدر: جريدة الرؤية العُمانية