عُمان: حمود بن سالم السيابي
في عامكِ الخمسين وكأن الطائرة تحط الآن بمطار بيت الفلج وعلى متنها كتيبة أردنية من المغاوير الصغار الكبار الذين سيدخلون التاريخ كأول عائلة صحفية تشهد ولادة عددك الأول.
أبحثُ عنكِ وعن مقرَّكِ وعن شجر الحلم الذي روته السُّنون.
كنتِ هنا بجوار مبنى الإذاعة فيما كان يسمّى بمطرح الكبرى جنوب حارة الوشل قبل أن يمشي الزمان بجنازيره فيدوس على الورق المحبَّر بالعرق ويكسر الأقلام ويهرق على الأرض المداد.
كنتِ هنا صغيرة كأمنية تتبرعم وكبيرة كحلم تنافسين به شقيقاتكِ من الصحف في القارات الخمس فلديكِ مثل ما لديهم من رائحة الحبر وملمس الورق ولون «المانشيت» والتصور الفني للإصدار، والرؤية الصحفية للأحداث والمعالجة المهنية للقضايا مع التفاوت في هامش المسموح به والمسكوت عنه.
ما زالت الأرض بيضاء كطفولتكِ لم يزحفْ عليها العمران.
والشجر الذي كان هنا احتطبه العمر لتبقى الظلال العصية على الاحتطاب.
لكن الحلم بأن تولدين من جديد هنا قد تبدد، فقد أصبح لكِ مقرَّكِ الذي ينافس مقارّ كبريات المؤسسات الصحفية.
لقد ذاب مبناكِ الأول الذي كان هنا وبات أثرا بعد عين، ولكن أي «بلدوزر» بمقدوره أن يطمس منازل تغوص أساساتها عميقا في الشرايين؟
وأي ديناميت يستطيع أن ينسف الأماكن المدرعة في الوجدان؟
هأنذا أستدعيكِ، كما أنتِ ببردة فرحكِ الأول، وبألوان حبرك ورائحة ورقك وصخب مطبعتك وبراءة أيامك ووشائج العائلة الصحفية التي تجمعنا.
أتذكر ساعة جئتُ إليكِ ذات طفولة خضراء في أواخر رمضان من عام ١٣٩٥ الموافق للأول من سبتمبر ١٩٧٥ وعلى منحر دشداشتي القلم الذي ابتعته من بقالة صغيرة بأمل أن أكتب به يوما مقالا يحمل اسمي!
يا لغروري! وهل كل من ابتاع قلما سيحسن الكتابة؟! وهل كلّ من رصَّعَ منحر دشداشته باليراع سينال شرف الانتماء لأسرتك وكُتَّابك ورسالتك؟!.
سأحاول.. لعلِّي أدخل ذاكرتكِ يوما وأجاري من حملوا الأقلام في مناحر دشاديشهم وجيوب بدلاتهم فتشع حروفهم في الروح. لأجرِّب … لعل أرشيفكِ سيذكر لـ«العنكزيز» يوما شرف الأمنيات ليكبر «خلالا» فبسرا فرطبا فتمرا. وحتى وإن فشلتُ سأكون بين من نالوا شرف المحاولة.
وسأكرر المحاولة الفاشلة تلو المحاولة لأتعوَّد على امتصاص الصدمات فلا أنكسر. وسأتحمل عبء تكرار الفشل «لأجل عينيك» كما يقول عبدالله الفيصل.
هل بدأنا معًا؟
أكاد أقولها تجاوزا فالفارق يضيق بيننا بحيث لا يتجاوز مائة وخمسين أسبوعا فقط ومائة وخمسين عددا لا غير.
ولكن لا الإصدارات التي وُلِدَتْ قبلي سجلت غيابي عنكِ فقد حَضَرْتكِ وجدانيا لأشهد انسياب حبرك. ولا الأسابيع التي سبقتني فيها «تنحسب من العمر» كما يقول أحمد رامي فالبداية معك كانت بداية العمر. لقد عاصرتُ صدورك الأسبوعي وصدورك نصف الأسبوعي وصدورك اليومي.
ولعلي بين القلة الذين عملوا بمبانيكِ الثلاثة «بيت الفلج وروي ومدينة الإعلام بالقرم».
خمسون عاما مرت وكأنَّ رئيس التحرير الأستاذ أمين أبو الشعر ينزل الآن من سلَّم الطائرة وهو يتحسس أعلى جيب بدلته الشتوية حيث قلمه الذي يلمع مع انعكاس شمس مسقط عليه.
كان مهيبا كحصن بلدة الحصن التابعة لمحافظة إربد التي شهدت مولده. وكان فارعا كأعمدة جرش التي نسيها الرومان وغامضا كخزانة البتراء في المدينة الوردية للعرب الأنباط.
لم يكن أمين أبو الشعر وحده في الطائرة هذه المرة كما المرة السابقة، يوم جاء قبل خمسة أشهر من هذه الزيارة للقاء الأستاذ ناصر بن سيف البوعلي مدير الإعلام لإتمام التعاقد على إصدار أول صحيفة أسبوعية حكومية تُعْنى بتقديم هويَّة عمان الحديثة المتكئة على خزين حضاري ضارب في القدم، ولتحمل تطلعات أبناء عمان لنهضة عملاقة تليق باستحقاقات المكان. وليستأنف هذا الجزء الحيوي من الجغرافيا العربية حضوره المستحق. ولتكون الجريدة نواة لإصدار يومي في المستقبل القريب مع تهيؤ السبل لذلك وتوفر الإمكانات. لقد نزل الأستاذ أمين أبو الشعر هذه المرة على مطار بيت الفلج ومعه كتيبته الصحفية المكونة من ثلاثة من المحررين وتسعة من الفنيين، ثم تتابع قدوم البقية إلى البلاد ليتكامل الطاقم المكوّن من الأساتذة محمد ناجي عمايرة وسليمان القضاة والشاعر مروان عويس وسلمي جهامة وسمير النداف وفؤاد النداف وبسام حتر وهشام الدحلة وواصف شرايرة وأحمد محمود وسمير المجالي وجمال فارس الخطيب وإبراهيم ذياب سلامة وغيرهم.
وكان السؤال المثار حول سبب الاتجاه نحو صحافة الأردن كخيار لأول جريدة حكومية عمانية وليس مصر وهي الأقدم والأسبق صحفيا، أو صحافة لبنان المتوثبة والتي تتلمس التقنية الأوروبية والأمريكيتين؟
وعن سبب إناطة الأمر بالأستاذ أمين أبو الشعر كأول رئيس للتحرير وهو المحال إلى التقاعد في بلده لبلوغه الستين دون غيره من الأسماء الشابّة التي «تشرَّبت الصنعة» من الكبار الذين ربتهم الأهرام أو الأخبار أو النهار اللبنانية.
وكانت الإجابة البديهية تسبق الأسئلة فالأردن الشامخ ومنذ الثالث والعشرين من يوليو عام ١٩٧٠ كان قبل غيره في الساحة العمانية كداعم ومؤازر ومحارب في الجبهات العسكرية والمدنية.
وقد تآخت البزات العسكرية العمانية والأردنية في جبال ظفار لكتابة ملحمة عربية تنتصر للحق وللمبادئ، وتتحرك بغيرة على كل حبة رمل.
وتعاهدت الدماء العمانية والأردنية التي ثعبت على القمم الشمّاء على غرس راية التحرير، حيث التقتْ الدماء.
وبموازاة ذلك كان على الجبهة المدنية الصرير المسموع للطباشير على السَّبُّورات في أيادي المعلمين الأردنيين يبني جيلًا يثأر للأمية.
ولمَّا كانت الدماء العمانية والأردنية قد نزّتْ من التقاء الشرايين فلا أقلَّ من أن ينساب المداد من التقاء الأقلام، لذلك كان الطاقم التحريري والفني كجزء من الحضور الأردني في المجهود الحربي العماني لكي تواصل الرصاصة والكلمة الجهاد معًا في حماية الحوزة العمانية من الشر الذي يتربص بها.
أما لماذا الأستاذ أبو الشعر فلخبرته الإعلامية الطويلة والثرية في الأردن، ثم البرازيل ثم العودة للأردن فهو لا يصنف ضمن الحرس القديم في بلاط صاحبة الجلالة رغم تقدمه في العمر.
ولعل عدم تحصنه بأسوار بلدته «الحصن» وانتقاله للدراسة خارجها عكس روحه المتطلعة للانفتاح على الجغرافيا الواسعة، فقد خرج وهو في ربيعه الخامس عشر إلى القدس ليستكمل دراسته الثانوية في كلية الكاردينال فراري بالقدس التي تغيرت لاحقا إلى «كلية تراسنطة» ثم انتقل إلى دمشق ليلتحق بالجامعة السورية ليجمع بين دراسة الأدب والحقوق حيث حصل على «شهادتَي ليسانس» الأولى في الأدب العربي والثانية في الحقوق من الجامعة نفسها. وقد أضاف له التخصص الأول أناقة الحرف وتأهل من التخصص الثاني سياسيا. كما أن تقلبه في العديد من المنابر الإذاعية والصحفية ما يشفع له لأن ينهض بتكليف إصدار أول جريدة حكومية في سلطنة عمان.
ومع ذلك فإن القريبين من الأستاذ أمين أبو الشعر ورغم تثمينهم لحرفيته ولجمال حرفه لم يكتموا مخاوفهم من أن مدة إقامته في عُمان لن تطول، وأنها لن تكون بأفضل من تجربته مع تأسيس جريدة الرأي الأردنية الحكومية قبل ذلك بعام.
ولأن التصادم وفق التفسير الفيزيائي يتمثل في ملامسة جسمين أو أكثر فإن الأستاذ أمين أبو الشعر ودولة وصفي التل رئيس وزراء الأردن جسَّدا التصادم في أشد ارتطاماته الفيزيائية.
وينقل الأستاذ الدكتور محمد ناجي عمايرة عن الأستاذ النائب سليم أبو الشعر نجل الأستاذ أمين أبو الشعر أن والده اختلف مع دولة وصفي التل حول منهجية إصدار صحيفة الرأي لذلك تخلى عنه وصفي التل ليستعين ببديل آخر هو الصحفي اللبناني محمود زين العابدين لإتمام مهمة التأسيس.
ورغم أن العدد التجريبي أو العدد الصفر لجريدة الرأي الحكومية قد ولد بتوقيع الأستاذ أمين أبو الشعر، إلا أن العدد الأول للجريدة حمل توقيع الأستاذ نزار رشيد الرافعي كمدير عام للرأي ورئيس للتحرير، إلا أن نجل أبو الشعر والرواية للأستاذ عمايرة يعود ليؤكد أن وصفي التل استشعر الخطأ بالتخلي عن أمين أبو الشعر وأنه أراد معالجة الأمر فاستدعاه قبيل سفره للقاهرة في آخر مهمة له في السياسة وفي الحياة فأبلغه باختياره له كوزير في الحكومة الأردنية المقبلة التي سيشكلها بعد عودته من القاهرة.
وقد اعتذر «أبو الشعر» عن قبول الحقيبة الوزارية، وبالمقابل فإن الرصاصات الفلسطينية اغتالت وصفي التل في القاهرة في الثامن والعشرين من نوفمبر ١٩٧١ وهو يمشي في ردهة فندق الشيراتون إثر انتهاء جلسات مؤتمر لجامعة الدول العربية دعي وصفي التل لحضوره.
لقد مات وصفي التل وهو الذي كان يردُّ على أجراس التحذير باقتراب الخطر منه «ما حدا بموت ناقص عمر».
أما التصادم في التفسير الفيزيائي العماني فلم يكن بحدة التفسير الأردني خاصة مع «أمين أبو الشعر» فالرجل يحلّ ضيفا على الإعلام العماني وكان ينظر إليه من زاوية التزكية الرفيعة له من الأردن الشقيق.
ومع ذلك فإن أمين أبو الشعر لم يخذل رؤى المتخوفين من تكرار تجربة جريدة الرأي الأردنية الحديثة العهد، فرغم الروح المتصالحة للمسؤولين العمانيين فإن مهمة الأستاذ لم تدم سوى ستة أشهر وتوزعت بين رئاسة تحرير الجريدة وتقديم المشورة للإعلام العماني كمستشار إعلامي.
وكان اللافت في الأشهر القصيرة لرئاسته للتحرير نشر عدة افتتاحيات في الصفحة الأولى موقعة بأقلام غير قلمه.
ولا تزال الأسباب الحقيقية لقصر مدة بقائه بمسقط في صدري الضيف والمضيف.
ولكن الأهم أن الأستاذ أمين أبو الشعر باشر مهامه ووضع بصمته على مخاض التأسيس وولادة العدد التاريخي الأول المنسجم مع تطلعات بلد يتلمس الدرب ليمشيه بخطوات واثقة، وكان جزءًا من هذا المسير وهذه القيامة للوطن.
في العدد الصادر بتاريخ 24 فبراير 1973 من جريدة «عمان» نشرت خبر «صدور الإرادة السلطانية المطاعة لجلالة السلطان قابوس المعظم بتعيين الأستاذ حفيظ الغساني المستشار الصحفي لجلالة السلطان مشرفا على الأعمال التنفيذية للإعلام».
وبمقتضى تكليف الأستاذ حفيظ الغساني بالإشراف على الإعلام يصدر الأستاذ الغساني قرارا بنقل هلال بن سالم السيابي من مكتب المستشار الصحفي لجلالة السلطان إلى مديرية الإعلام والسياحة كمساعد لمدير المطبوعات فيتبادل معه الإشراف على تحرير جريدة «عمان» وكتابة المقال الافتتاحي بل ويكاد يكون رئيس التحرير الفعلي لاضطرار الأستاذ أحمد بن سالم آل جمعة للسفر المتكرر والمتقارب خارج الوطن لمتابعة الإصدارات الإعلامية التي تطبع في بيروت وبعض العواصم المتقدمة في الطباعة.
ومع ثاني تشكيل لمجلس الوزراء في ١٧ نوفمبر ١٩٧٣ عادت حقيبة الإعلام بمسمى وزارة الإعلام والسياحة وتعيين سمو السيد فهد بن محمود آل سعيد كوزير للإعلام والسياحة، وترفيع مدير الإعلام الأستاذ عامر بن علي بن عمير المرهوبي كوكيل للوزارة، وتعيين الأستاذ أحمد بن سالم آل جمعة بمسمى الوكيل المساعد للمطبوعات والنشر وتعيين هلال بن سالم السيابي كمدير للرقابة على الصحافة وذلك اعتبارا من الأول من سبتمبر ١٩٧٤ ليكون منصب رئيس تحرير جريدة «$» الشاغر منذ استقالة أمين أبو الشعر بين مسؤوليات هلال السيابي.
وما زلنا في الإعلام تحت ديمة التغييرات فتلغى في العام نفسه ١٩٧٤ السياحة وتحل محلها الثقافة ليصدر المرسوم بتعيين سمو السيد فهد كوزير للإعلام والثقافة.
وفي عام ١٩٧٦ يصر مرسوم بتعيين وكيلين للإعلام هما سعادة الأستاذ عبدالعزيز بن محمد الرواس كوكيل وزارة الإعلام والثقافة للشؤون الإعلامية وسعادة الأستاذ حسن بن سعيد اللواتي كوكيل الوزارة للشؤون الإدارية، وبذلك تكون الجريدة تحت الإشراف المباشر لسعادة وكيل الشؤون الإعلامية.
وفي ١٩٧٩ تشهد البلاد تغييرا وزاريا آخر يحل بموجبه معالي عبدالعزيز بن محمد الرواس محل سمو السيد فهد بن محمود كوزير للإعلام وشؤون الشباب ومعه تبدأ الجريدة خطوات انتقالها للمبنى الثاني بروي والإعداد للصدور اليومي.
ورغم أن الشهادة مجروحة في هلال بن سالم السيابي إلا أنه كان أهم من مرّ على الجريدة في عقدها التأسيسي الأول.
وأهم من كتب في الصفحة الأولى بعد أمين أبو الشعر كالمشايخ والأساتذة أحمد بن سالم آل جمعة ومحمد أمين وبدر بن سالم العبري.
وكان القلم الوطني السيّال في افتتاحيات الصفحة الأولى والمحلل الأبرز في المقالات السياسية والقلم الأنيق في المقالات الأدبية.
وقد مارس هلال السيابي العمل الصحفي الفعلي سواء عبر حضوره في الحراك المحلي أو لدى قيامه بزيارات لعدد من العواصم ليشرك القارئ معه من خلال كتاباته لمقالات حملت رؤاه وانطباعاته ومشاهداته.
أو على صعيد إثراء الجريدة بالأقلام، حيث أناط بأحد الخبراء في مديرية المطبوعات والنشر وهو الأستاذ عاطف الغمري بمسؤولية رفد الجريدة بالمتابعات السياسية، حيث أفردت الجريدة صفحتين في أعدادها لهذه المتابعات.
كما شهدت صفحات الجريدة في عهده سجالات أدبية وتجاذبات اتسمت بالجرأة وارتفاع النبرة بين الأجيال الأدبية والمدارس والاتجاهات الحداثيين لكلاسيكيات القصيدة العربية.
واستثمر هلال علاقاته مع أعمدة المشهد الأدبي فارتقت صفحات الجريدة لتكون أشبه بعكاظ والمربد وغيرها من أسواق ومغاني الشعر. وتحول مقر الجريدة إلى منتديات شعرية يؤمها الكثيرون لوجود ثلاثة شعراء بين هيئتها التحريرية هم هلال السيابي ومروان عويس والدكتور محمد ناجي عمايرة. ولعل طول المدة التي شغلها هلال قياسا بمن سبقه كمشرف مباشر على التحرير أتاحت له أكثر من الذين مروا سريعا قبله الفرصة ليضع البصمة الأبرز في العقد الأول للجريدة بل وأكاد أقول إن له الفضل في رسم معالم العقد الثاني ولمرحلة المبنى الثاني بروي.
ووسط هذه الأجواء العاصفة والإيقاعات المتسارعة ولد العدد الأول لجريدة «عمان» واقتسم الأستاذان ناصر بن سيف البوعلي مدير عام الإعلام وأمين أبو الشعر رئيس التحرير المساحة الأهم من صفحته الأولى فعلى اليمين ازدانت الصفحة بأول مقال للأستاذ البوعلي بعنوان «جريدة عمان» يبشر فيه بمولد الجريدة بينما توازنت الصفحة جهة اليسار بمقال رئيس التحرير حمل عنوان «هذا البلد وهذه الجريدة».
هذا عامك الخمسون يا «عُمان» ولقد جئتُ إليكِ كما أشرت وأنت في غمرة التحضير لعددك رقم ١٥١ وعلى الصفحة الأولى دعوة من وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمواطنين بتحري هلال شهر شوال لسنة ١٣٩٥ فكان الزمن مبهجًا لي وأنتِ تلبسين صفحاتك فرحة الحديث عن أسواق الحلقة.
وتزهر حروفك بتجهيز المصليات في الفلوات ويعبق حبرك بتبزيرة الشواء وعرسية العيد
لم أبحث يومها عن طاولة لأجلس عليها فكانت العائلة الصحفية كلها واقفة تقيس ثياب العيد وتتفنن في التمصورة وتجرب حزاق الخنجر.
وأستعيد الأحداث وأنا أحمل فرخ ورق لبروفة الصفحتين الأولى والثامنة للعدد رقم ١٥١ ساخنا من مطبعة الهايدلبرج وأحباره لم تثبت بعد فتعلق في الأصابع وتقطر في الدشاديش.
كان بالعدد خطأ في بلاغ وزارة الأوقاف حيث يدعو المواطنين لتحري الرؤية في السادس من أكتوبر ١٩٧٥ والصحيح السادس من سبتمبر ١٩٧٥.
ورغم تنبيه قسم التصحيح الذي يقوده الأستاذ عبدالله بن سلطان المحروقي إلا أن فرحة قدوم العيد أنست التصحيح وعلى المواطنين أن يتحروا في السادس من أكتوبر هلال ذي القعدة وليس هلال شوال.
لم يكن بالعدد افتتاحية لرئيس التحرير فالأستاذ أمين أبو الشعر عاد قبل عامين إلى دوحة الهاشميين ومدينة الجبال السبعة أسوة بروما مدينة التلال السبع تاركا مسقط بجبالها وتلالها وجريدتها الوليدة.
هنا كان مبنى الجريدة وأكاد أعيد هندسته وترميمه في الذاكرة لينبثق من ركام المكان ليضيء المكان.
هنا كانت طاولتي وعليها أوراقي وأقلامي وخربشاتي وأحلامي.
وهنا تقف السيارة اللاندروفر الخضراء نصف بوكس التي هدرت في الدروب وخلف مقودها الأستاذ الشاعر الشيخ سعود بن حمد السالمي أول صحفي عماني التحق بالجريدة.
وإلى هنا جاء الشيخ أحمد بن سليمان الكندي من وزارة التربية والتعليم كمدرس والأستاذة فاطمة بنت غلام الزدجالية أول صحفية عمانية حملت تجربة الاغتراب في الخليج لتسهم في صياغة حلم أول صحيفة حكومية تحمل اسم عمان.
وهنا عرفتُ الشيخ عبدالله بن سلطان المحروقي والعزيز سالم بن محمد المحروقي والعزيز حسن بن جمعة البريكي.
هنا القاعة الرئيسية للجريدة وهي بطول خمسين مترا وعرض خمسة وعشرين مترا على التحري فلم أملك يومها شريطًا متريًا لأحدد به المسافة الدقيقة سوى الهرولة الدائمة من الجدار إلى الجدار.
وكانت البوابة الكبيرة التي تتوسط المبنى تسمح بدخول الآلات ورزم ورق الصحيفة والأثاث،
كان المبنى يرتفع عن الأرض بما يقارب المتر أو يزيد ليحول دون دخول مياه السيول ويغرق المطبعة.
والوصول إليه عبر درج مكسوٍّ بالسيراميك الأسمنتي.
وتتوزع مرافق المبنى إلى غرفة صغيرة على يمين الداخل هي لتنضيد الحروف وتنفتح على القاعة الرئيسية الكبيرة التي تضم مطبعة الهايدلبرج ثم غرفة للمحررين هي عبارة عن فواصل زجاجية ضمن نطاق القاعة لتمتص هدير رؤوس المطبعة، وتسمح بمتابعة كل شاردة وواردة فيها.
وقد أضيفت غرفتان خارجيتان التصقتا بالقاعة الكبيرة واحدة شرقي جدار القاعة وخصصت للمحررين العمانيين الذين تتابعوا للالتحاق بالجريدة والثانية عند الجدار الغربي لأمن المقر.
ولأن الصحافة كلمة وصورة، ولرب صورة بألف كلمة فقد جئت الجريدة وهي تعتمد في الصور التي ترفد رسالتها الصحفية على دائرة التصوير التابعة لوزارة الإعلام بمقرها القديم بمدينة الإعلام.
وقد تغيرت خارطة مدينة الإعلام بالكامل لتبقى استوديوهات ومعامل التحميض والمكاتب الإدارية مكانها وإن تغيرت استخدامات المبنى.
وكان الأستاذ تغلب بن هلال البرواني على رأس تلك الدائرة، ولمن لا يعرف تغلب البرواني فهو ليس من قدامى مصوري الجريدة بل من قدامى مصوري النهضة العمانية، حيث يجمع بين التصوير السينمائي والفوتوغرافي.
وقد تلقى الأستاذ تغلب البرواني علوم التصوير السينمائي والفوتوغرافي في لندن، عاد بعدها لشرق إفريقيا لتوظيف تخصصه، ثم سافر إلى الرياض ليعمل كمصور سينمائي في وزارة الزراعة والمياه بالمملكة العربية السعودية وذلك في الفترة من ١٩٦٦ إلى ١٩٦٩م.
ثم ترك العمل بالرياض ليلتحق بمؤسسة إعلامية بدبي، ومع بزوغ فجر النهضة المباركة كان أول العائدين ومعه كاميرته ليلتحق بوزارة الإعلام وليكون أول مصور عماني يفتح عدسة كاميرته الفوتوغرافية والسينمائية ليدخل ضوء عمان وعمامة سيدها السلطان قابوس، حيث رافق جلالته في جولاته الداخلية والخارجية.
وقد كان لي شرف صحبة الأستاذ تغلب البرواني في زيارة شملت نيروبي وممباسا ومقديشيو، حيث جمعتنا مهمة صحفية رافقنا فيها معالي الدكتور أحمد بن عبدالله الغزالي وزير التربية والتعليم لحضور مؤتمر اليونسكو المنعقد في نيروبي أواخر سبعينيات القرن الماضي.
وقد توسعت دائرة التصوير في عهد الأستاذ تغلب البرواني فالتحق بها الكبار أمثال عبدالله بن سالمين الخروصي وعبدالله بن سالم البرهمي ومسلم الجعفري وراشد الجعفري وخليفة الرحبي وعامر الرحبي وكمال جانو، وفي المرحلة الثانية لمبنى روي تم الاندماج مع الوكالة وتوسع التصوير ليشمل سعيد الحراصي وفاضل عبدالواحد وسالم المحاربي وعمر الزدجالي ومحمود عبدالفتاح.
ومن هذه الفواصل الصغيرة الكبيرة للمبنى القديم خرجتُ في أول مهمة صحفية مع بعثة الحج العمانية فأزور الكعبة من الداخل في فرصة استثنائية لا تتكرر.
ومن هنا سافرت لعاصمة الضباب في دورة للغة الإنجليزية في بدفورد ودورة أخرى للصحافة في لندن.
ومن هذا المبنى سافرتُ مع معالي أحمد الغزالي إلى نيروبي وممباسا ومقديشو لأحوم حول حمى زنجبار. ومن هنا خرجتُ إلى المطار باتجاه كنانة العرب، حيث كنت ضمن الوفد الإعلامي المرافق للمقام السامي فدخلتُ قصر رأس التين، ومن هنا بدأتُ الخطوات الأولى لحلم أن أرى اسمي في الصفحة الأولى لخبر بسيط كتبته بقلم ابتعته من بقالة صغيرة في الحارة.
يومها فركْتُ القلم كثيرا على منضدة البقالة ليكتب، ثم كررت الفرك على قاعة يدي لينساب الحبر ثم على القلب ليثعب صبرا وجرحا.
وإذ أكتبُ هذه الحكاية وجريدة «عُمان» تحتفل بميلادها الخمسين، أكتب، أيضا، لأذكر برفقاء الدرب والتعب في جريدة «عمان»، أكتب لأتساطر التهاني مع هلال السيابي وناصر بن سيف البوعلي وأحمد بن سالم آل جمعة وأمين أبو الشعر والدكتور محمد ناجي عمايرة وسليمان القضاة ومروان العويس وأحمد الكندي وفاطمة بنت غلام وعبدالله بن سلطان المحروقي وسالم بن محمد المحروقي والكثير ممن فاتني وممن لا تتسع لهم السطور.
أما الكوكبة الثانية من رفقاء المشوار فقد بدأتُ معهم بعد عام ١٩٨٠ في المبني الثاني للجريدة بروي وتلك حكاية أخرى.
وكما بدأتُ أختم
«لقد ذاب مبناكِ الأول الذي كان هنا وبات أثرا بعد عين، ولكن أي بلدوزر بمقدوره أن يطمس منازل تغوص أساساتها عميقا في الشرايين؟ وأي ديناميت يستطيع أن ينسف الأماكن المدرعة في الوجدان.
أستدعيكِ كما أنتِ ببردة فرحكِ الأول، وبألوان حبرك ورائحة ورقك وصخب مطبعتك وبراءة أيامك ووشائج العائلة الصحفية التي تجمعنا.
ويبقى خير حداء للمسير ما قاله حادي المسيرة أستاذنا الشاعر الكبير الدكتور محمد ناجي عمايرة:
«أناديكِ لو تسمعين النداء
وأحدو إليك القوافل في الليل
وسط الصحارى البعيدة
فتنشغلين بفك رموز القصيدة
ولا تأبهين لصوت الحداء».
حمود بن سالم السيابي – صحفي ورئيس تحرير أسبق لجريدة «عمان»
مقتطفات من مقال طويل جدًا للكاتب