منذ الحضارة اليونانية ومرورا بالحضارة الإسلامية وحتى بدايات عصر النهضة الأوربية ارتبطت الكيمياء بما يعرف بالإكسير، ويقصد بالإكسير مادة مُعينة كان يظن أن لها القدرة على البلوغ بالإنسان إلى الثراء والخلود!
فلقد كان هناك اعتقاد سائد بأنَّ المعادن الخسيسة كما يطلق عليها كالحديد والنحاس والرصاص يمكن تحويلها إلى الذهب عبر هذا الإكسير، كما إن هذه المادة يمكنها أن توصل بالإنسان إلى الخلود! لكن كل البحوث التي قام بها العلماء آنذاك لم تنتج لهم الإكسير ولم تصل بالإنسان إلى حلمه الذي يداعبه منذ أن وجد على ظهر هذه الأرض.
ويبدو أن هذا الحلم يجري في الإنسان كما يجري الدم في عروقه، فإنسان اليوم مازال يسعى لتحقيق هذا الحلم، وإذا كان القدماء استخدموا ما توفر لهم من وسائل علمية آنذاك، فإن إنسان اليوم الذي يفخر بما توصل إليه من خلال علوم الطبيعة، يسعى إلى تحقيق ذلك من خلال هذه العلوم أيضا.
إن الخبرات الكبيرة التي اكتسبناها عبر تاريخنا الممتد، جعلتنا ندرك أن تحقيق هذا المطلب أمر في غاية الصعوبة بل ربما يكون محالا من الناحية العملية، لكن ذلك لم يثنِ العلماء عن عزمهم والسبب في ذلك أننا أدركنا قيمة النجاحات المرحلية، فإذا لم يكن بالإمكان تحقيق حلم الخلود فهل بإمكاننا أن نمد من عمر البشرية بحيث يستطيع أن يعيش الإنسان لفترات أطول تصل لقرابة ربع قرن من الزمن مثلا.
لقد استطاع الإنسان في القرن الماضي أن يقوم بعمل كبير ومهم وهو رفع معدل الأعمار ليصل اليوم إلى ما بين السبعين والثمانين بعد أن كان معدل الأعمار دون الخمسين -على أقل تقدير في بعض الأجزاء من العالم-، ففي المملكة المتحدة مثلا، كان متوسط الأعمار في الأربعينيات من القرن الماضي لا يتجاوز الخمسين عاماً، بينما وصل إلى حدود الثمانين عام 2016.
فما الذي يمكننا القيام به، حتى نطيل من معدل عمر الإنسان ونقفز به قفزات كبيرة؟
هناك بحوث مختلفة في هذا المضمار فمنها ما يرتبط بتوفير الرعاية الصحية والاهتمام بالرعاية النفسية، إضافة إلى الاهتمام بالرياضة البدنية، لكن هذه البحوث لن تحقق قفزات كبيرة في مجال إطالة عمر الإنسان، ولذا اتجه البعض باتجاه مغاير، فحاول فهم ميكنة الموت والتعرف عليه عن كثب.
وهناك اتجاهان في تعريف الموت؛ الأول يتجه إلى عمل القلب، فالقلب الذي يظهر أن وظيفته البيولوجية تتلخص وبشكل أساسي في ضخ الدم حول الجسم وإذا توقف القلب عن ضخ الدم فإن بقية الأعضاء بما فيها الدماغ تتوقف بعد فترة عن العمل. وكما نلاحظ فإن هذا التعريف يتجه إلى القلب والى عدم قدرته على القيام بوظائفه مع اشتراط عدم القدرة على إعادة النشاط إلى القلب من خلال الإنعاش القلبي الرئوي. أما التعريف الآخر فهو ما يُعرف بالموت الدماغي، وهو فقد دائم لنشاط الدماغ بحيث يتعذَّر على الإنسان التنفس أوالمحافظة على وظائف حيويَّة أخرى من تلقاء نفسه ودون الاستعانة بالأجهزة المساندة.
وتعريف الموت الدماغي هو تعريف حديث نتيجة للتطور الطبي؛ فالجسم بناءً على هذا التعريف يموت عندما يموت الدماغ؛ لأن الوظائف الحيوية تتوقف كالتنفس ونبض القلب، إلَّا أنَّ التطور العلمي والاستعمال الحالي للوسائل التقنية يسمح ولو بشكل مؤقت بالمحافظة على التنفس وعلى نبض القلب رغم التوقف الكلي للدماغ، ولذا وبناءً على التعريف الأول فالموت الدماغي لا يعد موتًا لأنَّ القلب ما زال قادرًا على ضخ الدم ولو بالاستعانة بالأجهزة الخارجية.
ولكن الشيء المشترك بين التعريفين أن الموت هو نتيجة لتوقف وصول الأوكسجين عبر الدم إلى خلايا الجسم والدماغ، ونتيجة لعدم وصول الدم لهذه الخلايا، فإنها تعجز عن إنتاج الطاقة اللازمة لعملها، فتتوقف الأنشطة الحيوية ويموت الإنسان.
لكن هذه الخلايا تستطيع أن تبقى مدة زمنية بدون أوكسجين بما فيها خلايا الدماغ، وهذا ما تراهن عليه فرق الإنعاش؛ حيث تحاول وخلال هذه المدة الزمنية أن تُعيد عمل القلب وضخّه للدم، فإذا نجحت في ذلك بحيث قام القلب بوظيفته وقبل تلف خلايا الدماغ فإن الإنسان يستطيع أن يعود ويمارس حياته الطبيعية، أما إذا استمر توقف نبض القلب لفترة طويلة بحيث تتلف خلايا الجسم والدماغ فعندها يموت الإنسان.
وحصرت هذه البحوث عملية الموت من الناحية المادية، بعدم وصول الأوكسجين إلى خلايا الجسم والدماغ- عدا حالات الجفاف الشديد أو المجاعة- وهذا يعني أن ميكنة الموت تكاد تكون محصورة في سبب واحد، فأغلب حالات الموت مردها إلى عدم وصول إمدادات كافية من الأوكسجين إلى خلايا الجسم والدماغ، وعندما يتعرض الإنسان لحادث ما ويحدث له نزيف كبير فإنَّ ذلك النزيف يؤدي إلى عدم وصول أوكسجين كافٍ للخلايا نتيجة لنزف الدم، وبالتالي يؤدي إلى موت الإنسان. والسبب نفسه يتكرر عندما يتوقف خفقان القلب، فلا يصل الأوكسجين إلى الخلايا؛ لأن القلب لا يضخ الدم فيموت الإنسان.
ولهذا تتجه البحوث الحالية لإيجاد وسائل مختلفة تضمن استمرار وصول الأوكسجين إلى خلايا الجسم والدماغ، حتى وإن توقف القلب عن ضخ الدم أو نزف الإنسان نزيفًا داخليًا أو خارجيًا؛ فالإكسير الجديد يقوم على فكرة توفير الأوكسجين لخلايا الجسم والدماغ، ولذا اتضح لنا أن الأوكسجين هو إكسير الحياة.
تُرى هل سينجح الإنسان في توفير هذا الإكسير إلى خلايا جسده بصورة دائمة ليبعد عنها شبح الموت؟ أم أن مصيره سيكون مصير من سبقه من البشر؟ أم أنه سيُحقق نجاحًا مرحليًا يُغريه ويجعله يستمر في سعيه وبحثه الدؤوب عن الخلود!
أكاديمي بكلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
مصادر للتوسع:
• زكي نجيب محمود، جابر بن حيان
• Sam Parina, Erasing death