Image Not Found

بين العلم والخيال العلمي (1- 2)

د. حسن أحمد اللواتي – الرؤية

في زمن ما حيث كانت تساؤلات الإنسان عن الطبيعة والظواهر الطبيعية تفتقر إلى المنهج العلمي في البحث عن الإجابات وحيث لم تكن هناك أدوات وتقنيات كافية لسبر أغوار الطبيعة كان أفضل سبيل للإنسان في سعيه للبحث عن الإجابات لما حيره من ألغاز الطبيعة هو حواسه المجردة مصحوبة بالكثير من التخمين والخيال، لذا لم يكن غريبا أن تكون الرؤية العلمية للكون محدودة جدا وتفتقر للدقة كثيرا.

ومع بدارات النهضة العلمية في القرن السادس عشر نجد نموا مضطردا لكل من المنهج العلمي في البحث والأدوات العلمية للرصد والمشاهدة والتجربة بالإضافة إلى نمو حقول جديدة من الرياضيات لخدمة البحث العلمي، ومنذ ذلك الوقت استمتع الإنسان بقفزات كبيرة في الاكتشافات العلمية وتطورت رؤيته الكونية العلمية بما يشبه ثورة البركان، ولكن هذا البركان العلمي بدأ في نهايات القرن العشرين وبدايات هذا القرن بالتعثر بعقبات من شأنها أن تُهدد مستقبل البحث العلمي والعقلية العلمية ككل، هل هذه مبالغة في التعبير؟ لا أعتقد، كما سيتضح من خلال السطور القليلة القادمة.

هناك اتفاق عام أنَّ الفيزياء هي أم العلوم الطبيعية، فنفس كلمة الفيزياء مشتقة من كلمة إغريقية تعني الطبيعة، ومن الفيزياء تنبع الكيمياء ومن ثم الأحياء وبقية العلوم الطبيعية، لذا فإن تعثرت الفيزياء في مناهج بحثها العلمي فإنَّ ذلك سينعكس كثيرا في بقية العلوم الطبيعية الأخرى.

الفيزياء لها أقسام كثيرة ولكن القسمان الأكثر أهمية وعلاقة بتشكيل رؤيتنا الكونية العلمية للمساهمة في تقديم إجابات على الأسئلة الكبرى للإنسان من قبيل “من أين وإلى أين؟” هما الفيزياء الكمية التي تعنى بالبنية التحتية الأساسية للعالم الطبيعي من خلال دراسة أصغر أجزاء الطبيعة والفيزياء الكونية التي تعنى بالبنية الفوقية للعالم الطبيعي من خلال دراسة الأجرام الأكبر حجمًا في الكون، وقد شهد الثلثان الأوليان من القرن العشرين نجاحات باهرة في تأسيس نظريات علمية كبيرة وناجحة جدا في هذين القسمين من الفيزياء. ولكن نفس تلك النظريات ولّدت لدينا أسئلة واستفسارات بمقدار ما أزالت من غموض عن الطبيعة وظواهرها وألغازها، فنظرية النسبية العامة التي اجتازت عددا لا يحصى من الاختبارات بنجاح منقطع النظير وساهمت بتطوير رؤيتنا العلمية الكونية أدت بنا إلى نظرية أخرى لفهم بدايات الكون وهي نظرية الانفجار العظيم والتي بدورها أثبتت انسجاما كبيرا من المشاهدات الفلكية الدقيقة ولاقت قبولا ساحقا لدى العلماء كأفضل مرشح لفهم بدايات الكون، ومرة أخرى تولدت لدينا من هذه النظرية أسئلة أخرى تبحث عن إجابة من قبيل السبب في توزع المادة والحرارة بشكل متساوٍ جدا بالكون مع أن عمر الكون المرئي أصغر مما يسمح بانتقال الطاقة بشكل متجانس في كل أرجاء الكون، وللإجابة على هذا السؤال المحير جدا اقترح آلان غث نظرية التضخم الكوني التي تنص أن الكون في عمر زمني لا يتجاوز جزءا من ترليون ترليون ترليون جزء من الثانية (10^36) تعرض لطاقة غريبة أدت إلى تضخمه بشكل هائل جدا (10^78) واستمر هذا التضخم لفترة لا تتجاوز جزءا من عشرة آلاف جزء من الثانية، وهذا التضخم تدعمه المشاهدات الحالية لتوزيع بقايا حرارة الانفجار العظيم (أو ما يسمى بإشعاع الخلفية الكونية المايكروي CMBR) كما رصدها القمر الصناعي بلانك، إلى هنا الأمر لا بأس به ولا زلنا تحت مظلة البحث العلمي، ولكن…

قبل أن نستطرد في الاستدراك، دعنا نطرح مقدمة قصيرة أخرى ذات علاقة بالموضوع.

من الأمور المحيرة جدا مما اكتشفه واتفق عليه الفيزيائيون ما يسمى بمسألة الضبط الدقيق للثوابت الأساسية لفيزياء الطبيعية، والمقصود بذلك أن بحثنا في الطبيعة أدى بنا إلى اكتشاف حقيقة أن الكون لو كان مبنيا بشكل مختلف عما هو عليه بشكل ضئيل جدا لكان من المستحيل تكون النجوم والمجرات والكواكب ومن ثم نشوء الحياة على الأرض ومن ثم نشوء الحياة الذكية على الأرض، هذا الأمر يتفق عليه الجميع وليس محلا للاختلاف والتنازع بين العلماء، وهذا الضبط الدقيق بطبيعة الحال يتطلب تفسيرا مقنعا، فكيف يمكننا أن نفسر مسألة أن الكون مبني بشكل دقيق جدا؟ وأنه من ضمن العدد الهائل والضخم جدا من الاختيارات الأخرى التي كان يمكن أن يكون عليها الكون والتي لم تكن لتنتج في الكون حياة فضلا عن الحياة الذكية لماذا بني الكون على الاختيار الذي نلحظه والذي سمح للنجوم والمجرات والكواكب أن تنشأ وسمح للحياة أن تنشأ في كوكب مثل كوكب الأرض على الأقل؟