Image Not Found

لماذا نقرأ؟

د. حسن بن أحمد اللواتي – الرؤية

يراودني هذا السؤال أحيانًا، لماذا نقرأ؟ ومع أنه يبدو سؤالا بسيطا ولا يتطلب عناء الإجابة إلا أنني أعتقد أن الإجابة تختلف من شخص لآخر، وبأعماق مختلفة من التأمل، لذا ففي نظري هذا سؤال شخصي مهم لكل منِّا ويستحق وقتا للتأمل فيه.

القراءة لها مصاديق مختلفة، فقراءة الصحف الإخبارية الورقية (والتي تحولت للصحف الرقمية مع الزمن) ليست كقراءة كتاب المقررات الدراسية للطالب بالمدرسة أو الجامعة والدراسات العليا والقراءة المهنية أثناء العمل بهدف التحديث المعرفي المهني، وكلاهما ليس كقراءة الروايات والشعر والنثر، والتي بدورها تختلف عن القراءة للأغراض العملية مثل كتب وصفات الطبخ أو العناية بالسيارة أو قراءة كتيب الإرشادات لجهاز مُعين بهدف استخدامه، وكلها مختلفة عن القراءة التي تسعى للفهم الأعمق للوجود والمجتمع والإنسان نفسه وتشمل القراءة الفكرية والعلمية العامة.

ربما لاحظت أن قراءة صحف الأخبار والمقررات الدراسية والمهنية بمختلف مراحلها وقراءة الكتب الإرشادية العملية لا تحتاج لكثير من التأمل لمعرفة الهدف منها فالغرض منها واضح من عنوان القراءة نفسه، ولكن عندما تفكر بالسبب الذي يدعوك لقراءة الروايات والشعر والأدب فإنك قد ترى أن السبب هو لتحسين قدراتك اللغوية والتعبيرية لأن هذه القراءة مفيدة فعلا لهذا الغرض إن تم انتقاء الكتب بعناية، ولكن هناك أيضا سبب آخر لمثل هذه القراءة، وهو نفس السبب الذي قد يدعوك للاستمتاع بمقطوعة موسيقية أو تذوق جماليات لوحة فنية بريشة فنان وهو الترفيه عن النفس وتغذية النفس بجرعة من الجمال الذي نحتاجه كلنا بشكل مُستمر.

من ناحية أخرى، فإن قراءة التاريخ والأحداث التي جرت في الأزمنة الماضية، الغابرة منها والقريبة، لها متعة الاستماع للحكواتي الذي كان الناس يجتمع حوله بعد العشاء للاستمتاع بقصص حقيقية وأخرى وهمية ذات طابع غريب مثير للذهن والمخيلة، وهو نفس الدور الذي اضطلع به المسرح في فترة ما، ثم تلقفته السينما وصناعة الأفلام في أيامنا هذه.

لكن كل هذا بالنسبة لي في كفة، والقراءة التي أسعى للحديث عنها في كفة أخرى؛ فالقراءة التي أتوق لها هي تلك التي تقربني من فهم الوجود والطبيعة والتجمعات البشرية والإنسان ونفسي. هذه القراءة ليست بهدف الحصول على شهادة أكاديمية أجمل بها حائطا، وليست للأهداف العملية اليومية كالتمكن من طبخ وجبة أو تصليح عطل بجهاز معين، وليست للمتعة القصصية والجماليات الأدبية، وإنما هدفها الاقتراب بمقدار ذرة من فهم العالم الواسع الذي أعيش فيه وأشكل جزءا منه.

حينما أقرأ التاريخ فأنا حتمًا أستمتع بالجانب القصصي منه، ولكن أذكر نفسي بين الفينة والأخرى بضرورة فهم الأبعاد العمودية العميقة له بالإضافة لفهم تسلسل الأحداث القصصية، والأبعاد العمودية العميقة بالتاريخ هي تلك التي تستوحي منها فهما أفضل لسلوك البشر في الظروف المختلفة. كيف عاش البشر؟ كيف تعاملوا مع التحديات الناشئة من الطبيعة حولهم؟ كيف تعاملوا مع الاختلافات بينهم؟ ما الذي أشعل الحروب؟ ما الذي يمكن توقعه منهم في غياب السلطة والقانون؟ ما الذي يجعلهم يسعون لاستعباد البشر الآخرين ونهب ممتلكاتهم وسفك دمائهم؟ من ضمن أسئلة أخرى من هذا القبيل.

وحينما أقرأ في العلوم الطبيعية (وهي عشقي منذ طفولتي)، فإنني أتوق لمعرفة كيف نشأ الكون وكيف تطور منذ مليارات السنين وحتى نشوء الكرة الأرضية؟ وكيف سيكون حاله بعد مليارات السنين من الآن؟ وكيف نشأت الحياة على هذا الكوكب الأزرق الجميل (والذي لم يكن أزرقًا ولا جميلًا في بداياته)؟ وكيف تطورت الحياة من خلية واحدة لتشكل هذا التنوع البيولوجي المذهل الذي يحبس الأنفاس؟ أتلهف لفهم حركات طبقات الأرض وصفائحها، والبراكين وصخورها المنصهرة، والمحيطات وأعماقها المظلمة، والغابات والحياة الخفية التي تدب فيها، وأحلم برؤية انفجار نجم عملاق بما يسمى بالسوبرنوفا (من مسافة آمنة طبعًا)، وأرغب بمشاهدة الثقب الأسود العملاق والقرص الجبار المسمى بالكوازار حوله، والمرور بالسديم الهائل الذي هو مصنع النجوم، أرغب بفهم لغة النمل والتخاطب بينها، والبلورات في أعماق الكهوف وغيرها الكثير من ظواهر الطبيعة العجيبة.

ولكن، مرة أخرى، لماذا أرغب في ذلك؟ قد تلاحظ أنني لم أقدم إجابة كافية عن السؤال الأساسي عن القراءة، لأنني استبدلت كلمة القراءة بتعداد ظواهر الطبيعة وعجائبها، ويظل السؤال، لماذا أرغب بهذه المعرفة؟ هل ستزيد لي من مدخولي المالي؟ لا، هل ستجعلني هذه القراءة أصبح عالما بالطبيعة وأستطيع اكتشاف علاج لمرض عضال أو اختراع أو ابتكار؟ حتما لا، فذلك يتطلب الدراسة والعمل في مجال بحثي حرفي وفي بيئة أكاديمية بحثية، إذا ما الذي أجنيه من هذا النوع من القراءة الشخصية التي لن تقدم للعالم جديدًا ماديًا ملحوظًا؛ بل لن ينتبه أحد في الكرة الأرضية لأي تغير في معرفتي من هذه القراءة، وربما قد تندثر مع رحيلي من الحياة الدنيا؟ الجواب الأساسي هو أنني أستمتع بذلك أولا، وأشعر بالتكامل والتوازن بنفسي ثانيا. أقرأ لأن تلك القراءة تمنحني الشعور بالراحة داخليا، وربما هي بمثابة ما يشعر به من يتناول قطعة دسمة من كعكة الشوكولاتة. أقرأ لأنني أرغب بذلك.

قبل أن أختم المقالة، يجدر بي أن أقول إن هناك تأثيرات غير مباشرة وربما غير مقصودة لهذه القراءة لدي، فككل شيء نفعله، فإن هذه القراءة تغير من ذاتي وتظهر آثارها البسيطة جدًا على شخصيتي، وبين فترة وأخرى تصل لي رسالة من شخص لم ألتق به مسبقا ولا أعرفه شخصيا أنه تأثر بقراءة كتاب من كتبي المتواضعة جدًا في مجال العلوم الطبيعية وأن ذلك جعله يغير مسار اهتماماته قليلًا ليكون أقرب للدراسة العلمية والبحث الطبيعي، وهذا الأثر مع أنه ليس هدفي الأساسي من القراءة ولكنه حتمًا أمر يطرب مسامعي ويمنحني المزيد من الطاقة والدافعية للمعرفة والتعلم. ليكن شعارك أن تتعلم طالما قلبك ينبض بالحياة وعقلك لا يزال بحالة جيدة.