“لا وجود لمجتمع بلا طقوس” دوركهايم.
تعود كلمة الشعائر والشعيرة إلى معنى واحد ولها أصل في اللغة العربية، أما كلمة طقس فهي معربة من اللغة اليونانية ويُقصد بها “الترتيبات والنظم الروحية التي يجب مراعاتها في العبادة المسيحية من صلوات كلامية وحركات خشوعية أو رمزية، وهي بذلك تقابل الشعائر عند المسلمين” (سيساوي) ويتفق على ذلك عدد من الباحثين، في حين تشير التعريفات العامة إلى ارتباط الشعائر بتشريع ديني، وارتباط الطقس أكثر بممارسات جماعة محددة في المجتمع، لأن الطقوس تشتمل ضمن ما تشتمل على طقوس خاصة بالزواج والموت والاحتفال بالأعياد مثلا ، أي أن الطقوس إلى جانب حملها للدلالات الدينية ترتبط “بالعادات والتقاليد والقصص والأساطير وتختلط بالشعائر الدينية حيث ترتفع إلى مستوى العقيدة” (الحيدري) ، وتتصف هذه الممارسات الطقوسية “بتكرارها من قبل ممارسيها خلال أزمنة مضبوطة لإحياء واقعة مضت أو احتفاء بحدث يعني للجماعة أو لأحد أفرادها رمزيا الشيء الكثير” (المحواشي) مع التنويه إلى أن ” دراسة الطقوس والشعائر الدينية بطريقة عقلية مجردة وضع للمنهج في غير موضوعه، لأن الطقوس والشعائر الدينية موضوعة أصلا-في الغالب الأعم- خارج إطار العقل الإنساني، وتعليلها لا يستند إلى أي دليل حتى من العقل نفسه” وبذلك “يكفي من الطقوس والشعائر تحقق آثارها ومعقوليتها الروحية” إلى جانب أن “الغرض الأول من الشعائر هو تحصيل الأخلاق” (سيساوي) ،إذا الطقوس والشعائر الدينية هي وسائل لبث الروحانية، وفي الإطار الإسلامي يشير (الخباز) إلى أن الممارسون ينظرون للطقوس العبادية كممارسات عبادية، يقصدون بها قربة إلى الله تعالى، وبذلك نظرتهم تعبدية لها ، يميل بعض الباحثين إلى التفريق بين الشعائر والطقوس، فيقصرون الأولى على الممارسات الدينية المقدسة مثل مناسك الحج وأداء الصلاة في المساجد وهو الجانب العملي من العبادات، في حين تظهر الطقوس في الممارسات الدينية غير الملزمة وقد تكون مستحبة (إبراهيم الحيدري) وأجدني شخصيا أميل إلى هذا التفريق ما بين الشعائر والطقوس وهو الذي سأتبناه في بقية الموضوع.
وفيما يتصل بالطقوس الخاصة بجماعة/ مذهب محدد أجدني أتبنى رأي علي المؤمن “هناك فرقا جوهريا بين المذهب ومجتمع المذهب، وبالتالي فهناك فرق بين الشعائر الدينية للمذهب وطقوسه”، أي كما يعبر بين “الشعائر الدينية التي تحظى بأصول تشريعية وبين تلك التي أوجدها المجتمع لإحياء ذكرى دينية أو واقعة تاريخية ترتبط بأصول المذهب بصرف النظر عن قبولها أو عدم قبولها من الشريعة”. ويضيف: ” تمثل الطقوس هوية المجتمع بالدرجة الأساس، وليست هوية المذهب؛ بينما تمثل الشعائر هوية المذهب وليس المجتمع”. ولذلك فهو يرى أن “ممارسة الطقوس والعادات والتقاليد المجتمعية الصحيحة المنتمية الى المذهب؛ ممارسة مستحبة، وليست واجبة، ولا يترتب على تركها جزاء أخروي أو دنيوي. وقد يكون تركها مكروهاً ــ أحياناً ــ إذا ارتبطت بأصل شرعي واضح، بل تكون واجبة ــ أحياناً أخر ــ بالعنوان الفقهي الثانوي، إذا ما كانت تؤدي الى تقوية المذهب وتحمي دعائمه وتواجه الظالم الطائفي، استناداً الى حكم الفقيه وفتواه”.
وفيما يتعلق بالزيارة الأربعينية وهي مربط الفرس هنا (والتي سأتطرق لها في المقال المقبل) فهي جزء من الطقوس الحسينية، التي يؤديها المنتمون للمذهب الجعفري بشكل خاص لإحياء ذكرى مرور أربعين يوما على استشهاد الإمام الحسين. الطقوس الحسينية تستند أساسا على فكرة الإيمان بمظلومية الإمام الحسين وبأن ثورته كانت في أصلها ثورة إصلاحية، ترتب على التخلي عنها آثار ممتدة في الزمان والمكان.
الكلام في الشعائر الحسينية طويل ومتشعب، ولقراءة واعية وموضوعية أنصح بكتاب (تراجيديا كربلاء: سوسيولوجيا الخطاب الشيعي) لإبراهيم الحيدري، وللإفادة أشير إلى أن النواة الأولى لإحياء ذكرى كربلاء بدأت بعد مقتل الامام الحسين عليه السلام بفترة وجيزة حيث كان محبوه يتجمعون عند قبره وحسب المصادر فإن الصحابي المخضرم جابر بن عبدالله الأنصاري هو أول من جاء الحسين زائرا قبره في الأربعين، ثم زين العابدين ابن الحسين والنساء معه وهو اليوم الذي ردت فيه الرؤوس للأبدان وفي الرأي الأخير بعض خلاف.
وقد لعب الامام العابد علي بن الحسين الملقب بزين العابدين دورا محوريا في إحياء هذه الواقعة طوال فترة حياته باعتباره شاهد عيان على أحداث المعركة. أما الاحتفالات بيوم عاشوراء فقد بدأت منذ القرن الثالث للهجرة، على شكل زيارات منتظمة لقبر الحسين وإلقاء المراثي، والتجمع في بيوت أهل البيت عليهم السلام وتطورت بعد ذلك إلى أشكالها الحالية. وجدير بالذكر أن شعراء مثل السيد الحميري، والامام الشافعي والكميت الأزدي ودعبل الخزاعي كانوا من أهم الشعراء الراثين للإمام الحسين، وحسب (الحيدري) لا يوجد شاعر مشهور من شعراء العرب والمسلمين إلا وكتب في رثاء الحسين.
وإذا عدنا للطقوس المرتبطة بهذا الحدث فمع اشتراكها في الأصل الديني إلا أنها تختلف من دولة لأخرى ومن مجتمع لآخر من حيث التفاصيل والأعراف، بل وربما تتغير عبر الزمان والمكان، فهناك طقوس يتم ممارستها اليوم لم تكن موجودة قبل عشرين سنة مثلا، وقد سمعت قريبا من بعض الشباب الذين ينوون السعي مشيا من كربلاء حيث حفيد النبي الشهيد إلى النجف حيث مرقد الوصي علي بن ابي طالب في ذكرى وفاة النبي محمد (ص)، وهو طقس غير معروف أو مشهور حتى الآن، ولكنه قد يصبح ساريا وثابتا بعد سنوات حسب الظروف.
ومن جانب آخر فقد أدخل بعض المتطرفين بعض الطقوس الغريبة والمُستهجنة على الثورة الحسينية تُلقي بالنفس إلى التهلكة مثل الضرب بالحديد والتطبير، في حين أنها “ثورة علمية دينية وثقافية واصلاحية” وهي ” خلاف القرآن لأن من يعظم شعائر الله لا يخرج عن كتاب الله وتعاليمه” (القطان). وغنيٌ عن القول إن هذه الممارسات المتطرفة ( والتي تراجعت في العديد من الدول الإسلامية) ليست مقصورة على المنتمين لهذا المذهب بل هناك بعض الجماعات الصوفية من المذاهب الإسلامية الأخرى، وأقليات من ديانات وتيارات أخرى لها ممارسات مشابهة في إيذاء الجسد بهذه الطرق الوحشية.
وهذا ليس تبريرا لهكذا ممارسات قدر ما هو نقدٌ في أول الأمر لمن يعتقد أنها مقتصرة على فئة محددة، وثانيا هو انكارٌ ورفضٌ لهذه الممارسات الدموية التي يُشرك الأطفال فيها أحيانا ( وهو ما يمثل انتهاكا صارخا لحقوق الطفل بالمفهوم الإسلامي والمعاصر)، وهي دعوة للكف عن ممارسة التشويه الذي ألحق بالثورة الحسينية ، ونقدٌ لسكوت بعض أولي الأمر من فقهاء في تجريم ذلك ، واستنكار لبعض الخطباء و الرواديد (المنشدين) في الترويج والدفاع عن هذه الممارسات خاصة في العراق وباكستان.
وخلاصة القول الكثير من الأمم والشعوب لها طقوسها المقبولة، وبقاء هوية هذا المجتمع يرتبط ارتباطا وثيقا بممارسة هذه الطقوس، ولولاها لاندثرت الكثير من شعائر وطقوس وممارسات المجموعات الاثنية والدينية حول العالم.