من الأمور التي لفتت الإنسان ومنذ القدم تنوع أشكال الكائنات الحيَّة، فمن خلال محيطه الصغير لاحظ الإنسان أن هناك أصنافًا مختلفة من الكائنات الحيَّة، ويعد أرسطو من أوائل من حاول وضع تصنيف للكائنات الحيَّة، فقسَّم الكائنات الحيَّة إلى مملكتي النبات والحيوان، ومن ثم قام بتقسيم الحيوانات إلى حيوانات ذات دمٍ وأخرى عديمة الدم، وحيوانات تلد وأخرى تبيض، كما قام بتقسيم النباتات إلى أصناف حسب شكلها الخارجي.
وفي عصر الحضارة الإسلامية، ساهم عدد من علماء المسلمين بوضع تصنيفات مختلفة، منهم الجاحظ؛ حيث قام مثلا بتقسيم الحيوان إلى عدد من الأقسام منها ما يمشي، ومنها ما يطير، ومنها ما يسبح ومنها ما يزحف.
لكن كل هذا التقسيم كان قائمًا على متابعة الكائنات التي يمكن أن تُرى بالعين المجردة، ومع اكتشاف المجهر في القرن السابع عشر انفتحت للإنسان نافذة على عالم متنوع وغاية في الاتساع لم يكن يعرف عنه شيئًا، فلقد انكشفت له أصناف أخرى من الكائنات الحية ما كانت تخطر بباله، وتبين له أن هذه الكائنات هي التي تملأ الأرض وتغطيها؛ بل واكتشف لاحقًا أن بعضها استوطنت الأرض قبل الإنسان والحيوان والنبات! وتبيّن له ما هو أغرب من كل ذلك فبعض الأصناف التي اكتشفها تختلف تمامًا عن مملكة الحيوانات والنباتات فهي ليست كالحيوانات ولا كالنباتات!
ما لاحظناه أيضًا أن جميع الكائنات الحية المكتشفة تحتوي على وحدة أولية أطلق عليها “الخلية”، ووجد أن بعض الأصناف هي كائنات وحيدة الخلية ولا تحتوي على نواة بداخلها فأطلق عليها مسمى مملكة البدائيات ومن الأمثلة عليها “البكتريا”. وتبين أنَّ هناك صنفًا آخر من الكائنات الحية أطلق عليه الفطريات، وهي كائنات حية تشبه النباتات من حيث إنها لا تنتقل من مكان إلى آخر، لكنها لا تحتوي على صبغة الكلوروفيل التي تسمح للنبات أن ينتج غذاءه من عملية التمثيل الضوئي، ومن الأمثلة على هذا الصنف الفطر (المشروم)، فالفطر ليس نباتًا يُؤكل كما يظن البعض، ولذا يُمكن أن تشتكي على المطعم الذي تطلب منه طعامًا نباتيًا ويأتي لك بوجبة تحتوي على الفطر (المشروم)؛ فالفطر ليس نباتًا؛ بل هو من مملكة الفطريات!
وهناك صنف من شيء ما زال الخلاف محتدماً فيه بين علماء الأحياء، فلا نعرف هل يمكن أن نصنف هذا الشيء ضمن الكائنات الحية أم من الجمادات! وهذا الصنف يسمى الفيروسات؛ فالفيروسات لا تحتوي على خلية، باعتبارها الوحدة الأساسية للحياة، لكنها تحتاج إلى خلية كائن آخر حي لكي تعيش وتتكاثر من خلالها، والفيروسات في حد ذاتها تجمُّع لمركّبات كيميائية معقدة ولا حياة فيها، لكنها بمجرد أن تغزو خلية كائن حي حتى تبدو آثار الحياة ظاهرة جلية فيها، فتنمو وتتكاثر تمامًا كالكائن الحي. ومن أشهر الأمثلة عليها فيروس “كورونا” الذي عانينا منه جميعًا. وعلى الرغم من كل ما عانينا منه، فما زلنا لا نعرف بما نصنفه، أهو كائن حي أم جماد أم أمر بين أمرين؟!
وعلى الرغم من الجهود التي بذلها العلماء في تصنيف الكائنات الحية إلّا أنهم عجزوا- حتى اليوم- من إحصاء جميع أصناف الكائنات الحية، فلا يُعرف كم يبلغ عددها، لكن بلغ عدد أصناف الكائنات الحية التي تم وصفها وتصنيفها وتسميتها حوالي 1.2 مليون، ويعتقد عدد كبير من العلماء أن ما خفي أعظم من ذلك بكثير!
إنَّ التنوع البيولوجي الكبير في هذا الكون، يُعد إثراءً كبيرًا للحياة؛ بل لاحظ علماء الأحياء أن كل هذه الأصناف لها أهمية بالغة في استمرار الحياة، فبدون صنف من أصنافها ستتأثر جميع أصناف الحياة الأخرى، فالفطريات مثلا تؤدي دورًا مهمًا في تحلل بقايا جثث الكائنات الحيَّة، ولولاها لما استطعنا أن نعيش على ظهر هذه الأرض؛ لأن جثث الكائنات الحية كانت ستملأ هذه البسيطة.
ومن هنا نوَّهَ علماء الأحياء بأهمية الحفاظ على التنوع البيولوجي، فبدونه ستتعرض حياتنا للخطر الكبير، فالتنوع البيولوجي قوام الحياة وأساسه. وإذا كان التنوع البيولوجي أساس الحياة وقوامها الذي تتكئ عليه، فإن التنوع الفكري هو أساس الحضارات البشرية وقوامها الذي تتكئ عليه، فلا يمكن للحضارات البشرية أن تعيش دون تنوع فكري بين البشر، ولا يمكن أن تثرى الحياة بدونه. ولذا.. علينا أن نعتبر الاختلاف الفكري بين أفراد المجتمع الواحد، تنوعًا فكريًا يجب استغلاله لنثري به حياتنا ومجتمعاتنا، تمامًا كما إن التنوع البيولوجي يثري الحياة ويغنيها.
علينا أن نقاوم، وبكل ما أوتينا من قوة، كل محاولة من الغرب لفرض حضارته وقيمه على مجتمعاتنا الإسلامية بحيث تصبح مجتمعاتنا الإسلامية نسخة من تلك المجتمعات الغربية؛ لأنَّ ذلك يعني وأدًا للتنوع الفكري الذي تزدهر به الحياة، فإذا كان علماء الأحياء يحذرون من الخطر الكبير الذي ستتعرض له البشرية إذا لم تقم بواجبها للحفاظ على التنوع البيولوجي، فإننا نرفع التحذير نفسه أمام كل محاولة للقضاء على التنوع الفكري بين بني البشر؛ فالقضاء على التنوع الفكري سيُعرِّض البشرية لخطرٍ داهمٍ، لا يقل عن الخطر الناتج عن القضاء على التنوع البيولوجي.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس