حثني العديد من الأحبة والأصدقاء على كتابة تجربتي حول “المشاية” في الزيارة الأربعينية لمرقد الامام الحسين الشريف في مدينة كربلاء العراقية. وقبل أن اتوغل في الحديث عن هذه التجربة، لابد من مقدمة تشرح سياق الزيارة والمعنى. على الصعيد الشخصي ليست هذه زيارتي الأولى للعراق الحبيب. في طفولتي دأب والدينا على ربطنا بمحبة أهل البيت وزيارة المراقد الشريفة في سوريا وإيران والعراق (حتى في فترة الحكم الصدامي) كمعظم أسرنا في المجتمع والتي كانت ترتبط بمحبة فطرية وتعلق روحي صادق بأهل البيت وكنت أحب هذه النفحات الروحية وأشعر بالسلام بجوارها، وحين انتهيتُ من دراستي الثانوية، أخذني والدي لأداء مناسك الحج وزيارة الحبيب المصطفى وأهله الكرام في البقيع.
إلا وأنه ومنذ العام 2015 وهي أول زيارة لي بعد ما مر بالعراق من ظروف قاسية ومظلمة، وأنا أعيد اكتشاف كل شيء بمنظور جديد، وأغترف صنوفا أخرى من جمال العراق الذي دمره وهدره الطغيان ثم الاحتلال ثم الفساد، وبذلك اختلطت زياراتي المتعددة من العام 2015 بزيارات ثقافية وتاريخية وأيضا المشاركة في بعض المؤتمرات العلمية، وكان لاكتشاف بغداد لوحدي ذات مرة، ومع صحبة رائعة من الصديقات والكتاب والشعراء مرات أخرى (وهو اكتشاف آخر لجمال ومحبة العراقيين) ما أشبع شيئا من هذا الشغف بأعرق الحضارات على الأرض. العراق أيها الأصدقاء ليست كربلاء والنجف فقط، بل كنزٌ عالمي من التاريخ والآثار والحياة والمتاحف والمكتبات والمقاهي العتيقة وحكايات المارين والمظلومين والمقهورين والمتعبين والمبدعين والعشاق. العراق يفوق ألف ليلة وليلة سحرا وأسطورة ومغزى.
توقفت بعدها من الذهاب برفقة الحملات الدينية (وهي حملات عالية التنظيم تشبه حملات الحج والعمرة تسهل على الزائر الأمور اللوجستية من تأشيرة وسكن ونقل وطعام) التي كانت تنطلق من مسقط وعواصم أخرى ليس لعيبٍ فيها بل أشهد لها بالكفاءة والخبرة وحُسن التعامل، بل لأنها كانت لا تطفئ الظمأ المعرفي للتجوال في شوارع بغداد والمدن الأخرى واكتشاف المتاحف والآثار والمكتبات بل وحتى مقامات الأولياء من المذاهب والمشارب الأخرى. في زيارتي الأخيرة ولأن الانضمام إلى الحملات هو أفضل خيار إذا كان الهدف منصبا على زيارة مراقد أهل البيت (ع)، فقد انضممت بصحبة صديقات الطفولة إلى حملة بحرينية مميزة ببرامجها الدينية هي حملة الديري، ومن نتائجها الطيبة التعرف على نساء عذبات من الامارات والسعودية والبحرين وقطر.
لا أتوقع أن يتفق كل من سيقرأ المنشورات الآتية معي، وهذا أمرٌ طبيعي وسيبقى باب النقاش مفتوحا طالما لم تكن هناك إساءة وتنقيص وتعريض شخصي ففي هذا الشأن المرتبط بالشعائر والطقوس الدينية الخاصة بمذهب أو ديانة محددة نجد نقاشا منوعا ما بين معرض عن الكلمة أو راغب بالفهم، أو صاحب فضول، أو صاحب وعي، أو راغب في الإفادة وآخرون يفوقونا معرفة وعلما وأدبا فيثرون النقاش بمعرفتهم الجمة. تبقى هناك فئة من الناس كما لاحظتُ من منشورات ومناقشات سابقة وهي تقع في قسمين: القسم الذي يسفه هذه الممارسات ويعدها شركية، رجعية، ربما عن عدم فهم أو لأنها تمت إلى مذهب معين لا يستسيغه، أو لأنها تمت بصلة إلى ماضي آفل لم يعد مجديا الآن حسب ما يرى، وربما يغفل أن شعائر الحج، مثل السعي بين الصفا والمروة تعود إلى عصور أقدم من الإسلام حين سعت السيدة الجليلة هاجر بين الموقعين وهي وحيدة تلتمس الماء في أرض غير ذي ماء وزرع لأجل صفيها النبي إسماعيل. أما الفئة الثانية فهي التي تغالي في تقديس كل ما يمت لمذهبها وديانتها وأفكارها وهي لا تتقبل أي نقد أو تساؤل، ومثلما لاحظت فإن هذه الفئة مستعدة حتى لتجاوز المفاهيم القرآنية حول هذه الطقوس ومستعدة لإخراج صاحبها من المذهب وربما الدين كله والتشكيك به حتى على المستوى الشخصي.
في المنشورات الآتية سيكون هناك تمهيد أول حول الفرق بين الطقوس والشعائر، ثم التعريف بزيارة الأربعين وفكرة “المشاية”، ثم الحديث عن هذه التجربة من منظور شخصي مع بعض الصور التي التقطتها بهاتفي أثناء المسير.