العُمانية : يدرك العارف بتجربة الفنان العُماني حسن مير مساراتِ تجربته الفنية المغايرة، فهو ليس كغيره من الفنانين الذين يجدون حضورًا مباشرًا مع اللوحة التشكيلية حيث صدى اللون والفكرة، وإنما يقود الراصد إلى الوقوف مع تركيب الأعمال الفنية التي -دائمًا- ما تعكس روح الثقافة العُمانية وأصالتها المتوافقة مع التغيير، ومع الإرث الحضاري الذي هو نمط من أنماط تفكيره الفني المختلف. فهو ذلك الفنان الذي التصقت رائحة تربة أرضه به وظلت منعكسةً بتداخلاتها في أعماله، فمطرح التي شهدت ولادته الأولى تربّع حضورها الجمالي في حِلّه وترحاله، حيث أدبياته وثقافته الرصينة، ومن لا يعرف مطرح بمحافظة مسقط فهي ذات التأثير العالي في حياة كل إنسان على امتداد أفكاره وحضوره الاجتماعي والثقافي. لا تخلو أعمال حسن مير من الغرابة؛ فهو يكتشف ذواتها حيث التركيب المعزز بالرقمنة والفيديو، فمشاعره دائمًا ما تقوده إلى ما هو أعمق حيث روح الإنسان، مرورًا بالحياة والموت والميثولوجيا التي تكرّست مفاهيمها وتعاظمت منذ أزمنة طويلة، تلك الأعمال لا تخلو من السفر واكتشاف كل ما هو جديد وغير اعتيادي.
يأخذنا الفنان حسن مير لنقف معه وهو يسجل حضورًا نوعيًّا أثناء مشاركته في بينالي البندقية الدولي للفنون في دورته الـ 59 -الذي أقيم 22 أبريل ويستمر إلى 27 نوفمبر القادم، بمشاركة عدد من الفنانين العمانيين-، فيتحدث قائلًا: “المشاركة في حدث عالمي يمثل بحد ذاته إضافةً كبيرةً لمسيرتي الفنية من عدة نواحٍ، أولها أن بينالي البندقية تعتبر من أرقى المحافل الفنية المعنية بالفنون المعاصرة على المستوى الحرفي، حيث تعتبر المشاركة فيها إنجازًا رائعًا لأي فنان على مستوى العالم، وأتمنى أنْ تكون نتائج المشاركة فعّالةً ونستطيع أن نُعرّف بالفن العُماني المعاصر لجميع المهتمين بهذا الجانب.
ويضيف: “في السابق كانت لنا مشاركات مهمة واستطعنا أنْ نُعرف بالفن العُماني في بعض المعارض والمتاحف المهمة، ولكن هذه المشاركة تعتبر الأكثر أهمية في مسيرة أي فنان؛ لأنها مشاركة منظمة وباسم سلطنة عُمان ولها اهتمام خاص من النقاد والمهتمين”.
حسن مير مسكونٌ بتفاصيل الطفولة ودهشة المكان، مرتبطٌ بشكل كلي بتشكل دلالات الذاكرة، وكونه مشتغل بأدوات التغيير والتقنيات الحديثة التي أدت إلى بيان الفن المفاهيمي في صوَره الواسعة يفيد قائلًا: “الفنان جزء من منظور ثقافي متوارث، سواء كانت موروثًا فكريًّا أو اجتماعيًّا، والذاكرة أو المخزون الثقافي هو الرافد البصري للفنان، وإحيائها يتطلب ارتباطًا تجاه فهم الذاكرة واختزال المخزون”.
ويؤكد مير: “عشنا تغيراتٍ وتحولاتٍ كثيرة على النمط الفكري والبصري، وكانت الحكايات وقصص الطفولة لها دور في إثراء المخيلة لديّ بشكل عام، وطرحت أعمالي الفنية بعضًا من مشاهد الطفولة بطريقة عفوية تميل إلى التجريدية والألوان التعبيرية، وعلى صعيد الأعمال المفاهمية لي شغف بطرح أفكار مغايرة، والتعبير عن الفكرة باستعمال الصورة والصوت، وجسدتُ حكايات المدينة القديمة وذكرياتها بأسلوب قصصي مفاهيمي وقامت الصورةُ بالجزء الأكبر في إظهار العمل الفني، وفي أعمال أخرى اشتغلتُ علـى الرسائل القديمة والمقتنيات لصياغة القصة في العمل الفني”.
ولمطرح والبدايات تأثير نوعي في حياة الفنان مير، فقد أثّرت بأزقتها وأماكنها في مفهوم فنه التشكيلي، كما استطاع هو الآخر التواصل مع تلك الأمكنة وماهيتها عندما يشير: “عشتُ جزءًا من طفولتي في مطرح المدينة المختلطة بعدة ثقافات بحكم أنها ميناءٌ بحري مهم في المنطقة، وكان لي شغف بالقصص وبعض الخرافات المتوارثة، منها قصص المدينة التي كانت تُغلق أبوابَها مساءً والبحر الممتد إلى سواحل عدة والتجارة من العالم، واستلهمتُ من الأزقة وحكايات الناس مشاهد فنيةً؛ لأن الأبواب وأرواح الناس كانت متقاربةً ولم تطغَ عليهم الحياة المعاصرة والنمط الحديث من العيش، وهذه المشاهد بدأت بالاندثار وأغلب الناس رحلوا إلى أماكن جديدة وتركوا ورائهم ذكرياتهم”.
ولدراسة حسن مير لفنون الميديا والرسم في الولايات المتحدة ارتباط وثيق بنتاجه ـ وهذا ما أشرنا إليه في المقدمة أعلاه ـ ، الأمر الذي مهّد لاحقًا للدخول إلى أروقة صالة ستال للفنون، وفي هذه الصالة قام بأعمال مغايرة لا تخلو من الدهشة وفضاءاتها مع وجود مسابقات متواصلة خاصةً الأخذ بأيدي الشباب، هنا يطلعنا مير على تجربة صالة ستال وما حققتْه على مدى السنوات الماضية وما تقدمه من تجربة حديثة في هذا العام، ويعلق قائلًا: “دراستي الفنية كانت تجربةً مهمةً خاصةً في الولايات المتحدة -منبع الفن المعاصر-، حيث تعرفتُ على أصول الفن التجريبي واستخدام جميع الأدوات لصناعة المفاهيم أو الأعمال الفنية، وعند رجوعي من الدراسة كان لدي شغف كبير للمساهمة في تغيير نمط الفن التقليدي وإدخال التجارب الجديدة المعاصرة، واشتغلتُ في البدايات على عدة مشاريع مهمة للتعريف بالتجربة الفنية المعاصرة، منها معرض الدائرة الذي كان الرافد المهم للفن الحديث والمستقبل بسلطنة عُمان، فصالة ستال تُعد صالةً فنيةً عمانيةً صرفة غير ربحية، تتمحور فكرة وجودها حول تهيئة الشباب وإعطائهم تجارب مثمرة وجِدّية في الفن، ووقّعنا عدة اتفاقياتٍ مهمة مع مؤسسات عالمية لتبادل الخبرات في المجال الفني على صعيد الإبداع، منها برنامج الفنان المقيم ومعارض مشتركة، وصالة ستال لها دور كبير في إغلاق الفجوة الفنية والفراغ في الفن المعاصر بسلطنة عُمان من خلال إقامة معارض تجريبية مهمة وتعريف الناس بالمتغيرات العالمية على صعيد الفنون، كما تعمل في حقيقتها على تطوير الساحة الفنية في سلطنة عمان على وجه الخصوص والمنطقة الخليجية على وجه العموم، من خلال ما تقدمه من برامج فنية تسعى إلى تعزيز فهم ومعرفة الفنون البصرية الإبداعية، مرورًا بالتواصل مع مختلف مدراس الفن غير العربية للتعرف على الثقافات والهويات الفنية”.
ويشير الفنان حسن مير: “دائمًا ما تأتي تحت مسمى “جائزة ستال للفنانين الواعدين 2022م، وتصحبها الكثير من الأعمال في مجال الفن المفاهيمي للفنانين الشباب، وفي هذا العام تأهل للمنافسة كلٌّ من بشاير البلوشية وكوثر الحارثية وإسراء البلوشية وحورية الحراصية وخديجة المعمرية وعمار الكيومي وعامر الخزيمي”.
ويضيف حسن مير: “نحقق أهدافنا بشكل تصاعدي كل عام، خاصةً وأن هذه الدورة هي السادسة في مسيرتها التي نستقطب من خلالها الفنان العُماني في مجال الفنون التشكيلية بأفكار مغايرة، ونوجد ما يحفز مخيلته لتصبح تلك الفنون ضمن أطر فنية حقيقية”. وفي هذه المسابقة عمومًا نوجد للشباب حوارات فنية مع خبرات فنية وتجارب عالمية، وعملنا على تأسيس محطة فريدة لصناعة الفن منذ عام 2015، كما إنها الأولى من نوعها في سلطنة عُمان؛ لأنها تُقدّم الدعم الفني المباشر للشباب الصاعد والمحب للفن المفاهيمي”.
ويشير الفنان حسن مير إلى مسيرة الحركة الفنية في سلطنة عمان وما يتبعها من أعمال -كونه أحد أهم المشتغلين عليها-، وما حققته للفنان العماني ويوضح بقوله: “الفن العُماني بشكل عام بدأ بحب وإبداع لم تكن التجربة الفنية سهلة، بل كانت شاقةً والتجارب الأولى كانت جديةً وأغلبها تجارب واقعية ولكنها كانت مهمةً جدًّا؛ لأنها تعد الخطوات الأولى لتشكّل الفن في عُمان، وأما على صعيد الفن العماني المعاصر فهو مواكب لجميع المستجدات الفنية العالمية لوجود جيل شاب مبدع، وسوف يكون له دور ريادي في تعريف الفن الحديث للعالم مع وجود الوسائط السهلة لنشر أي تجربه فنية بالعالم، ولكن يجب أن نذكر أن كل هذه النتائج تحتاج أن تبقى أو تحفظ في متاحف بسلطنة عُمان، مع وجود أرشيف وطني لتتبع مسيرة كل تجربة”.
كمحطةٍ أخيرة في هذا التطواف وبعد كل هذا الحضور على مدى السنوات الماضية، يشير حسن مير إلى تلك العبارات المتمثلة في سوق الفن والتسويق الفني والمزاد الفني، وهي عباراتٌ كثيرة متداخلة، بقوله: “سوق الفن من المقومات المهمة لتنشيط الحركة الإبداعية في أي منطقة، ويستقطب الفنانين من مختلف الأقطار؛ لأنها توفر لهم استقرارًا معيشيًّا ومزيدًا من الإبداع”.
ويضيف: “الفنانون على مستوى العالم لديهم احتراف والتزام بالفن لوجود سوق فني نشط عندهم يمكنهم من العيش والإبداع، وهناك عدة عوامل تؤدي إلى استقرار الفنان واحترافه، مثل ضرورة وجود صالات عرض ومتاحف ومعارض للفنون بشكل مستمر مع وجود مقتنين ومهتمين بالفنون بشكل عام، ففي سلطنة عُمان على سبيل المثال لدينا جمهور فني وأغلبه من الشباب المحبّ للتغيير ومشاهدة المستجدات في الفن وأصبحت لديه ثقافة حضور الفعاليات الفنية وإسهامات بصرية لدعم المشهد الفني”.