Image Not Found

النهضة الحسينية وصراع الحضارات (7-10)

Visits: 16

صادق بن حسن اللواتي

(7)

عاد أمية إلى مكة بعد أن مكث في الشام و أقام بها عشر سنين و فقا لما حكم به المحكمون بين المتنافسين هاشم و أمية ، توطدت علاقة بنو أمية بالشام بعد عشر سنوات التي أمضاها أميه فيها ، دخل خلالها في تحالف مع بني كلب أكبر قبائل المسيحية في الشام و قد صاهرهم ثلاثة من بني أمية سعيد بن العاص و عثمان بن عفان و معاوية بن أبي سفيان . تعاظم دور بنو أمية التجاري و أصبحوا من المقربين من البلاط الروماني فكان أبو سفيان يلقى هرقل الروم و أمراء بيته ، علاوة على ذلك كان يلتقي بأمراء الدولة البيزنطية (*)، جمع أبو سفيان مجموعة من القبائل تحت قيادته من بني أمية وبني الحكم و بني المخزوم و خزاعة وبني النضير من اليهود إضافة إلى المرتزقة من الروم لحماية القوافل التجارية بين مكة و الشام حتى عُد أبو سفيان من رعايا الدولة الرومانية ، و بحكم هذا الولاء طمع أبو سفيان في ملك الحجاز و عند ظهور النبي الخاتم (ص) خاف أن تتبدد أحلامه في ملك الحجاز حاربه بشتى الطرق و الوسائل لإفشال الدعوة الإسلامية .

من هنا نستطيع أن نشير إلى النزعة السلطوية عند بنو أمية عملت على طرح نفسها في صيغة منهجية و نظرية في فهم النبوة ، و كانت هذه النزعة بداية مرحلة نشوئها لتمثل فيما بعد مشروعا دينيا لبث الاحتياجات الأيدلوجية لقطاعات اجتماعية طبقية معينة في مراحل التطور التاريخي لبلورة النظرة الرجعية . و قد وجدت هذه النظرة أرضية خصبة و عميقة على صعيد الفكر الديني ، و هذا الفكر الذي عبر على نحو متميز و خاص عن مطامح التقدم الاجتماعي و السياسي لبني أمية في الدولة الإسلامية ، و هذا الذي جعل من كعب الأحبار يبشر بخلافة معاوية في عهد عثمان بن عفان و هو يسير خلف عثمان : الأمير و الله بعده صاحب البغلة ! و أشار إلى معاوية ! فبلغ ذلك معاوية فأتاه فقال يا أبا إسحاق تقول هذا و هاهنا عليٌّ و الزبير و أصحاب محمد ( ص ) ؟ ! قال : أنت صاحبها ) (1) .

هذه الفكرة ظهرت على شكل الشعوبية في صيغتها الرجعية المناوئة للفكرالإسلام المحمدي الأصيل و قد صرح معاوية لمطرف بن المغيرة بن شعبة الذي دخل على معاوية مع أبيه في بعض الأيام فوجده مغتما فقال له ما لي أراك مغتما هذه الليلة فقال يا بني إن ابن أبي كبشة ليصاح كل يوم خمس مرات أشهد أن محمدا رسول الله ! فأي عمل لي يبقى، و أي ذكر يدوم بعد هذا به لا أبا لك! لا و الله إلا دفنا دفنا (2).

و في هذا القول إشارة واضحة إلى وجود تناقض بين الواقع الإسلامي الذي سجل نهوضاً حضارياً عميقأ منذ عصر التنزيل و بين الصورة التاريخية الممنهجة لواقع بني أمية حيال هذه الحضارة . و الحق أن هذا التناقض لا يمكن أن يكون ظاهريا بل هو متجذر في الفكر الأموي ، فهذا إبنه يزيد يصرح و هو يستشهد بأبيات عبدالله بن الزبعرى لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء و لا وحي نزل ثم يضيف عليها لست من خندف إن لم انتقم من أحمد ما كان فعل ، و أبو سفيان” دخل على عثمان حين صارت الخلافة إليه فقال: صارت إليك بعد تيم وعدي فأدرها كالكرة، و اجعل أوتادها بني أمية، فإنما هو الملك و لا أدري ما جنة و لا نار! فصاح به عثمان: قم عني فعل الله بك وفعل” (3) .

و على هذا النحو من النظر إلى الأمور لم يعد واردأ و مشروعأ أن نرى الواقع لغزا بل هي مرحلة فكرية خصبة بكل ما للكلمة من معنى تعيش فترات تاريخية ، و هذه الفترات ستكون إيذانا بانهيارالإسلام وفكر الإسلام على يد بني أمية ، لهذا كان لزاما على النبوة أن تكشف الأقنعة التي تسترت باسم الإسلام وتحذير الأمة الإسلامية من خطر قادم .

ففي تاريخ دمشق غزا عبدالرحمن بن سهل الأنصاري زمان عثمان ومعاوية أمير على الشام، فمرت به روايا خمر تحمل، فقال إليها عبد الرحمن برمحه فبقر كل راوية منها، فناوشه غلمانه، حتى بلغ شأنه معاوية فقال دعوه فإنه شيخ قد ذهب عقله فقال : كذب والله ما ذهب عقلي، ولكن رسول الله (ص) نهانا أن ندخله بطوننا وأسقيتنا، وأحلف بالله لئن أنا بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله (ص) لأبقرن بطنه أو لأموتن دونه) (4) .

و من هنا أصبح ضروريا أن نتعرض للمؤشرات الأساسية للإرهاصات التاريخية التي اعلنت عن نفسها على أيدي المؤرخين وعلماء الحديث، بتعبير أخر من الضروري أن نتقصى الرؤى و المواقف الممنهجة لبني أمية التي انطلقت منها في مواجهة الإسلام و رسول الإسلام .في الواقع إن الحروب التي قادتها بنو أمية لمواجهة الفكر الإسلام المحمدي الأصيل كان من خلال المساعدة الأجنبية و بشكل أدق كان الصراع بين الحضارة الرومانية و الإسلام ولكن من خلال وكلائها من المسلمين وهم بنو أمية هذا أبو سفيان يستعين باليهود ومرتزقة الروم في عملية الاغتيالات السياسية ،

ففي مروج الذهب أن الخليفة أبا بكر مات مسموما ” سمته اليهود في شئ من الطعام و أكل معه الحارث بن كلدة فعمي) ، أخرج ابن سعد والحاكم بسند صحيح عن ابن شهاب أن أبا بكر و الحارث بن كلدة كانا يأكلان خزيرة (لحم مثروم مطبوخ) أهديت لأبي بكر فقال الحارث لأبي بكر: إرفع يدك يا خليفة رسول الله ! و الله إن فيها لسم سنة و أنا و أنت نموت في يوم واحد! فرفع يده فلم يزالا عليلين حتى ماتا في يوم واحد عند انقضاء السنة) .

روى الحاكم في المستدرك عن داود بن يزيد الأودي قال: سمعت الشعبي يقول: والله لقد سم رسول الله (صلى الله عليه وآله) و سم أبو بكر الصديق، و قتل عمر بن الخطاب صبرا، و قتل عثمان بن عفان صبرا، و قتل علي بن أبي طالب صبرا، و سم الحسن بن علي، و قتل الحسين بن علي صبرا، فما نرجو بعدهم ) (5)، و قد قال الخليفة عمر لأصحاب الشورى ” إن اختلفتم دخل عليكم معاوية ابن أبي سفيان بجيشه من الشام ، و جيش عبدالله ابن أبي ربيعة المخزومي من اليمن” (6) ، ترى ماذا كان يملك معاوية من القوة العسكرية اللازمة في الشام لقلب الموازين لصالحه في الحجاز حتى يحذر الخليفة عمر أصحاب الشورى منه لو لم تكن هناك قوة عسكرية غير إسلامية تساند معاوية . و الحمد الله رب العالمين .

المصادر

(*) لا يوجد فرق بين الدولتين الرومانية والبيزنطية فكلاهما دولة واحد ، تعرضت للتقسيم عام 395 للميلاد فكان يطلق على الشق الشرقي للإمبراطورية الرومانية “الدولة البيزنطية” و على الشق الغربي ” الدولة الرومانية”

1 الطبري في تاريخه : 3 / 379 ، وتاريخ دمشق : 39 / 123 و 176 و 305 ، وجواهر المطالب لإبن الدمشقي : 2 / 183 ، وسنن الداني : 1 / 117 و 127 ، وابن أبي شيبة : 8 / 586 ، ونسخة وكيع / 91 ، وأنساب الأشراف للبلاذري / 1422 ، وسير أعلام النبلاء : 3 / 136
2 شرح نهج البلاغة 5129
3- الإستيعاب جزء 2 ص690 ، تاريخ الطبري جزء 11 ص 357
4-مروج الذهب ، لمسعودي ص 552 ، تاريخ الخلفا ء ص 61 ، جواهر التاريخ ، الشيخ علي الكوراني العاملي جزء 3 ص 210،
5- الحاكم ، المستدرك ، جزء 3 ص 59
6-تاريخ دمشق جزء 59 ص124 ، التحفة اللطيفة للسخاوي جزء 2 ص 35

(8)

التاريخ يسجل لنا الحوادث تسجيلا دقيقاً ، ويفسرها لنا تفسيرا صحيحاً ، وعندما نقول الحدث التاريخي فإننا نعني بذلك أن الحوادث التاريخية إنما تحدث في بيئة معينة وزمن معين ، لها صفتها الخاصة ، وشروطها المادية والاقتصادية والاجتماعية ، وفي وسط إطار عقدي له اتجاهاته و نزعاته ، وبين جماعات لها ميولها وطبائعها وأخلاقها ، ويشترك في ذلك الحدث أفراد يلعبون دورهم فيه برغبتهم و ميولهم و طبائعهم ، فالحوادث التاريخية تحدث ضمن عوامل تتداخل فيما بينها ليصبح الحدث التاريخي هو ما هو عليه.

لأقرب لكم المعنى في القرن الماضي كانت هناك هجرات من شبه القارة الهندية لجماعة الخوجة إلى مختلف دول العالم ، الخوجة كانوا على الديانة الهندوسية اعتنقوا الدين الإسلامي على يد الداعية الفاطمي (بير صدر الدين) اسماعيلي المذهب ، وهو من أطلق عليهم مسمى الخوجة ، هذه الجماعات لها ميولها و نفسياتها و طبائعها ، فعندما وطئت أقدامهم خارج شبه القارة الهندية اختلطوا مع القبائل العربية ، هذا الاختلاط لا يعني أنهم أصبحوا كيان واحد مع تلك القبائل العربية من حيث الهوية ،لأن الطبائع و الميول في علم النفس تعتبر من الأزمات التي يعيشها الإنسان ليس أزمة سلوكيات بل أيضا أزمة الرؤية ، لهذا عندما نرجع إلى الحوادث التاريخية بين الخوجة والقبائل العربية التي اختلطوا معها في العالم سنجد هناك حوادث حصلت ووقائع سجلها التاريخ كحمل ثقيل وقع على هذه البيئة أو تلك.

تماما عندما استتب الأمر لبني أمية في الشام وهاجر أمية إلى الحجاز كانت النزعة السلطوية مترسخة في ذهنه و قد ترجم أبو سفيان هذه النزعة وهذه الميول نحو السلطة في سلوكياته المناهضة للدعوة الإسلامية ، علاوة على ذلك ظهرت تيارات فكرية إلى جانب الفكر الإسلام المحمدي الأصيل مثل تيار الدهريين الذين لا يؤمنون بالآخرة وزعيمهم أبو سفيان ، واليهود الذين حرفوا الكلم عن موضعه ، وتيار آخر خارجي يرى نفسه القوة العظمى وله الحق السيادي في إتخاذ التدابير اللازمة لحماية مصالحه في الحجاز، وهو الدولة البيزنطية المسيحية ، هذه التيارات اجتمعت لمواجهة الرسالة المحمدية و لكنهم اجتنبوا المواجهة العسكرية معها في مكة لهذا ضيقوا عليها الخناق لتخرج من مكة فكانت الهجرة إلى يثرب.

هذه الحوادث التاريخية حصلت في مكه لهذا من الأهمية بمكان أن نعرف العوامل التي ساعدت في توجيه هذه الأحداث. ركزوا معي رجاء لأنني عادة لا أتطرق إلى كل التفاصيل التاريخية عندما أكتب في علم الاجتماع التاريخي ولكن هنا و جدت ضرورة لتوضيح بعض العوامل التي مهدت للنهضة الحسينية.
أولا : عامل الجماعات في نظامها وطبائعها ماذا يعني ذلك ؟ الجواب اتفق علماء الاجتماع إن البيئة الاجتماعية لها دور في إطار العلاقات التي تحدد ماهية حياة الإنسان مع غيره و هذه الماهية يحددها عنصرين رئيسيين :-

1- : العنصر المادي وهو كل ما يحصل عليه الإنسان في بناء حياة هادئة وما يصنعه من مسكن وملبس ووسائل نقل وأدوات يستخدمها في حياته اليومية. 2- : العنصر الغير المادي ويشمل عقائد الفرد وعاداته وتقاليده وأفكاره وثقافته. فإذا كان ما يحصل عليه الفرد من مقومات الحياة فعليه الحفاظ على هذه الحياة ، لهذا تجد أن الهنود الذين اعتنقوا الدين الإسلامي و كانوا رعايا للحكومة البريطانية لم يخرجوا عن حياة البيئة التي عاشوها ، ولو رجعنا إلى الوراء قليلا سنجد أن بنو أمية كانوا رعايا للدولة البيزنطية فهل خرجوا عن حياة تلك البيئة عندما هاجروا إلى مكة ؟ الجواب كلا ،و الدليل التاريخي أن هذه الدولة وقفت إلى جانب أبو سفيان في حربه مع الإسلام ونبي الإسلام.

ثانيا : عامل الأفراد الذين شاركوا في الحوادث التاريخية من حيث رغباتهم وطبائعهم ومن حيث مصالحهم. وهذا العامل لا أعتقد أنني بحاجة إلى تسليط الأضواء عليه فهو واضح من خلال حماية الدولة البيزنطية لمصالح بنو أمية خاصة وقد آلت أمور حماية القوافل في رحلة الشتاء والصيف إليهم.

ثالثا : عامل الأفكار و العقائد و الأنظمة التي تسود الأفراد و الجماعات. و عادة هذه الأفكار تكون على شكل نصوص يتبعونها و يلتزمون بتطبيقها ، و الرسالة المحمدية أيضا قامت على نص و واقع النص يعتبره البعض مظهر للمعرفة (1) و ذلك لارتباطه مع مجموعة من الثنائيات المتقابلة مثل : الإيمان مقابل العمل ، العقيدة مقابل الشريعة هذا من جهة ، و في جهة أخرى علاقة النص بالواقع الإنساني فقها وأصولا وتنزيلا.

رابعا : العامل الزمني ، لنوضح هذا العامل مثلا المجتممع الإسلامي بشقيه المكي والمدني هل كان يستوعب نظرية التعين في الحكم بعد خاتم الرسل (ص) أم لا ؟ إذا قلنا نعم كان يستوعب إذن لماذا انقسم المسلمون على أنفسهم في سقيفة بني ساعدة والحال إنهم جميعا بايعوا عليا يوم غدير خم بالخلافة بعد خاتم الرسل (ص) ؟ ، وإذا قلنا لا لم يستوعب إذن لماذ أخذ النبي الخاتم (ص) البيعة لعلي يوم غدير خم ؟ ركزوا معي على الجواب :- الثقافة السياسية التي وضعها النبي الخاتم (ص) في المنظومة الكاملة في المدينة كان لها ارتباط مباشر بمسائل الحكم جاءت على مرحلتين ، مرحلة قبل فتح مكة عام 8 للهجرة ، ومرحلة بعد معركة تبوك عام 9 للهجرة.

في المرحلة الأولى طرح النبي الخاتم (ص) مسألة التوحيد وترك عبادة غير الله عزوجل ، وطرحه (ص) كان ضمن نصوص مقدسة من القرآن الكريم ، وهذا النصوص لعبت دورا مهما في صقل عقلية الفرد المسلم نحو جهة واحدة والاستعانة بقوتها في كل وقت. هذه النظرية كانت بمثابة تحد لقوة أبو سفيان ، لأنه (ص) قفز من جهة النصح إلى جهة فتح نافذة نقاش فكري في علاقة النص التي يعتمد عليه أبو سفيان والنص التي يعتمد عليه خاتم الرسل (ص).

الأول شهد انتكاسه في البنية الفكرية بحيث جعل من الناس عبيدا له فعاش المجتمع المكي مرحلة اللاحسم بين الفكر والواقع للنص ، بينما الثاني شهد تغييراً كبير بين النص والواقع بحيث انتقل النص من النظرية إلى التطبيق فكان نتاج هذا التطبيق تحد صارخ لفكرة عبودية الإنسان للإنسان حيث ساعد في تشكيل شريحة من النخب المثقفة المسلمة التي تحملت سياط التعذيب والتشريد من بيوتهم ، هي نفسها التي حملت رسالة الإسلام إلى الناس مما أجبر المناوئين للرسالة الإسلامية أن يعيدون حساباتهم مع نبي الإسلام ودعوته.

وهذا ما وجدناه في سلوك ملك الحبشة النجاشي الذي وفر الحماية الكاملة للمهاجرين المسلمين إلى بلاد الحبشة والحال تعتبر بلاد الحبشة قاعدة عسكرية للإمبراطورية الرومانية ولا يمكن أن يتخذ أي قرار سياسي دون علمها فيما يتعلق بزعماء قريش خاصة أبو سفيان لأنه سيعكر صفو علاقاتهم ، وبالتالي سيؤثر سلبا على مصالح الروم في الجزيرة العربية ، وهذا ما حصل دخلت قبيلة بني كلب في الشام في مناوشات مع الغساسنة وهم حلفاء الإمبراطورية الرومانية .

لن أسهب كثيرا في هذه الجزئية المهم أبو سفيان أمسك هرقل الروم من يد التي توجعه ، وعليه اتخذ قرار اغتيال النبي الخاتم (ص) ضمن أولويات هذه المعادلة ،لهذا قرر خاتم الرسل (ص) الخروج من مكة إلى يثرب بعد تهيئة البيئة والظروف الملائمة التي ساعدته في الحفاظ على أتباعه و نشرالدعوة الإسلامية والابتعاد عن دائرة الخطر.

وبما أن قريش فرضت رقابة مشددة على كل الطرق المؤدية إلى مكة وبعلمها بعدم وجود القوة اللازمة عند خاتم الرسل (ص) التي تستطيع حمايته ، تدخلت العناية الإلهية في تسهيل مهمة خروجه (ص) من مكة ليلا ، سالكاً الطريق الساحلي المؤدي إلى غار ثور. دخل (ص) المدينة في يوم السابع والعشرين من صفر من السنة الثالثة عشر للبعثة النبوية الشريفة . والحمدالله رب العالمين .

المصادر
1- النص القرآني أمام إشكالية البنية والقرأة ، طيب تزيني ، ص 11 وما تليها

(9)

دخل الرسول الأعظم (ص) يثرب. ويثرب نسبة إلى يثرب بن قاينة بن مهلائيل سميت بالمدينة حسبما جاءت التسمية في القرآن الكريم ” ومن أهل المدينة مردوا على النفاق ” (1). علماء الاجتماع اعتبروا هذه التسمية بداية بناء أسس الدولة المدنية. سؤال : إذا اعتبرنا أن مشروع النبي الخاتم (ص) حين وصوله إلى المدينة هو بناء الدولة المدنية ، ترى هل توفرت لديه (ص) مستلزمات بناء هذه الدولة أم لا ؟

ركزوا معي على الجواب :- سن أبو سفيان وزعماء قريش قانون المقاطعة ، وتفعيل سياسة الحصار الاقتصادي والاجتماعي لبني هاشم ، وإعمال سياسة التجويع الجماعي لهم ؛ دخل الرسول الأعظم (ص) معهم في مفاوضات من أجل رفع الحصار إلا إنهم رفضوا ذلك مما أدى إلى الهجرة إلى يثرب وخروج النبي الخاتم (ص) من مكة دون علم قريش مع وجود الرقابة المشددة على الطرق المؤدية إلى مكة. هذه الصعوبات والتحديات السياسية جاءت لصالح الرسالة المحمدية يمكن قرأتها على النحو الآتي :-

أولا : قلق الدولة البيزنطية وخوفها على مصالحها في الحجاز بسبب قانون المقاطعة.
ثانيا : الضغط الداخلي الذي مارسته قريش بزعامة أبو سفيان لإجهاض الدعوة الإسلامية في وقت كانت قلوب أتباع النبي الخاتم (ص) تنبض بحبهم لهذه الدعوة مما قد يؤدي إلى اندلاع ثورة على قريش وقيام دولة مستقلة في مكة على الحدود مع الدولة البيزنطية وهذا ما لا تريد حدوثه لهذا اتخذت سياسة ضبط النفس على النحو التالي :-

1- التريث وعدم الدخول في المناوشات مع الرسول (ص) وأتباعه لأنه ليس من صالحها. 2- عدم تلبية رغبة أبو سفيان في ملاحقة المسلمين الذين هاجروا من مكة إلى المدينة وقطع الطريق عليهم ، وهذا سيأتي بنتائج عكسية منها :
1- ستنقطع العلاقات التجارية بين المدينة والدولة البيزنطية خاصة وأن المدينة كانت مشهورة بالزراعة وصناعة الأسلحة ، والرسول الأعظم (ص) خبير في فن التجارة فقد مارسها في مكة قرابة أكثر من 20 سنة. 2- أقوى قبائل العرب في المدينة الأوس والخزرج دخلت في حلف استراتيجي تجاري مع الرسول الأعظم (ص). 3- المدينة محاطة بالجبال والصخور فلا يستطيع أي جيش مهاجمتها إلا من اتجاه واحد مما يسهل على النبي الخاتم (ص) هزيمتهم.

بهذه المعطيات أمن الرسول الأعظم (ص) إنه لن يدخل في حرب مع الدولة البيزنطية وحلفائها من بني أمية في القريب المنظور، فاختياره يثرب للهجرة إليها كان دقيقا ومدروساً في آن واحد. بهذا المعنى أصبح مفهوم الإسلام ممكن طرحه للناس في المدينة على شكل صيغتين هما :-

أولا : يمكن الارتباط بالإسلام بحدود الاستطاعة الممكنة والمصلحة المعتبرة. ثانيا : إذا لم تتوفر الاستطاعة ولم تتحقق مصلحة تطبيقه فهو خارج عن دائرة التكليف إلى أن تتحقق القدرة على تطبيقه. إذن بهذه الصيغة التوفيقية في الأحكام وتغييرات الواقع ، يكون النبي الخاتم (ص) قد سجل حضوره في كل عصر، هذه القفزة فتحت باب لقيام الدولة المدنية وظهرت ملامحها كالآتي :

أولا : قبول التعددية الفكرية كالذي حصل مع نصارى نجران حيث قبل منهم (ص) الجزية مع بقائهم على عقيدتهم المسيحية ، قبول الجزية أعطى دلالة واضحة أن التوحيد هو مركز التشريع ، وأهمية التعددية تكمن في تحقيق التعايش وخلق فضاء التقارب والتداخل بين مختلف الاتجاهات وبأن المجتمع مكون من روابط سياسية وغير سياسية ، من هنا تشكل مقوم أساسي للدولة المدنية وهو إخراج الفرد من منظومة تعدد الألهة ومجتمع واحد إلى إله واحد ومجتمع متعدد.

ثانيا : يجب مراعاة المسافة بين النص وتطبيقه ، فثمة قواعد تحكم فهم النص ، وثمة قواعد تحكم التطبيق وهذا يؤدي إلى إيجاد مجتمع مدني من خلال تطور الفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي مثلا جواز أكل طعام أهل الكتاب أو جوازالزواج من أهل الكتاب. ثالثا : وضع سياسة شرعية في الحكم وهو الإنتقال من مبدأ سيادة الوحي والسماء إلى مبدأ سيادة القانون والعقد الاجتماعي في الأرض فالبيعة ستكون جزء من العقد الاجتماعي.

فانتخاب الحاكم يتم من خلال الشعب ومحاسبة الحاكم تتم من خلال الشعب أيضاً ، هذا الانفتاح على جميع المحاور تعاظمت فيه قوة الرسول الأعظم (ص) في الجزيرة العربية سياسيا حيث دخلت قبائل قوية تحت مظلة الإسلام ، كقبيلة بني شيبان والتي كان أبو سفيان يحسب لقوتها وخبرتها القتالية وعلاقاتها الوطيدة مع الفرس ألف حساب ، وعسكريا اعتناق قبيلة بهراء وأياد والأزد وبني قيس الإسلام وهم المعروفون بشدة بأسهم في القتال. هذه التحالفات القبلية مهدت لفتح مكة بعد نقض قريش صلح الحديبية هنا اضطرت قريش مهادنة الرسول الأعظم (ص) ودخل بنو أمية في الإسلام ، توسعت الرقعة الجغرافية للدولة الإسلامية وصلت إلى البحرين واليمن وعمان فأصبح نشر رسالة الإسلام إلى العالم متاحاً.

هذا الفهم السياسي النبوي لا يمكن أن يلتبس على أحد ، بالنتيجة لن نجد رئيس قبيلة أو أي رمز كبير في المنظومة الاجتماعية مهما كان كبيراً ، ولا حزباً سياسياً مهما نظّر وفكر، من أن يفكر بالاستيلاء على قمة السلطة بسهولة. فتم توجيه الناس إلى فهم السياسة من خلال الدين وليس العكس.
وبفتح مكة انهارت جدران الشرك وسقطت المقاومة السفيانية وطهر بيت الله الحرام من مظاهر الوثنية وأطلق خاتم النبيين (ص) على هذا اليوم اسم يوم المرحمة ، يوم تحمى فيه الحرمه ، فخاطب الذين حاربوه وشردوه وعذبوا أتباعه ما تظنون أني فاعل بكم ؟ قالوا أخ كريم وابن أخ كريم ، هنا تجسدت رحمة الله الواسعة ، فقال لهم : إذهبوا فأنتم الطلقاء.

توارى أبو سفيان وبنو أمية خلف هذا الستار وقد أدرك المسلمون الأوائل أن الوجود الأموي سيعمل على تنظيم صفوفه خاصة بعد أن أخبر النبي الخاتم (ص) المسلمين عن الرؤية في المنام أن بنوأمية ينزون على منبره إنزواء القردة ، وهذه الرؤية صادقة تكشف عن الموقف الأموي لمواجهة الفكر المحمدي الأصيل ، فلم يدخل الإيمان في قلوبهم ، بل ظلت تختزن أحقاد الماضي عليه وعلى الطليعة التي حذت حذو الرسول (ص) وحققت الانتصارات معه (ص) وهو علي بن أبي طالب ، الذي لا تأخذه في الله لومة لائم ، قد وتر فيهم صناديد العرب وقتل أبطالهم وناوش ذؤبانهم. والحمدالله رب العالمين.

المصادر
سورة التوبة ، آية 101

(10)

مكة أصبحت أحد أقاليم الدولة المدنية التي أقامها الرسول الأعظم (ص) وكذلك بعض الأقاليم من البحرين وعمان واليمن أصبحت جزء من هذه الدولة أيضاً ، ولكن هذا الفتح تعرض لتهديدات خارجية حاكها بنو أمية مع قبيلة بني كلب في الشام بعد أن دخلت بعض العشائر الكلبية في الإسلام ظاهرا كعامل استفزازا للدولة البيزنطية و لبيان إن خطر الإسلام بات قريباً منها ،وهو ما كان يريده أبو سفيان للإنتقام منها وقطع ذراع الإمبراطورية الرومانية من الجانب الغربي ، ليكون لبني أمية اليد الطولا فيها. وجاءت هذه الفرصة عندما مزق الحارث بن شمر ملك الغساسنة رسالة خاتم الرسل (ص) التي يدعوه فيها إلى الإسلام من بين جملة من الرسائل التي أرسلها إلى ملوك الأرض ، وحسب البروتوكولات الرومانية ، أبلغ الحارث بن شمر قيصر الروم بنيته غزو المدينة وإنهاء الدعوة الإسلامية و إعادة الأقاليم التي احتلها بزعمه النبي الخاتم (ص) ، لم يبدي قيصر الروم أي ردة فعل سلبي تجاه نية الحارث بن شمر، وصل خبر الحارث إلى الرسول الأعظم (ص) فقال ” باد ملكه ” أي زائل لا محال.

مع تحرك الجيش البيزنطي نحو المدينة ، قسم الرسول الأعظم (ص) جيشه إلى 3 أقسام ، قسم خرج معه (ص) وقوامه 30 ألف جندي في مقابل 40 ألف جندي بيزنطي ، قسم جعله للتدخل السريع إذا ما رجحت كفة البيزنطيين في المعركة ، وقسم يحمي المدينة ووضعهما تحت إمرة علي بن أبي طالب الذي كان يريد الخروج مع النبي الخاتم (ص) . خطط بنو أمية اغتيال الرسول الأعظم (ص) في هذه المعركة التي سميت بغزوة تبوك في مؤامرة سميت في كتب التاريخ بمؤامرة العقبة (2) ، وقد كشف القرآن الكريم هذه المؤامرة والتي باءت بالفشل ” وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا ۚ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ” (3) وكان أبو سفيان ممن اشترك مع المنافقين في هذه المؤامرة فلم يكن إسلامه سالما فهو لم يألوا جهدا في إبراز حقده على الإسلام ونبي الإسلام ، فيوم حنين عندما انهزم المسلمين عن النبي الخاتم (ص) قال أبو سفيان ” لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، وإن أزلالام لمعه في كنانته “.

ورغم كل هذا فإنه حصل على حصة كبيرة من غنائم معركة حنين قال النبي الخاتم (ص) لبلال زن لأبي سفيان أربعين أوقية من فضة ومائة إبل ، نظرإليه أبو سفيان فبلال الذي كان عبدٌ يباع ويشترى أصبح أقرب المقربين لزعيم الدولة يعطي هذا وذاك لزعماء قريش الذين كانوا يوما أسياده ، حقيقة انقلبت الموازين رأساً على عقب فأصبح ذليلهم عزيزا وعزيزهم ذليلا . ولم يكتفي أبو سفيان بحصته من الغنائم بل طلب لابنه يزيد أيضا ، فقال النبي الخاتم (ص) يا بلال زن ليزيد أربعين أوقية من فضة ومائة إبل وهذا رقم ضخم وهائل يعتبر فدية قتيل مائة إبل.

اختفى أبو سفيان والأزلام الذين كانوا معه عن الأنظار وابتعدوا عن الأضواء عندما رأؤوا أن الخلافة بعد النبي الخاتم (ص) ذهبت إلى بني هاشم يوم غدير خم فأعادوا تنظيم صفوفهم بغية الوصول إلى السلطة. من هنا بدأت أول خطة أبو سفيان هو إبعاد بنو هاشم عن الخلافة واغتيال عناصر الدولة الإسلامية ، اشتد تحالف أبو سفيان مع اليهود فسم أبو بكر ومات ودفن ليلا (4) واغتيل عمر بن الخطاب على يد أبو لؤلؤة المجوسي الذي كان غلاما عند المغيرة بن شعبة ، والأخير كان مناصرا للبيت الأموي (5).

تذكر كتب السير أن كعب الأحبار دخل الإسلام في عهد الخليفة عمر وهو يريد بيت المقدس فمر على المدينة فخرج إليه عمر فقال له يا كعب أسلم فقال كعب ألستم تقرأؤن في كتابكم ” مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا ” (6) فأنا أحمل التوراة فتركه. دخل كعب الأحبار حمص والتقى بمعاوية بن أبي سفيان وحصل تنسيق بينهما على إعلان كعب إسلامه (7) عندها سكن معاوية اليمن حيث يسكن كعب الأحبار من هناك أرسل رسالة إلى أبيه أبو سفيان ينذره من مغبة دخوله الإسلام وبدأت المؤامرات الأموية ضد الإسلام ونبي الإسلام وضد العناصر المحيطة به (ص) (8).

وهذا يؤكد أن البيت الأموي لم يصل إلى سدة الحكم مباشرة دفعة واحدة بل هناك محطات عبروا من خلالها إلى السلطة ، فكانت بدايتها حين استعمل النبي الخاتم (ص) يزيد بن أبي سفيان في مهمة جباية الصدقات من قبيلة كنانة في الشام وهم أخواله ، فكانت هذه الخطوة الأولى في تثبيت أقدامهم في الشام ، ثم جاءت ولاية معاوية على الشام في عهد الخليفة عمر بن الخطاب الذي فتح مجال لبني أمية في مناصب الدولة ، علاوة على ذلك أرجع الخليفة عمر كعب الأحبار واليهود إلى وادي القرى وهي على الحدود الشمالية لجزيرة العرب وهي الموطن الأصلي لليهود وكانت ضمن إمارة معاوية فأعطى لهم الأراضي لتقوية سلطانه ، علما أن الرسول الأعظم (ص) أخرجهم من وادي القرى.

أصبح الطريق سهلا لاغتيال الخليفة عمر وإلصاق التهمة بعبد فارسي كان عند المغيرة بن شعبة ليقول الناس أن الخليفة عمر فتح بلاد فارس فأراد هذا العبد المجوسي أن يشفي غليله منه علما أن بنو أمية كانوا يتعصبون لعروبتهم فكيف أوى المغيرة هذا الفارسي ليعمل لديه مع أن الخليفة عمر منعه عن إيوائه.

ثم جاء دور الخليفة عثمان بن عفان الذي فتح المجال لبني أمية للتدخل في شؤون الخلافة الإسلامية ،و أعطى صلاحيات كبيرة لمعاوية في الشام ، وقد صرح أبو سفيان عندما جاء إلى قبر حمزة بن عبدالمطلب ورفس قبره مخاطباً إياه ” إن الأمر الذي كنت تقاتلنا عليه بالأمس قد ملكناه اليوم وكنا أحق به من تيم وعدي” (9). علما أن الخليفة عثمان أوى معاوية بن المغيرة بن أبي العاص بعد صدور أمر نبوي بالقبض عليه في قضية التمثيل بجثة حمزة بن عبدالمطلب بعد معركة أحد ، حيث دخل معاوية بن المغيرة المدينة كجاسوس لأبي سفيان ، وحانت ساعة الصفر لتصفية الخليفة جسدياً.

تحرك الحزب الأموي بقيادة المغيرة بن شعبة وكعب الأحبار وأججوا نار الفتنة وقضموا مالا الله دولا فكانت القشة التي قصمت ظهرالبعير، ثارت المدن الإسلامية ضد الخليفة حتى اجهزوا عليه ، وقد طعنه الصحابي عمرو بن الحمق الخزاعي بطعنات أردته قتيلا. بنو أمية أخفوا هويتهم في التخطيط لاغتيال الخليفة عثمان ، وعلق معاوية قميص عثمان الملطخ بالدم على منبر الشام طالباً بثأره ، ورافعا شعار يالثارات عثمان لتذهب بذلك هيبة الخلافة الراشدة أدراج الرياح.

استقوى معاوية على الشام وبات إعلان قيام الدولة السفيانية تحكم الممالك الإسلامية بمساعدة الروم و بثوب إسلامي قريب جدا ، بقي الإطاحة بآخرعنصر إسلامي الذي يمكنه وبجدارة من إفشال المخطط الأموي ضد الإسلام ونبي الإسلام وهو علي بن أبي طالب. الحمد لله رب العالمين.

المصادر
1-الكامل في التاريخ ، ابن الأثير جزء 2 ص 278،
2_منتخب كنز العمال 5 / 234. الاستيعاب بهامش الإصابة، ابن عبد البر الأندلسي ص 372 طبعة دار إحياء التراث العربي ، بيروت – شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد جز 6 ص 290-291
3- سورة التوبة آية 74
4- العقد الفريد ، عبد ربه ، جزء 4 ص 250 ، طبيقات ، لأبن سعد جزء 3 ص 207
5- الإمام الحسين ، عبدالله العلايلي ، ص 30- 31
(6) سورة الجمعة آية 5
(7) الدر المنثور ،جلال الدين السيوطي ، جزء 2 ص 169
(8) راجع كتاب المفاخرات ، الزبير بن بكار ، والأضواء على السنة المحمدية لعالم الأزهر محمود أبو ريه
(9) النزاع والتخاصم ما بين أمية وبني هاشم ،تقي الدين المقريزي ، ص 84