Image Not Found

النمور الآسيوية الجديدة: أوزبكستان ودول آسيا الوسطى

محمد بن أنور اللواتي ** – الرؤية

آسيا الوسطى أو بلاد ما وراء النهر- كما كانت تعرف إبان الفتوحات الإسلامية؛ حيث كان للقائد العُماني المهلب ابن أبي صفرة دورًا أساسيًا في فتحها قبل فتحها النهائي بقيادة قتيبة بن مسلم الباهلي- هي منطقة جغرافية تقع في منتصف قارة آسيا، وتضم خمس جمهوريات سابقة في الاتحاد السوفييتي، وهي: أوزبكستان وكازخستان وتركمستان وطاجيكستان وقيرغيزستان، وتعرف أيضًا بـ”الستانات” الخمس.

ظلت هذه المنطقة إحدى أهم الحواضر الإسلامية، ومنها تدفق أشهر العلماء المسلمين في العلوم المختلفة، مثل: الخوارزمي والترمذي والفارابي والبخاري وأبو الريحان البيروني وابن سينا والزمخشري. كما سيطرت عليها عددٌ من الدول الإسلامية كالدولة السامانية، والخانيات المختلفة التي حكمت مناطق محددة، والدولة الغزنوية، والدولة السلجوقية قبل الغزو المغولي، والدولة التيمورية. وفي منتصف القرن التاسع عشر صارت المنطقة جزءًا من الإمبراطورية القيصرية الروسية، ومن ثم دخلت ضمن منظومة الاتحاد السوفييتي حتى نالت استقلالها عام 1991م بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي.

ورغم جُغرافية دول آسيا الوسطى غير المطلّة على البحار المفتوحة، فإنها تتمتع بموقع جغرافي فريد يربط الشرق بالغرب. وتقع هذه الدول على “طريق الحرير”، ذلك الطريق التجاري المهم الذي ربط الصين بغرب آسيا وأوروبا منذ قرون عديدة. وطريق الحرير هو مجموعة من الطرق التي تربط الصين بدول العالم، وقد سميَّ بهذا الاسم نسبة إلى الحرير الذي كان إحدى السلع الأساسية التي تنقل عبر هذا الطريق، إضافة إلى سلع أخرى متعددة مثل العطور والقطن والتوابل والأحجار الكريمة، والتي تتغير بتغير الأزمنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والعلمية، وحتى الدينية. احتكرت الصين صناعة الحرير لعقود من الزمن، فكان عبوره إلى العالم عبر هذا الطريق، فازدهرت المدن المطلة على هذا الطريق، وأصبحت مراكز علميّة وثقافيّة، فضلًا عن كونها مراكز اقتصادية. كما ساهمت حركة التجارة الواسعة في آسيا الوسطى في دخول ثقافات وديانات مختلفة إلى هذه المنطقة.

بعد تفكك الاتحاد السوفييتي في أغسطس من عام 1991م، نالت دول آسيا الوسطى استقلالها. وقررت بعض حكومات دول آسيا الوسطى اتباع نهجٍ مختلفٍ كليًّا؛ من الانعزال والانطواء على الذات إلى سياسات وأنظمة سياسيّة واقتصاديّة منفتحة متبعة نهج اقتصاد السوق. سبقت كازخستان -الدولة الغنية بالنفط- جيرانها في اتباع نهج السوق عبر القيام بخطوات إصلاحية، منها: إعادة صياغة قوانينها وأنظمتها، وخصخصة شركاتها.

تشكل جمهورية أوزبكستان الثقل الديمغرافي الأكبر في آسيا الوسطى؛ حيث يبلغ عدد سكانها أكثر من 35 مليون نسمة، وتتمتع بنمو سكاني سنوي يتجاوز 700 ألف نسمة، ويبلغ متوسط العمر 28 سنة؛ فهو مجتمع فتي تمثل ديمغرافيته محرّكًا هائلًا للنمو. وتتشكل أوزبكستان من مجموعات عرقية مختلفة تبنّت عقدًا اجتماعيًّا بالاعتراف بالتنوع العرقي وحتى الديني؛ ما وفر شبكة أمان واستقرار اجتماعي. والأوزبك هم أكبر المجموعات العرقية في البلد؛ إذ إنهم يمثلون أكثر من 80% من عدد السكان، إضافة إلى الروس والطاجيك والكازخ والكاركالباك والتتار وغيرهم.

ظلت أوزبكستان بعيدة عن التفاعُل العالمي الخارجي طوال فترة سيطرة الاتحاد السوفييتي، رغم أنها كانت مركزًا ثقافيًّا ودينيًّا واقتصاديًّا خلال العصور الماضية. واستمرت في انتهاج سياسات منغلقة نسبيًّا حتى بعد سقوطه. وبعد وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف عام 2016، أصبح شوكت ميرضيائيف ثاني رئيس لأوزبكستان، وشكل ذلك الحدث منعطفًا أساسيًّا في انفتاح أوزبكستان باتباع سياسة تدريجيّة لتحرير الاقتصاد بعد سنوات من سيطرة الدولة. وفي عام 2017م أطلقت الحكومة برنامجًا إصلاحيًّا اقتصاديًّا عرف باستراتيجية التنمية، ركز على خمس ركائز أساسيّة: تحسين الإدارة العامة وبناء الدولة، وضمان سيادة القانون وإصلاح النظام القضائي والقانوني، والحفاظ على التنمية الاقتصادية وتحرير الاقتصاد، وتعزيز شبكات الأمان الاجتماعي، وضمان الأمن والوئام وتنفيذ سياسة خارجية بناءة ومتوازنة.

تمثل هذه السنة العام السادس منذ انطلاق إصلاحات السوق الطموحة في أوزبكستان. منذ ذلك الحين خضعت أوزبكستان لإصلاحات اقتصادية واسعة، وعملت على جذب الاستثمار الأجنبي، وتحسين جودة التعليم، وإصلاح النظام القضائي، وتحرير البيئة التشريعيّة وتنظيمها، وإزالة اللوائح الصارمة المفروضة على الشركات والتجارة، وزيادة الشفافية. وأشاد صندوق النقد الدولي في تقريره الأخير عن أوزبكستان بـ”التدابير الرامية إلى تقليص دور الدولة من خلال خصخصة البنوك والشركات المملوكة للدولة، وفتح الأسواق أمام الشركات الخاصة، وتعزيز المنافسة والحوكمة”. بعد مضي أكثر من خمس سنوات على بداية حقبة الإصلاحات، تشهد أوزبكستان اليوم طفرة اقتصادية، وتطورًّا سريعًا في مناحي الحياة المختلفة لتصبح أحد النمور الآسيوية الجديدة، والاقتصاد الأهم والأكثر جاذبية في آسيا الوسطى.

وبلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي نحو 5% خلال السنوات القليلة الماضية. وبسبب جائحة كوفيد-19 تباطأ النمو الاقتصادي عام 2020 إلى 3.4%، إلّا أنه تسارع إلى 7.4% خلال العام الفائت. ويتوقع صندوق النقد الدولي ارتفاع النمو إلى 3.4% هذا العام نتيجة تأثّر سلاسل التوريد بسبب الحرب الروسيّة الأوكرانيّة؛ ليرتفع مرة أخرى إلى 5% العام المقبل.

وتتمتع أوزبكستان بثروة طبيعية هائلة؛ فهي غنية بالذهب والفضة والنحاس واليورانيوم والفحم والغاز الطبيعي، فهي ثامن أكبر منتج للذهب في العالم، كما تُشكل الأراضي الزراعية والمراعي أحد الموارد الأساسيّة، فهي سابع أكبر مُنتِج للقطن في العالم، وأحد منتجي أجود أنواع الفواكه والخضراوات، وتمتلك إمكانات كبيرة لتطوير الطاقة المتجددة من الشمس والرياح. إضافة إلى الموارد الطبيعية، تشكل الزراعة عمودًا أساسيًّا في الاقتصاد، إذا إنها تشكل نحو 20% من الناتج المحلي الإجمالي. كما إن التصنيف الائتماني لأوزبكستان هو BB- حسب وكالة فيتش للتصنيف الإئتماني، وهو التصنيف الائتماني السابق نفسه لسلطنة عُمان قبل رفعه في منتصف شهر أغسطس.

ورغم التحديات الجغرافية الجمّة التي تواجه أوزبكستان نتيجة عدم إطلالها على المياه المفتوحة، وعدم جوارها لأي بلد مطل على البحار، يحيط بها نحو ثلث سكان العالم. وتتمتع أوزبكستان ببنية تحتية جيدة منذ فترة الاتحاد السوفييتي تربط بينها وبين الدول المجاورة. كما تعمل الدولة على تطوير البنى التحتية، وإضافة خطوط سكك حديدية إضافية مثل مشروع ربط شبكة سكة الحديد مع باكستان عبر أفغانستان، خصوصًا بعد الهدوء النسبي فيها. تسعى أوزبكستان للانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، وقد يُشكِّل هذا مزيدًا من التخفيض في الحواجز الجمركية، وفرصة لتعزيز التجارة الدولية، وتحويل أوزبكستان إلى وجهة لوجستية إقليمية في آسيا الوسطى.

ويمكن لأوزبكستان الاستمرار في أداء دورها الجغرافي التاريخي بوصفها ممرًّا تجاريًّا مهمًا بين الشرق والغرب؛ فهي تتوسط الصين من جهة وروسيا وأوروبا من جهة أخرى، كما تعدّ حلقة وصل لبقية دول آسيا الوسطى لما يربطها من خطوط نقل مباشرة برية وجوية. ويمكن لسلطنة عُمان الاستفادة من فرص التصدير والاستيراد؛ فالسوق الأوزبكي هو سوق كبير يتزايد الطلب فيه على مختلف البضائع نتيجة نمو الطبقة الوسطى، كما يمكن للسلطنة أن تؤدي دورًا هامًّا في إعادة تصدير المنتجات الأوزبكستنانية عبر الاستفادة من البنية التحتية العُمانية كالموانئ والمطارات والخطوط البرية مع دول الجوار، وتوريد المنتجات من الأسواق الإفريقية والهندية -فضلًا عن المنتجات العُمانية- لتشحن إلى دول آسيا الوسطى عبر أوزبكستان.

ما زالت سوق الأوراق المالية في مراحلها الأولى، رغم أن هناك أكثر من 100 شركة مدرجة في بورصة طشقند، بقيمة سوقية تقارب 5 مليارات دولار. وتقدمت الحكومة بخطة طموحة لتخصيص عدد كبير من الشركات الحكومية عبر الاكتتابات الثانوية لتطوير سوق المال، وتضم قائمة الشركات المزمع تخصيصها عبر الاكتتابات شركات تعمل في مجالات التعدين، والتأمين، والطاقة، والطيران، والبنوك. وتشكل الشركات المدرجة في بورصة طشقند فرصًا استثمارية جيدة على المدى المتوسط والطويل، رغم ضعف السيولة في الوقت الراهن. وبدأت مؤخرًا عدد من الصناديق الأجنبية الاستثمار في بورصة طشقند للاستفادة من التقييمات المنخفضة في بعض الشركات.

ويشهد القطاع السياحي أيضًا اهتمامًا بالغًا من الحكومة. وتستهدف الاستراتيجية السياحية ترويج المدن التاريخية مثل بخارى وسمرقند وخيوا، وهي جميعًا مرتبطة ببعضها بواسطة قطارات فائقة السرعة. كما تتمتع أوزبكستان بطبيعة خلابة، وجو معتدل، وشعب طيب. ولمواكبة الانفتاح السياحي؛ حثت الحكومة الأوزبكية المستثمرينَ على الاستثمار في القطاع السياحي والفندقي من خلال توفير محفزات اقتصادية لتلبية النمو المتزايد. في عام 2018، وضمن خطة الانفتاح على العالم، قُدّمت تسهيلات للحصول على تأشيرات سياحية، ويتمتع المواطن العُماني بإمكانية الدخول إلى أوزبكستان دون تأشيرة لمدة تصل إلى 10 أيام.

لقد ارتبطت الدول العربية بدول آسيا الوسطى منذ القدم، وتعددت مجالات التعاون لتضم الدين والثقافة والعلوم والتجارة. بدأت العلاقات العُمانية الأوزبكية عام 1992م، ويحتفظ البلدان بعلاقات سياسية متميزة. ها هي الفرصة اليوم مواتية لتعزيز التعاون بين أوزبكستان وسلطنة عُمان عبر زيادة التجارة والاستثمار والسياحة. من المؤسف أن التجارة البينيّة بين البلدين تكاد تكون معدومة، في حين يمكنهما الاستفادة كلّ من الآخر. الجدير بالذكر أن جهاز الاستثمار العُماني كان له السبق في تأسيس الشركة الأوزبكية العُمانية للاستثمار مع صندوق إعادة الإعمار والتنمية الأوزبكي في عام 2010م، إلّا أن الفرصة مواتية لمزيد من التعاون والتجارة والاستثمار بين البلدين.

** كاتب اقتصادي: [email protected]