الألم إحساس معروف لدى الجميع ولا نحتاج أن نُعرّفه لأحد، وهو رفيق الإنسان منذ أن وُجد على هذه الأرض، إلّا أن الإنسان حاول عبر تاريخه الطويل أن يفهم سبب هذا الألم وفلسفته، فقام بمحاولة تفسيره، فالإنسان الأول كان يفهم الألم الناتج من إصابة ظاهرة في جسده، كالجرح الناتج عن مهاجمة حيوان مفترس له، ولكن ما صعب عليه فهمه واستيعابه هو الألم النفسي الناتج عن القهر أو الظلم أو بسبب ظروف حياة قاسية؛ كالألم الناتج عن فقد الأحبة أو هجر الحبيب أو الألم الناتج عن شعور بالضعف عن مواجهة تحديات الحياة.
وفي محاولة لتفسير سبب هذا الألم، اعتبر البعض أن الألم عقوبة من السماء وأطلق عليها الألم الإلهي، بينما اعتبره الآخرون نتيجة تأثير سيطرة الأرواح الشريرة على النفس البشرية، والبعض ربطه بالسحر، فرأى أن الألم إنما هو عمل من أعمال السحرة. ومن هنا كانت مُعالجة الألم تأخذ منحيين؛ المنحى الطبي التقليدي، وذلك لمعالجة الجروح والإصابات الظاهرة بأن يذهب إلى أحد المعالجين ليقوم بتقديم علاج له. أما الطريق الآخر فهو الطريق الغيبي وذلك لمعالجة تلك الآلام النفسية التي لا يُعرف لها سبب، فكان رجال الدين والمشعوذون والمتعاملون بالسحر هم الملجأ لمثل هذه الآلام مجهولة السبب!
وارتبط الألم في عدد من الديانات بالسمو الروحي للإنسان، فتحمل الألم والمُعاناة هو الطريق الذي يسمو بروح الإنسان، ولربما يمثل التوجه الصوفي المتشدد في الإسلام أحد تلك الاتجاهات، وقد نجد ذلك أيضًا جليًا في عدد من الديانات الهندوسية والتعاليم البوذية؛ بل إن العقوبات على الجرائم في عدد من الحضارات ما كانت تهدف للردع من ارتكاب الجريمة فحسب؛ بل كانت تهدف أيضًا لتطهير روح الإنسان من درن الجريمة التي ارتكبها من خلال تعريضه للعقوبة وإحساسه بآلام تلك العقوبة.
ولأن الألم رفيق المرض، فقد تولدت قناعة عند الكثيرين بما فيهم الأطباء أنفسهم بأن الألم وما يُعاني منه المريض هو أمر ضروري وهام للعلاج، وبدونه ربما يفشل العلاج، فكان الألم يُعد جزءا من العلاج عند البعض.
ولذا فلقد واجه العمل بالتخدير الجراحي للمريض قبل إخضاعه للجراحة في القرن التاسع عشر تحديات جمَّة، وأثيرت إشكاليات عديدة، منها الإشكالية المرتبطة بفكرة أن تخفيف الألم قد يؤخر عملية الشفاء لأن الاعتقاد السائد آنذاك كما ذكرنا أن “الألم جزء من العلاج”.
وفي بريطانيا رفض رجال الكنيسة السماح للنساء باستخدام مواد التخدير للتخفيف من آلام الوضع، واعتبروه انتهاكا للقانون الإلهي، ولذا لم يحظ استخدام المخدر للتخفيف من آلام الولادة بالقبول في المجتمع البريطاني، إلا بعد أن قامت الملكة فيكتوريا باستخدامه، وأذعن بعدها رجال الكنيسة وقبلوا باستخدامه.
وما زال الألم يُشكل تحديًا كبيرًا للبشرية، فميكنة عمله وشدته وضعفه وأنواعه كل هذه الأمور تجعل من الصعب فهمه وتشخيص أسبابه، لكن الذي توصلنا إليه أن شدة الألم وضعفه لا تختلف من إنسان إلى آخر فحسب؛ بل قد يختلف من بيئة إلى أخرى فلقد تبين أن الواقع الاجتماعي والتربوي وثقافة الإنسان كل ذلك يلعب دورا مهما في شدة إحساسه بالألم.
ونجحت العلوم الحديثة في مواجهة الآلام الناتجة عن الظروف الاجتماعية والحالات النفسية وتقديم علاجات ناجعة لها، وتوصلت أيضا إلى أهمية الأبعاد الغيبية والإيمانية في التخفيف من هذه الآلام، ولذا فالإيمان بوجود قوة محيطة قادرة على كل شيء لا يقف حجر عثرة ولا ينافس أو يضاد ما توصلت إليه علوم الطبيعة من طرق لمعالجة الأمراض النفسية بل يتوافق معها ويكمل أحدهما الآخر.
كما علِمنا أن الألم جرس الإنذار الأول الذي يشير للإنسان إلى أنه في خطرٍ ما وعليه أن يقوم بفعلٍ ما تجاه هذا الخطر، وتعلمنا أيضًا أن الألم نعمة ما بعدها نعمة، فلقد لوحظ أن هناك من يولد فاقدًا لحاسة الشعور بالألم، وأغلب هؤلاء يخطفهم الموت سريعًا، والسبب في ذلك أنهم يتعرضون لمختلف أنواع الكسور والجروح وربما تنزف الدماء من أجسادهم دون أن تذرف لهم دمعة أو يرتفع لهم صوت، لذا فهم يفقدون جوارحهم والكثير من أعضائهم دون أن يشعروا بذلك، وتنتهي حياة أغلبهم في غضون 3 سنوات من ولادتهم!
يروي أحد الآباء عن ابنه الذي لا يملك حاسة الشعور بالألم أنه وأثناء تواجده بالحديقة مع أخته المصابة بالمرض ذاته، قاما بخلع جميع أسنانهما وهما يضحكان ويلعبان، ولم يلتفت إليهما إلا والدماء تغطي جسديهما الصغيرين!
ويروي آخر ممن حالفه الحظ واستمرت حياته، أنه لا يستطيع أن يتصور الألم ولا أن يشعر به، فهو أمر غير مألوف له، وقد أدى ذلك إلى تعرضه لعدد كبير من العمليات الجراحية في حياته لأنه يقوم بحركات تؤدي إلى كسور كبيرة في جسده، فلا يوجد جهاز إنذار يمنعه من القيام بذلك، ولكنه يحاول أن يتعلم بالتجربة، ويسأل الآخرين عن الحركات التي يسمح له القيام بها دون أن يصاب جسده بأذى، وهكذا فهو يقضي وقتًا طويلًا في تعلم أمور لا نحتاج نحن الذين نشعر بالألم لتعلمها.
لقد فقد الكثير من هؤلاء حياتهم لأنهم فقدوا حاسة الشعور بالألم، ومن بقي منهم فإنهم يتمنون أن يشعروا بالألم ولو لمرة في حياتهم، كما نشعر به نحن الذين نشكو من الألم!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس