Image Not Found

النهضة الحسينية وصراع الحضارات (1-6)

Views: 17

صادق بن حسن اللواتي

(1)

نحن جميعا نعيش ضمن التاريخ ، وهذا التاريخ هو جزء من التاريخ نفسه ، وهذا هو جوهر التاريخ ، أنت عندما تتحدث عن غيرك فإنك تتحدث عن تاريخه هو وليس تاريخك ، والعكس صحيح ، فكل يعطي رأيه الشخصي ليضيء الطريق أمام الآخرين، وأنا أعتقد ليس منا من سأل نفسه هذا السؤال إذا كنت معلما في المدرسة هل سألت نفسك لماذا أصبحت معلما و لم تصبح فيلسوفاً ؟ والمهندس المعماري هل سأل نفسه لماذا أصبح مهندساً معماريا ولم يصبح مهندساً مدنيا ؟ المعادلة لم يفطنها البعض ، عندما كنت صغيرا ووجدت أباك يشرب الشاي الساخن في صحن صغير، أنت أيضا عندما أردت شرب الشاي الساخن ، شربته في صحن صغير، لأنك تشعر أنك تنتمي إلى مدرسة والدك.

سأقرب لكم المعنى أكثر، في الستينات من القرن الماضي كانت هناك مدارس أهلية في سلطنة عمان ، ونوعية التعليم لم يكن مثل نوعية التعليم التي تلقتها الجماعات الهندية في المدارس النظامية الذين كانوا رعايا للحكومة البريطانية ، هذا التفاوت في نوعية التعليم وضعنا أمام مشكلة تاريخية ، علما أنه لا يوجد هناك تفاوت في السلالية الجسمية القائمة بين أبناء الجنس البشري وإذا سلمنا أنه يوجد هناك تفاوت سلالية فكيف نفسر إذن وجود أعضاء يكادون ينتمون إلى حضارة عربية عريقة إلى جانب الحضارة الغربية هذا دليل أن الجنس الذي عاش على طريقة التعليم الأهلي لم يسهم في الوصول إلى مصاف التعليم النظامي الأكثر تطورا ، وقد يكون مرد هذا العجز يرجع إلى أنه لم تتح لهم الفرصة أو الحافز في الإسهام أكثر للمنافسة في حقل التعليم.

هنا يأتي دور البيئة التي جمعت بين هاتين الحضارتين فالبيئة العربية مهدت لظهور الحضارة الإسلامية التي تميزت بعامل البقاء والتجديد في العلوم وظهورها في كل البقاع العربية ، بينما الحضارة الهندية تميزت في الجوانب الفنية والثقافية ولكنها لم تظهر في كل بقاع الهند حيث كانت حضارة بلاد الرافدين الحافز الأول في ظهورالحضارة السندية التي برعت في التجارة والعمران.

ولكن السؤال هو لماذا وجدنا أنفسنا أمام مشكلة تاريخية بسبب التفاوت في نوعية التعليم ، فهل الحضارة الهندية أو الغربية استطاعت أن تنهض بالأمم نحو الإرتقاء الفكري والإبداع في تطوير الأنظمة الاجتماعية والعلوم التطبيقية ؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال تعالوا معي لنتعرف على معنى النهضة والحضارة. الحضارة من حضر وفي الصحاح مأخوذة من فعل حضر وتعني الإقامة في الحضر وهي ضد البادية ، يقول الدكتور شاهر نهاري :-

” فالحضارة ، في الصحاح : مأخوذة من الفعل حَضَر، وتعني الإقامة في الحضر، وهي ضد البادية ، ولكن هذا التعبير لقدمه ظل قاصراً عن تحديد ملامح الكلمة الحالية، والتي ولا شك قد اتخذت أبعاداً وملامح جديدة من خلال دخولها في العصور المتأخرة ، والتي تقدمت فيها العلوم المعارف.

واصطلاحاً : هي مدى ما وصلت إليه أمة من الأمم من نواحي النشاط الفكري ، والعقلي ، والبدني ، والعمراني ، والفني ، والسياسي ، وهي بتعبيرآخر: المنهج الفكري لأمة ما ، والمتشكّل في ناتجين معنوي ، ومادي.

بمعنى أنّ الحضارة اسم شامل متكامل من جميع الزوايا الحياتية ، الماضي منها والمستقبلي، والتي كانت وما تزال تسعى لها كل الأمم ، لتزيد من قدراتها ، ولتدعم مواردها ، ولترفع سقف تواجدها كدولة بين الدول الأخرى ، وتضمن وجود نظام سياسي ، وقضائي ، وتعليمي ، صحي ، وسياسي ، ومهني ، يكفل لجميع أفراد الشعب الحياة الكريمة.

بينما نجد أنّ النهضة لغوياً آتية من مصدر: نَهْضٌ ، نُهُوضٌ ، فنقول «نَهَضَ الوَلَدُ» أي قَامَ فِي نَشَاطٍ وَخِفَّةٍ ، ونقول «نَهَضَ عَنْ مَكَانِهِ» : أي اِرْتَفَعَ عَنْهُ.

وأما النهضة اصطلاحاً: فهي الارتفاع والارتقاء بالفكر،, لأنّ الأمة لا يمكن أن تنهض إلاّ إذا كان لديها زخم من الأفكار البنّاءة الأصيلة ، تؤمن بها وتُبدع في استعمالها ،, وتفرضها على أرض الواقع ، ولكن النهضة يمكن أن تكون صحيحة أو فاسدة تبعاً للأفكار، والأهداف ، والعقول المنفذة. (1)

يقول الدكتور يوسف المكي ” النهضة والثقافة والحضارة مفاهيم استخدمت كمؤشرات لقياس مدى التقدم والتطور في المجتمعات الإنسانية ” ويقول أيضا ” إمعان النظر في العناصر، التي تشكل المفاهيم الثلاثة ، يوضح أن ليس أي منها ثابت ، فهي جميعاً متحركة. لقد خضعت منذ القدم لتحولات ، وما كان بالأمس ثقافة أو حضارة يعتد بها قد لا يكون كذلك الآن” (2) .والحمدالله رب العالمين.

المصادر
1- مجلة الجزيرة الثقافية ، العدد 352 ، الخلط بين النهضة والحضارة ، 17-11-2011م
2- مقاربات بين النهضة والثقافة والحضارة ، دكتور يوسف مكي ، جريد الخليج الإماراتية ، قسم الرائ المقالات ، 2021 -11-2

(2)

أين يقف الجنس البشري اليوم وهو يعيش في القرن 21 للميلاد ، ولو بحثنا في تاريخ الحضارات القائمة الآن سنجد أن كل هذه الحضارات لها منطقة منشأ ، على غرار فكرة بلد المنشأ للسلع والمنتجات. بإجماع المؤرخين أن الحضارة ظهرت في فترة تاريخية متقاربة في ثلاثة مراكز في العالم والتي تعتبر من أقدم التجمعات المتحضرة في العالم ظهرت على طول ضفاف ثلاثة نظم نهرية : دجلة والفرات في بلاد ما بين النهرين ، النيل في مصر ، والسند وروافده شمال غرب شبه الجزيرة الهندية ، ومجموع الحضارات التي استقرأت مبانيها لا تتجاوز 22 حضارة (1) . توينبي ذهب إلى أن هذه الحضارات ماتت وبقي منها 5 حضارات ، الحضارة الإسلامية، والحضارة الصينية والحضارة الأوروبية التي هي الآن حاكمة على البشرية ، والحضارة البوذية أو الكونفشوسية ، والحضارة التي هي مرتبطة بالأمريكا الجنوبية ، وأندرو روبسنون يرجع بداية الحضارة الإنسانية على وجه الأرض إلى منطقة رسوبية شمال الصين وهي مركز الحضارت في رأيه وإن ظلت بعيدة عن المراكز الثلاثة المترابطة الأخرى. (2).

نحن عندما نريد التصدي لتفسير أفول حضارة وسقوطها وقيام أخرى فإننا نفترض أن الإنسان هو سبب هذا الأفول ولذلك السقوط عامل إنساني وهو ما يترجم التدهور الداخلي ووقوع الدولة فريسة للغزو الخارجي وهذا يؤدي إلى سقوط الحضارة كما حدث للحضارة السندية عندما غزا الآريين القادمين من شمال الغرب كان السبب الرئيسي وراء سقوطها . المؤرخين وضعوا مظاهر لكل حضارة ، يقول الدكتور خزعل الماجدي المظاهر الحضارية هي ” أولا العناصرالمادية : الجغرافية ، السياسية ، العسكرية ، الاقتصادية ، الاجتماعية ، الطاقة العلمية. ثانيا العناصر الثقافية : التاريخية ، القانونية ، المدنية ، الأدبية والفكرية ، النفسية ، الدينية والفنية. هذه أربعة عشرعنصر تضبطها الأخلاق التي توازن كل العناصر” (3) .

بهذه العناصر نصل إلى استنتاج عام أن الأرجح في أفول الحضارة نتج عن اجتماع العوامل البيئية والبشرية ، ولم يكن هذا المرجح مفاجئا بل كان تدريجيا ، واعتقد كتاب الله وضح هذا المرجح في قوله تعالى ” وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ” (4) . ولكن بقاء عامل الأخلاق في أي حضارة فإن الاستدامة لبقائها أمر حتمي وهو الذي يفتح باب النهضة وكشف أسرار تلك الحضارة ، فليس معنى ذلك إن الإنسان له عقل مغرم بالتجريد أو له حس بعلم الفن أو علم النفس أو الاقتصاد بل الذي يستولي عليه هو الرعشة الإنسانية تجاه الآلام والجوع والفقر والجهل ، فهل من يفكر في هذه المشاكل ومواجهتها في أول وهلة يكون غير أخلاقي ؟ بالتأكيد كلا هنا يأتي دور معرفة الرمز الذي أسس الحضارة وبقيت إلى يومنا هذا.

طبيعي من الواضح أنني لن أستطيع الدخول في كل تفاصيل نهضة الحضارات الخمس الباقية فلنأخذ مثال الحضارة الإسلامية لأن حديثي عن النهضة الحسينية ولكن سأحاول التطرق إلى بعض الأصول العامة المرتبطة بهذا العنوان الذي بدأت به هذا البحث ، والذي اخترته كإشارة إلى منطق النهضة الحسينية باعتبار أنني أعتقد أنها تعطي أكلها كل حين بإذن ربها ، وهذا العطاء الرباني لا يمكن فهم حقيقته ما لم نفهم الأصول العامة والقواعد التي أسست هذه النهضة . وكما هو متعارف عند المؤرخين أن قيام أي حضارة لا يكون إلا بالكتاب وبدون الكتاب والكتب لا توجد هناك حضارة وبالتالي لا توجد هناك نهضة ، فلو أردنا معرفة حقيقة النهضة الحسينية لا بد من وجود كتابات ودراسات عن النهضة الحسينية وفي الأعم الأغلب فإننا نفتقد هذه الدراسات والكتابات.

والفاصلة بين ارتحال الرسول الأعظم (ص) و بين النهضة الحسينية قرابة خمسة عقود ، و قعت خلالها أحداث جعلت من الحسين بن علي يخطط لنهضة مستدامة تكون محور بقاء الحضارة الإسلامية ، و قد عرفنا أن النهضة لا تكون إلا إذا كانت لديها أفكار بناء أصيلة تؤمن بها و تبدع في استعمالها و تفرضها على أرض الواقع .
وحيث أنه لا يسعنى إلا أن أؤيد بعض الملاحظات التي وصلتني اعترافا مني بجدارتها لإضافة فصل في معالجة أثر الفكرة الدينية في الدورة الحضارية للنهضة الحسينية ، وسأعتمد في هذا البحث على اعتبارات لمظاهر العناصر التي تحدثنا عنها أنفا من أجل إضفاء الاعتبارات التاريخية التي اقتنعنا العيش معها في هذه النهضة المباركة.

وأنا أشعر أن القارئ ينتظر وبشغف وصفا تاريخيا يجد فيه المعلومات التي غالبا ما كان يراها أمامه ولكنه لا يعرف كنهها لأن الخطاب الديني الحسيني المعاصر خطاب يعالج الجانب المأساوي فأصبح بناء المجتمع متكدس في هذا الجانب، وتداخلت فيه الجوانب الدينية والاجتماعية وأعطت صورة للنهضة الحسينية في شكل الشهادة فقط وليس في صورة تفسير مقبول لهذه الشهادة.

ولتلبية هذه الرغبة سنعالج أثر الفكرة الدينية في مركب الحضارة سالكا هذه المرة مسلك التحليل النفسي الذي سيبين لكم بوضوح أكبر جانب من ظاهرة الشهادة ،إذ سيكشف لنا عن التأثير المباشر للفكرة الدينية في الخصائص النفسية للفرد ، وأنا لا أدعي أن هذا المسلك سيعطي للقارئ معرفة خارجية لا تتصل بعالم النفوس وهو عالم العقل التجريدي ، غير أنه يمكنني القول بأن الطريقة التي سأتبعها تحدث عملية تركيب بتأثير الفكرة الدينية وذلك بنظرة مباشرة تختلف عن النظرة التاريخية الغير مباشرة.

فمن الصعب جدا إعادة بناء الدين في أي مجتمع بغياب الكتاب المقدس ، فالبيئة العربية التي احتضنت مبادرة تأسيس نواة للحضارة الإسلامية حيث تم بنأها على معايير الكتاب المقدس “القرآن الكريم” وكانت ولادة جديدة لحضارة جديدة ، ظهرت إلى جانب الحضارات البوذية والكونفشوسية والأوروربية التي ظلت في العصور الوسطى تحت هيمنة رجال الدين أو الكنيسة وكان عامل الزهد هو المسيطر على شؤون الحياة العامة باعتبارهم علماء في الدين وفلاسفة في القانون الروماني ، واحتكروا زعامة المجتمع ، فانتشرت فيهم الخرافات والجهل ولم ينتفع الناس من وسائل الإنتاج ، وعاشت أوروبا متخلفة تئن تحت وطأة سطوة رجال الدين والكنيسة . والحمد الله رب العالمين.

المصادر

  1. مجلة مقاربات فلسفية ، الحضارة والتجربة الدينية عند أرنولد توينبي ، المجلد (8) العدد (1) ، 5-6-2021م ، ص 332-348
  2. حضارات السند البائدة ، اندرو روبنسون ، ترجمة الدكتور مصطفى قاسم ، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة ، مشروع كلمة ، عام 2017 م ، ص 7-8
  3. جلسة حوارية حول مناقشة كتابة الحضارة المصرية
  4. سورة الإسراء آية – 16

(3)

قال الإمام علي ابن أبي طالب ” وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول ” (1) . الإنسان لحظة وجوده على الأرض هو كائن مفكر، وأي تغيير يحدث في حياته هو في الحقيقة انعكاس لتغيير في العقل ، فالعقل يمجد السؤال ولا يمكن أن يحصل تغيير في سلوك الإنسان ما لم يسأل . فالسؤال هو وظيفة الإنسان ، والأنبياء مهمتهم تحريك فكر الإنسان من خلال إثارة التساؤلات فيه وهذا دأب الأنبياء ” قال رب أرني كيف تحيي الموتى ” (2) .

فالسؤال يعد أحد المرتكزات العقلية ، إذن لا مكان للإنسان في الحياة دون إثارة أو طرح التساؤلات ، هنا يأتي هذا السؤال: ما قمية العقل في حياة الإنسان ؟ يقول الراغب الأصفهاني ” العقل يقال للقوة المتهيئة لقبول العلم ويقال للعلم الذي يستفيده الإنسان بتلك القوة عقل ، ولهذا قال أمير المؤمنين رأيت العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع إذا لم يكن مطبوع كما لا ينفع الشمس وضوء العين ممنوع ” (3).

وإذا ذهبنا إلى شرائع سماوية الأخرى سنجد أن الإسلام هو من اعتمد العقل كحجة باطنية الثانية بعد الحجة الظاهرية وهم الرسل والأنبياء والأئمة يقول الإمام موسى الكاظم ” يا هشام إن لله على الناس حجتين حجة ظاهرة وحجة باطنة فأما حجة ظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة وأما الباطنة العقول” (4).
يقول الريشهري ” لقوة العقل نزوع إلى التسليم أمام الحق . وإذا كان العقل خالصا لا يخالطه جهل تجده يتبع الحق ولا يقبل شيئا سواه ” (5) . دكتور هشام غرايبة قال ” بأن مفردة (العقل) لم ترد في كتاب الله، وإنما جاءت في صيغ أفعاله مثل: (يعقلون) في 22 موضعا، و(تعقلون) في 24 موضعا، ووردت أفعال: (نعقل) و(يعقلها) و(عقلوه) مرة واحدة لعل في ذلك دلالة على أن العقل ليس كيانا ماديا معرّفا، بل هو محض منتج فعل، ولم يستطع أحد الى اليوم تعريف العقل عضويا، ولا دليل على أن مكانه في الدماغ أو في القلب” (6) .

من هنا نستنتج ان العقل ليس مدركا بذاته وإنما هو الواسطة إلى القلب وهو ما ذهب إليه ابن سيناء أن القلب هو المدرك والعقل أداة الإدراك مثل البصر فأداة قوة البصر العين فهي أداة لتلك القوة . سؤال : حجة الأنبياء أنت ملزم بقبولها أم لا ؟ جاء في القرأن الكريم “لست عليهم بمسيطر” (7)، هذا في حالة عندك حجة في قبال حجة الأنبياء ، وإلا فعليك أن تقبل بحجتهم .

والعقل هل تقبل حجيته أم لا ؟ الجواب : أن العقل هو على حد حجية الأنبياء ، نحن نعرف أن هناك جانبان في المدرسة الشيعية جانب إخباري وجانب أصولي، الإخباريين عندما يأتون إلى حادثة أن السيدة زينب بنت علي ضربت برأسها مقدم المحمل ، أجاز بعض فقهاء الشيعة التطبير . هؤلاء عندما أجازوا التطبير أجازوه من خلال نص وصل إليهم أليس كذلك ، ولكن هذا النص هل هو حجة عقلية لإصدار حكم شرعي أم لآ ؟ وحكم التطبير كظاهرة اجتماعية حكم ملازم عقلا للنص أم لا ؟ ولكي لا نتشعب في مناقشة النص وآليات فهم النص ، نحن أمام حجيتين ، و حجية العقل لا يكون في طول النقل بل في عرض النقل هذه وظيفة العقل فنحن هنا نريد حجة واحدة . إذن ملخص ما تقدم هو أن إثارة التساؤلات مهم والإجابة عليها مهم أيضا.

أنا عنونت البحث النهضة الحسينية وصراع الحضارات وكان الهدف من ذلك هو دراسة شخصية الإمام الحسين بن علي عن قرب، لأن المجتمع الذي أعيش فيه كلما دخل شهر محرم الحرام ينظم مجالس عزاء ويقوم بتجهيزات اللازمة لإحياء مراسم عاشوراء ، فإن الدليل على تاريخ الحسين بن علي هو عندما يصعد الخطيب المنبر يتكلم معنا عن الحسين خلال العشرة أيام الأولى ، أنه خرج من المدينة كذا ثم وصل إلى مكة وبقي فيها ثم خرج إلى الكوفة كذا ، ثم غير وجهته إلى كربلاء كذا ثم استشهد بطريقة كذا. هذا ما اسمعه قرابة أكثر من 20 عاما ، وهذا ما ستسمعه في المجتمعات الشيعية الأخرى .

شخصية الحسين بن علي حوصرت ضمن هذا الإطار في المجتمعات الشيعية ، فإذا سألت أي فرد شيعي ماذا تعرف عن الحسين بن علي في عهد معاوية ؟ الجواب لا أعرف ، ماذا تعرف عن الحسين بن علي في عهد الخليفة عمر بن الخطاب ؟ الجواب لا اعرف ، مع أن تاريخيا لا نستطيع فهم أية شخصية خاصة إذا كانت أهم رمز من رموز المسلمين كالحسين بن علي ما لم نتعرف على سيرته الكاملة منذ ولادته حتى استشهاده ، وإلا فإن عنوان البحث لا قيمة علمية له ، ونحن لن نقف متفرجين امام ما نشهده اليوم من انجذاب الناس إلى الحسين بن علي ، فالمسالة ياسادة أكبر بكثير من معركة كربلاء ، فلهذه القضية أبعاد متعددة .

سنفتح ملف خاص لمعرفة هذه الأبعاد في شخصية الحسين بن علي ، و قبل الدخول في ملف صراع الحضارات ودور الحسين فيه ، هذا إن كان له دور، سنعرف ذلك خلال البحث . ركزوا معي رجاءً . في علم النفس للشخصية سمات خمس حسب نموذج “أوشن” لمعرفة أبعاد آية شخصية كانت نبياً كان أو إمام ، خطيب منبر كان أو مهندس ، طالباً كان أو معلماً ومن خلال هذه السمات الخمسة يمكننا تحليل شخصية الإنسان ، ما هي هذه السمات ؟ السمات هي :

أولا: الإنفتاح على التجارب من خلال طرح المعتقدات وهو ما يعرف بالبعد العقائدي ويندرج تحته البعد السياسي
ثانيا : الضمير وهو الميل لإظهار الانضباط الذاتي والتصرف بمسؤولية والسعي للإنجاز خارج المتوقع وهو ما يعرف بالبعد العاطفي.
ثالثا : الانبساط النفسي وهو إثارة مشاعر الآخرين وهو ما يعرف بالبعد الشفهي.
رابعا : الوفاق وهو التناغم الاجتماعي وتوافق اجتماعي ، وهو ما يعرف بالبعد الشعبي.
خامسا العصابية وهو مدى ثقة الآخرين بك ويعتبر هذا البعد الأخطر من كل ما سبق .
والحمد الله رب العالمين .

المصادر
1-نهج البلاغة ، شرح محمد عبده مفتي الديار المصرية سابقا ، دار المعرفة للطباعة والنشر ، بيروت ، لبنان ، الجزء الأول ص 23
2-سورة البقرة آية 260
3- مفردات في غريب القرأن ، الراغب الأصفهاني ، دار المعرفة ، بيروت ، لبنان ، 2005م ص 577
4- موسوعة العقائد الإسلامية ، محمد الريشهري ، دار الحديث للنشر والتوزيع ، بيروت ، لبنان ، 2008 ص 224

5- العقل والجهل في الكتاب والسنة ، محمد الريشهري ، تحقيق دار الحديث للنشر والتوزيع ، بيروت، لبنان ، 2000 م ، ص 37
(6) مجلة الغد ، مفهوم العقل في ميزان الشرع ، 27-12-2018م
(7) سورة الغاشية ، آية 22

(4)

نحن الآن نستطيع أن نتخذ الموقف المناسب من النهضة الحسينية وذلك من خلال السمات الخمسة التي ذكرناها . واقعا إن هذه النهضة تعد من أهم أركان المذهب الشيعي ومنها تشكلت المنظومة المعرفية لمدرسة أهل البيت -ع- بأبعادها المتعددة السياسية والثقافية والعقائدية والأخلاقية ، ولكي نفهم ونستوعب الموقف الحسيني منها لابد لنا من دراسة الخلفيات التي تأسست عليها هذه النهضة من الناحية الدينية والسياسية ، لأنه الغالب عليها هو البعد السياسي في مقارعة الظلم ومعارضة السلطة الأموية الظالمة في عهد يزيد بن معاوية . وهذه المعارضة لا يمكن أن تظهر على السطح مباشرة بعد موت معاوية ابن أبي سفيان فلابد من وجود قوة أستند عليها الحسين بن علي ، جعلت من الموقف الحسيني رافضاً لبيعة يزيد. سؤال ما هي القوة التي كان يمتلكها الحسين بن علي جعلته يرفض بيعة يزيد ؟ ركزوا معي على الجواب رجاء

النبي الأكرم (ص) عندما جاء وأعلن عن دعوته كان يحمل معه إرث الأنبياء والرسل السابقين ، قال تعالى ” مصدقا لما بين يدي من التوارة ” ” يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا” ” قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا”(1) ، إذن دعوته (ص) كانت من أجل اصلاح مسيرة الأنبياء التي حرفت على أيدي الأحبار والكهنة والرهبان بتعبيرنا المعاصر حرفت على أيدي علماء الدين ، فهو (ص) لم يأتي من أجل تربية الأعراب ” الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ” (2) ، وكانت مكة نقطة انطلاق هذه الدعوة ، وإن كان البعض لا يعتبر مكة نقطة انطلاقها بل الغار الذي نزل فيه الوحي عليه (ص) .

مكة لم تكن أرض فضاء بها بعض البيوت و المقاهي ، بل كانت تحتل مكانة بين القوى السياسية والتجارية والاجتماعية ، وبها مجلس للقبائل العربية ينظم العلاقات التجارية مع الدولة المسيحية البيزنطية وبلاد فارس وبلاد الحبشة ، وكان بها جيش من المرتزقة من الأحباش لحماية تجارتهم ، فمجتمع مكة كان مجتمعاً منظماً تنظيماً دقيقاً ، علاوة على ذلك كانت مكة إقليما كونفدراليا لدولة اليمن الكبرى التي كانت تضم أكبر قبائل العرب من الحمير وهمدان وأنمار . مكة كانت مقراً لحل النزاعات القبلية وتنسيق الأعمال بين الدول المجاورة ، شبيه بمهام الأمم المتحدة في العصر الراهن . والمجتمع المكي لم يكن يعبد الأصنام فقط بل كان هناك موحدين مثل اليهود والنصارى وهناك من كان يعبد النار مثل المجوس ، وهناك من الدهرين الذين لا يؤمنون بالآخرة بتعبيرنا المعاصر شوعيين ، وكان أبو سفيان زعيم الدهريين ، قال تعالى ” ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله قل الحمد الله ولكن أكثرهم لا يعلمون” (3).

الرسول الأكرم (ص) جاء إلى هذا المجتمع المتعدد الاتجاهات فكرياً و سياسياً ، فعندما يريد (ص) إقامة دولة مكان الدولة القائمة فهل سيقتصرعلى اقامة دولة دينية أم دولة دينية وسياسية معا ؟ الجواب مؤكد الدعوة الاسلامية لن تنفصل عن هذين العنصرين الدين و السياسة ، فلا يمكن فصل الدين عن السياسة .

سؤال ماذا كان يملك الرسول (ص) من القوة جعلت من زعماء قريش تخاف منه ؟ هل كان عنده جيش ؟ الجواب : كلا ، هل كان عنده قبيلة قوية تحميه ؟ الجواب : كلا ، بنو هاشم جزء بسيط من 25 قبيلة وبطونها كانت تعيش في مكة ، تستطيع هذه القبائل محو بنو هاشم من الوجود في لحظة ، تكفيهم كتيبة حبشية مرابطة على حدود مكة ، لأن الحبشة كانت قاعدة عسكرية للإمبراطورية الرومانية ، حيث كانت جيوش الروم تعبر أراضيها ومنها إلى أرض مكة ثم إلى الساحل البحري لقتال الفرس ، بلغة عصرنا الراهن قوات إمريكية مرابطة في قواعد عسكرية في الشرق الأوسط للتدخل السريع وقلب الموازين السياسية والعسكرية متى ما اقتضت الحاجة ، ألم تتدخل القوات الإمريكية في عملية تعرف بمخلب النسر في صحراء طبس الإيرانية غداة انتصار الثورة الإسلامية في إيران ما ذا حصل لهذه القوات ؟ هبت ريح عاصفة جعلتهم كعصف مأكول .

وهذا ما حصل لجيش الروم بقيادة أبرهة الحبشي ، وهو أول تدخل صليبي لإخضاع مكة والبيت الحرام تحت الإدارة الرومانية ، ماذا كانت النتيجة ؟ جعلهم الله كعصف مأكول ، كأوراق شجرة أكلتها الدواب ، أبيد جيش الروم عن بكرة أبيه فلم يبقى منه أي أثر ، حتى جمام الفيلة التي جاؤوا عليها لغزو مكة لم يعثر عليها علماء الأثار في السعودية . فكانت سورة الفيل تذكر زعماء قريش أن استخدام القوة العسكرية ضده (ص) لن تنفعكم .انتشرت الدعوة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية ، ودخل الناس في دين الله افواجا ، ودخلت القبائل العربية الكبيرة فيه وأصبح للدولة الإسلامية جيشا كبيراً قيل 100 ألف مقاتل.

سؤال لماذا احتاج الرسول الأكرم (ص) جيشا جراراً في وقت تكفل الله بحمايته هو و دعوته بقوله تعالى ” إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (4) ، أنا لا أريد تفسير كلمة الذكر الآن ، دعونا نكمل المشوار حول جزئية بناء الجيش من رحم قواعد شعبية ضعيفة عاشت إلى جانب قوات شرسة ،فمعروف عسكريا أن تحقيق هدف استراتيجي بالوسائل السلمية التي عجزت عن تحقيقه العقول الراجحة بحاجة إلى التكتيك والتعبئة الإستراتيجية .حيث يرى بعض العسكريين أن حياة الرسول (ص) من الناحية العسكرية يمكن تقسيمها إلى أربعة أدوار:

دور الحشد، ودور الدفاع عن الدين، ودور الهجوم، ودور التكامل. فدور الحشد ظهر منذ البعثة حتى الهجرة إلى المدينة المنورة واستقراره هناك، وفي هذا الدور اقتصر الرسول (ص) على الحرب الكلامية حيث التبشير والإنذار، وأما دور الدفاع عن الدين، فكان منذ بدء إرساله (ص) سراياه وقواته للقتال إلى انسحاب الأحزاب عن المدينة المنورة بعد غزوة الخندق، وبهذا الدور ازداد عدد المسلمين فاستطاعوا الدفاع عن عقيدتهم ،
أما دور الهجوم، فظهر من بعد غزوة الخندق إلى بعد غزوة حنين، وبهذا الدور انتشر الإسلام في الجزيرة العربية كلها، وأصبح المسلمون قوة ذات اعتبار وأثر في بلاد العرب، فاستطاعوا هزيمة كل قوة تعرضت للإسلام ، أما الدور الرابع والأخير فهو دور التكامل، وهو من بعد غزوة حُنين إلى وفاة النبي (ص) فقد تكاملت قوات المسلمين بهذا الدور فشملت شبه الجزيرة العربية كلها، وأخذت تحاول أن تجد لها متنفسًا خارج شبه الجزيرة العربية، فكانت غزوة تبوك إيذانًا بمولد الإمبراطورية الإسلامية (5) ، وبداية الحضارة الإسلامية .

هذه القوات المشكلة من القبائل العربية من عمان والبحرين واليمن و الحجاز انقمست على نفسها بعد وفاة الرسول (ص) أغلب القبائل امتنعت عن دفع الزكاة للخليفة أبوبكر ، لماذا ؟ الجواب : لأنها بايعت عليا على الخلافة في غديرخم في عهد الرسول الأكرم (ص) ، فكان امتناعها لمعرفة إلى ما ستؤول إليه الأوضاع السياسية في الحجاز ولصالح من ! لصالح أبي بكر أم لصالح الإمام علي ، وعندما قال الإمام لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين ، استقرت الأوضاع السياسية في الحجاز وعادت هذه القبائل للتعاون مع الحكومة المركزية ، وهذا دليل على أن التشيع أخذ طريقه بين القبائل العربية منذ ذلك الوقت . والحمدالله رب العالمين .

المصادر
1- سورة آل عمران آية 50 ، سورة الأعراف آية 158 ، سورة أل عمران آية 64
2- سورة التوبة ، آية 97
3- سورة لقمان آية 25
4- سورة الحجر آية 9
5- موسوعة فن الحرب الإسلامي ، بسام العسلي

(5)

نحن لدينا تساؤلات عديدة بحاجة إلى الإجابات النموذجية ، من ضمن هذه التساؤلات ، عندما جاء الرسول الأعظم (ص) و أعلن عن دعوته و أنشأ جيشا قوامه 100 ألف مقاتل هل غفل عن المظاهر الأخرى من العناصر المادية والمعنوية في بناء حضارة إسلامية تحكم البشرية أم لا ؟

في هذا الجزء من البحث سنعالج أهم فترة في تاريخ العرب قبل ظهور الإسلام ، قد يقول قائل ما علاقة ذلك العصر بعنوان البحث ! و اقعا إذا لم أقم بتوضيح كل الخلفيات التي سبقت النهضة الحسينية تاريخياً ، فإنني سأفقد البوصلة في تحديد مسار البحث بلا أدنى شك ، خاصة و نحن نجد العالم الإسلامي في الأيام الأخيرة يقف على مفترق الطرق لا يدري أيها يسلك وهو يجتاز فترة الازدهار واليقظة والتقدم السريع في مدارج الحضارة الغربية العالمية . والنهضة الحسينية أحدثت ثورة كبيرة في عالم السياسة والعقيدة والاجتماع ، ولا يمكن معرفة دقائق هذه النهضة ما لم نعرف البيئة التي هيئت لها الظهور في بلاد المسلمين قبل أن تخفق رايتها على ربوع العالم المتمدن الآن .

تاريخ العرب قبل الإسلام لفه غموض شديد، فالمؤرخون القدامي مع بدء التدوين التاريخ الإسلامي لم يكن يعرفون حدود مدلولاتهم ، على اعتبار أن عصر ما قبل ظهور الإسلام عصر إفلاس حضاري و تدهور اخلاقي و انحطاط في مجال الدين والسياسة . شوه عصر ما قبل ظهور الإسلام الأمر الذي سمح للمستشرقين الطعن في الإسلام واتهامه بأنه دين بدائي جاء من بيئة بدوية ، مع أن الإسلام نشأ في بيئة حضارية علمية كما سيتبين لكم . فشأن تاريخ العرب يختلف كليا عن شأن تاريخ الفراعنة الذي تم تعرف عليه من خلال ما كتب على حجر رشيد والبرديات التي اكتشفت مدفونه مع المومياوات استطعنا معرفة تاريخهم .

و حقيقة تاريخ العرب اكتشفت في مخطوطات عثرت في اليمن وشمال شبه الجزيرة العربية و فكت طلاسمها وبدأ تدوين تاريخ العرب، وقد حكمت اليمن ملوك حمير وسبأ ، ونظام الحكم في مملكة سبأ لم يكن استبداديا بل شبه شورى ، في وقت عاشت دولة الحمير الازدهار التجاري ولم يكن أحد ينازع الحميريين على طرق التجارة ، و كانوا يعبدون الأصنام حتى دخل الدين المسيحي ،و بدأت المسيحية تنتشر في بلاد اليمن إلى جانب الديانة اليهودية . تعرضت اليمن إلى الغزو الحبشي ، وسقطت تحت حكم الحبشة يحكمها ملك النجاشي ، والنجاشي لفظة حبشية يطلق على ملوك الحبشة عربها العرب إلى نجاشي .كان نظام حكم في الحبشة يقوم على أساس مراسيم ملكية و كان مجلس الشيوخ هو الذي يهمين على تصرفات الملك فإن شاء عزله و يتولى مكانه ملك أخر .

حضارة اليمن قامت على التجارة و الزراعة بحكم توسطها بين أمم العالم القديم ، و كان الملوك يتقاضون الضرائب من المتاجر التي تأتيها من الهند و السند و الصين و افريقيا و اشتهرت اليمن بصناعة السيوف ، و الآلات الحربية ، و كانون مهرة في فن العمارة ،و كانوا يتكلمون اللغة العربية الشمالية التي نتكلم بها الآن .
و لم يكن أهل اليمن يسيطرون على شئون بلاد العرب التجارية و السياسية بل كانت هناك دول أخرى متصارعة بين دول العظمى الروم والفرس مثل :

1.دولة الأنباط التي نشأت في مدينة البتراء الأردنية . 2. دولة تدمر نشأت في سورية التي بنائها نبي الله سليمان كما جاء في سفر الأيام و التي نافست اليمن في التجارة منذ عهد الامبراطور الروماني هادريان . 3. دولة المناذرة كانت تابعة لحكومة الفرس . 4. دولة الغساسنة قامت على انقاض دولة المناذرة وأصبحت أقوى حليف للفرس حيث وصلت حدود حضارة الغساسنة إلى الطرف الشمالي الغربي من بلاد العرب ، واشتهرت في بناء القلاع و الأبراج و القصور، و اشتهرت في شراء الجواري و النوادي الليلية الماجنة و كانت ديانتهم تعرف بإسم المذهب اليعقوبي و لم تكن لهم عاصمة و احدة حيث كان في مبدأ دولتهم كانت عاصمتهم معسكر متحرك . 5. دولة الكندة كانت تنظم العلاقات بين الدول و يمارسون نفوذهم على القبائل المتفرقة و يقيمون تحالفات معهم فلم يكن لهم مدن كباقي الدول السالفة الذكر . الآن يمكننا القول أن المجتمع المكي لم يكن أمياُ وإن طغى هذا المسمى عليه ، إلا أن تنصيب الحرفي للفظة الأمية يعود إلى عدم وجود نبي منهم كالذي عند المسيحيين واليهود.

و على الرغم أن الحجاز لم بكن قبيل الإسلام و اقعا في مجرى التيار العالمي إلا أنه لم يكن بمنأى عنها ، فقد تسربت إليهم عادات الدول المجاورة و ثقافتهم ،خاصة ثقافة بلاد الحبشة التي أثرت في ثقافة الحجاز ، اضافة على تأثرهم بالتوحيد المسيحي و بالثالوث المسيحي و هو الذي شجع العرب أن تضع لكل قبيلة صنم بإسمها إزاء الكعبة ، لهذا فشل المجتمع المكي أن يكون غذاءً روحاًا لسكانه فعمت الفوضى في عالمي الدين والسياسة . و كانت لحظة رهيبة عند العرب و كأنهم ينتظرون شخصية إلهية تخرجهم من هذه الفوضى و تضع عنهم اصرهم والأغلال التي عليهم ، و المتأمل في مسلك العرب نجد أنه لم يكن هناك إشكال في التوحيد أو الإيمان بالله عزوجل ، بل كانت هناك أمور تتعلق بتعليل و اقع متخلف للعرب و تقدم الشعوب للحضارات المجاورة لهم .

و هنا تثار إشكالات متعددة بعد ظهورالرسول الأعظم (ص) في الحجاز مثل : علاقة العقيدة بالواقع ، الألوهية و الوجود الإنساني ، منهاج قراءة النص المقدس ، موقع التراث من التاريخ ما بعد ظهورالإسلام ، موقع الصحوة الإسلامية من الحضارات الإنسانية ، كل هذه الإشكالات بحاجة إلى تحديد أسئلتها ، فلنشرع في بيان هذه الإشكالات ، لنكشف عن مظاهر التي تجلت فيها. و الحمد الله رب العالمين .

(6)

علاقة العقيدة بالواقع وعلاقة الألوهية بالوجود الإنساني ترجع إلى القوانين الاجتماعية التي يخضع لها الفرد المسلم ، فالدعوة الإسلامية كانت تطمح لتغيير واقع اجتماعي و رسم مستقبل جديد للمجتمعات الإنسانية ولكن هل هذا التغيير سيكون بعيدا عن إرادة الإنسان أم من خلال إرادته الداخلية ؟ الجواب بكل تأكيد من إرادته الداخلية ، كقول الرسول الأعظم (ص) ” قولوا لا إله إلا الله تفلحوا ” أنتم بإرادتكم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا فالقوانين الاجتماعية حسب التصور الإسلامي لا تعبر عن حتمية مطلقة بل تخضعها لشروطها الموضوعية وهي إرادة الإنسان.

إذن الإنسان هو عنصر فاعل في عملية التغيير المنشودة ، وهو أساس انطلاق التطور الاجتماعي والتاريخي وهو محور حركة التاريخ ، فلايمكن للرسول الأعظم (ص) رسم مستقبل الإنسانية بعيدا عن إرادة الإنسان ، وعلى هذا الأساس بنى (ص) الحكومة الدينية ليسترشد الناس بدينهم في أمور دنياهم (1) وهذه الحكومة قامت على أساس احترام القوميات الإسلامية والتوحيد بينها ترجمها (ص) بالمواخاة بين المهاجرين والأنصارحين وصل (ص) إلى يثرب بعد أن بايعته قبيلتي الأوس والخزرج ، وهذه البيعة لم تكن سياسية بل كانت اجتماعية اقتصادية.وعليه بنيت الأسس والقوانين الاجتماعية بوجوب الالتزام بالقرآن والسنة النبوية وليس لأي عامل مصطنع كالتعصب الذي يدخل المجتمعات في صراعات وجودية بسبب أخطاء شخصية وخلافات قبلية ، وهذه النزاعات يجب أن لا تسبب القطيعة بين المسلمين لأن هناك مصالح شخصية ومجتمعية على حد سواء حيث أن التعصب يترتب عليه آثار جانبية منها :

أولا : النفاق فلقد كان الوضع العقائدي غير مستقر في عهد التنزيل حيث كان المسلمون يتشبثون بأية وسيلة لغرض الاستمرارعلى التمسك بأرائهم الشخصية وخير دليل انهزام بعض المسلمين في معركة الخندق حيث قالوا أن بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فرارا هكذا رسم القرآن الكريم في سورة الأحزاب الصورة النفسية للمسلمين أنذاك. ثانيا : الانكار لحقيقة النبوة والتشكيك بقوة الرسالة المحمدية.

هذه الآثار كان على الرسول الأعظم (ص) إنهائها بالمنطق والمصالح المشتركة وكشف أباطيل المغرضين وبالتدخل الإلهي لمحو هذه الآثار فكانت الريح التي هبت وقلعت خيام قوات الأحزاب فكان النصر حليفاً للمسلمين. إلا أن عصبية النسب لم تذهب بعد الإسلام ذهابا تاماً لكنها تحولت إلى وجهة دينية فأصبح أشرف الأنساب قربا إلى الرسول العظم (ص) هو أحق بالخلافة من بعده ، فكان القريشي يفتخر بنسبه إلى قريش وله الحق للتقدم إلى المناصب العليا في الدولة الإسلايمة وهذه العصبية قسمت الإسلام إلى إسلام سياسي و إسلام ديني رغم أن الرسول الأعظم (ص) قال في خطبة حجة الوداع ” إن ربكم واحد ، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى” ، ولكن بنو أمية كان لهم شأن آخر مع هذه النظرية فهم اعتبروا أن السلطة التي كانت بأيديهم قد سلبت تحت هذه الشعارات فخاضوا 82 معركة ضد النبوة حتى و صلوا إلى حكم الممالك الإسلامية فذهبت دهشة النبوة وعادت الناس إلى العصبية الجاهلية ، هذا الخطر الذي حذر منه الرسول الأعظم (ص) أمته.

” تحدث إمام وخطيب مسجد الخلفاء الراشدين في طرابلس لبنان الشيخ محمد الزعبي في برنامج «حقائق التاريخ» على قناة الكوثر الفضائية وقال ، أخرج الحاكم في مستدركه على الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : « إن أهل بيتي سيلقون من بعدي من أمتي قتلاً وتشريداً وإن أشد قومنا لنا بغضاً بنو أمية وبنو المغيرة وبنو مخزوم». وفي حديث آخر قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إذا بلغت بنوأمية أربعين اتخذوا عباد الله خولاً ومال الله نحلاً وكتاب الله دغلاً»”.” وأضاف خطيب مسجد طرابلس ، حتى الأحاديث التي حاول الحفاظ تضعيفها والتي تتعلق بمؤسس هذه الدولة ، معاوية بن أبي سفيان ، نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قال «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه». طبعاً هذا الحديث ضعفه أكثر الحفاظ لأن من بعد عهد المتوكل صار نوع من التعصب لبني أمية لكن الحافظ أبوالفيض أحمد بن صديق الغماري الذي قالوا عنه آخر الحفاظ قال ، هذا الحديث موافق لشرط البخاري في الصحة “(2).

ما هي حقيقة بنو أمية ؟ هل الصراع بين النبوة وبنو أمية هو صراع الحضارات أم هو صراع العصبية القبلية أي منهم ؟ ركزوا معي على الجواب رجاءً لأنه بحث مهم جدا نصل من خلاله إلى الأسباب التي جعلت من الحسين بن علي يمتنع عن مبايعة يزيد بن معاوية ويخطط لنهضة مستدامة تحفظ الرسالة المحمدية من الزوال إلى يوم القيامة. يذكر المؤرخون أن عبد شمس بن عبد مناف أخا هاشم بن عبد مناف قد تبنى عبدا له روميا يقال له أمية فنسبه عبد شمس إلى نفسه فنسب أمية بن عبد شمس. فأصل بني أمية من الروم ونسبهم في قريش (3).

وتعود قصة هذا النسب إلى أن قصي بن كلاب بن مرة الجد الرابع لخاتم الرسل (ص) كان اسمه زيدا سمي قصي أن أمه تزوجت بعد وفاة أبيه كلاب بن مرة القريشي بربيعة بن حزام بن سعد القضاعي وانتقلت به إلى الشام مع زوجها فسمي قصيا لقصوه عن أهله ، ترعرع قصي عند ربيعه بن حزام على أنه أبوه ، فكان أن تنازع مع بنو عذرة (الخزاعة) فعيروه أنه دخيل ، فسأل أمه فقالت له إنه من مكة وأن ربيعة ليس أبوه.
فرجع إلى مكة حتى حاز على سدنة الكعبة من أبي غشيان ، ندلعت حرب إثر حصول قصي على ولاية البيت من أبي غبشان. فحـُشدت قريشاً وبني كنانة وقضاعة على حرب خزاعة ، فلما كثر القتل بينهم حكموا عمر بن عوف فحكم بإسقاط الدماء ونقل ولاية البيت إلى قصي ، فاجتمعت له السدانة والرفادة والسقاية. قام بعد ذلك بتجميع قبائل قريش في نواحي مكة ، وأعاد بناء الكعبة وبنى دار الندوة (4).

مات قصي وترك أمور السدانة والرفادة والسقاية بيد إبنه عبدالدار، غضب منه أخوه عبدمناف حتى تصالحا وقسما أمور إدارة السدانة والسقاية والرفادة بيتهما ، ثم آلت الأمور إلى عمرو المشهور في كتب التاريخ بإسم هاشم ، أما ما يذكر في كتب التاريخ أن هاشم وعبد شمس إخوة فقد ثبت بالدليل التاريخي بطلان هذا الرأي وأن عبد شمس ونوفل كانا تحت كفالة عبد مناف فهما أبناء زوجته من بني عدي (5).

ترعرع امية عند عبد شمس ، فأصبح أميه بن عبد شمس مثله مثل زيد بن حارثة الذي رباه خاتم الرسل (ص) فسمي بزيد بن محمد حتى نزلت آية ” أدعوهم لأبائهم ” (5) فتفاخر أمية في النسب على هاشم فأحتكما إلى كاهن الخزاعي بعسفان ويكون على الخاسر فيها أن يدفع خمسين ناقة سود الحدق لتنحر، وأن يجلو عن مكة عشر سنين ، فحكم لهاشم على أمية ، وطرد أمية إلى الشام ، فتزوج من إمرأ ة هناك ، إلا إنه كان عقيما فأعطى زوجته لعبده ذكوان وكان يهوديا فذرية بنو أمية من هذا العبد اليهودي (6) .

والرسول (ص) يصرح بأن ذكوان يهودي من أهل صفوريه قاله لعقبة بن أبي معيط ” إنما أنت يهودي من أهل صفورية ” (7). وكان ذكوان ( أبو عمرو) یھودیاً من الشام. إذ قال عقیل بن أبي طالب للولید بن عقبة بن أبي معیط بن ذكوان : كأنك لا تدري من أنت ، وأنت علج من أھل صفوریة – وھي قریة من أعمال الأردن من بلاد طبریة ، كان أبوه ذكوان یھودیاً منھا (8). والحمد لله رب العالمين.

المصادر
1- أحمد محمود صبحي ، نظرية الإمامة ، ص 17
2- الموقع الإلكتروني لقناة الكوثر ، تحذير النبي من بني أمية ومعاوية ، 16-4-2018م
3- الإستغاثة ، أبو القاسم الكوفي جزء 1 ص 72
4- موسوعة ويكابيديا – قصي بن كلاب
5- سورة الأحزاب آية 5
6- جواهر التاريخ ، الشيخ علي الكوراني العاملي ، جزء 2 ص 82
7- السيرة الحلبية ، الحلبي الشافعي ، جزء 2 ص 186
8- مروج الذهب ، المسعودي جزء 1 ص 336