الحاسّة وسيلة يمتلكها الكائن الحي يستطيع من خلالها التعرف على محيطه وما يدور في بيئته، ويعد أرسطو من أقدم وأشهر من أشار إليها؛ حيث حددها بخمس حواس توجد عند الإنسان والحيوان؛ وهي: الإبصار، والسمع، والشم، واللمس، والتذوق.
وتعد حاسة الإبصار الحاسة الأهم عند الإنسان، فعندما نريد أن نصف مكانا ما فإننا في العادة نصف المكان وصفًا بصريًا، فنذكر سعة المكان والألوان وشكله الفيزيائي (مربع مثلث أو دائري) ونادرًا ما نصِفُ رائحة المكان مثلاً إلّا إذا كانت مميزة بشكل لافت للنظر. لكن حاسة الشم مثلًا تعد الأهم عند عدد من الحيوانات كالكلاب، ولذا يُلاحظ أن الكلب لا يجول ببصره في الحديقة عادة؛ بل تراه يدس أنفه في كل مكان، فذاكرته شميَّة وليست بصرية، كما هي ذاكرة الإنسان، ولذا فلو قُدِّر للكلاب أن تتكلم لما قامت بوصف المكان وصفًا بصريًا؛ بل كانت ستصف المكان بما فيه من روائح!
وتفوق قوة حاسة الشم عند الكلاب بمراحل حاسة الشم عند الإنسان، بينما تتميز حاسة الإبصار عند الإنسان بأنها دقيقة وتستطيع أن تميز تفاصيل صغيرة، وهذه التفاصيل تعجز عنها الكثير من الحيوانات بما فيها الكلاب، ولذا فإن الكلب لا يعتمد على صورة صاحبه ليميزه عن غيره؛ بل يمكنه أن يميز صاحبه من خلال رائحته، ولذا يستطيع أن يعرف أن صاحبه قريب منه حتى لو كان هناك جدار فاصل بينهما.
إلَّا أن تطوُّر البحث العلمي كشف عن وجود حواس أخرى عند الإنسان يستطيع من خلالها أن يتعرف على محيطه، فمثلًا للإنسان قدرة على معرفة ما إذا كانت الأرض التي يقف عليها أرضا سهلة منبسطة أم أنها ذات انحناءٍ حادٍ، حتى لو كان مغمض العينين والسبب في ذلك أن لديه حاسة داخلية تستطيع أن تميز بينهما.
لكن الأهم من ذلك أن البحث العلمي كشف عن حواسٍ أخرى تملكها الحيوانات ولا يمتلكها الإنسان أصلًا، فبعض الأسماك تقوم بتحسس المحيط، لا من خلال الحواس الخمس المعروفة لدينا؛ بل من خلال حاسة مُميزة للغاية؛ إذ تقوم بإنتاج مجال كهربائي حولها، وإذا كانت هناك أشياء حولها تقوم بتغيير هذا المجال، فإنها تستشعر ذلك، وتستطيع أن تتعرف على ذلك الشيء من خلال التغير الحاصل في المجال الكهربائي، فإذا كان الإنسان يتعرف على المحيط من حوله من خلال حاسة الإبصار بشكل رئيسي، وإذا كانت الكلاب تتعرف على المحيط من حولها من خلال حاسة الشم، فإن هذه الكائنات البحرية تعتمد على الحاسة الكهربائية بشكل أساسي للتعرف على المحيط من حولها.
فسمك سكين الشبح الأسود مثلًا، يملك ما يقدر بـ1400 مستقبلٍ للإشارات الكهربائية في مختلف أنحاء جسمه، ويستطيع أن يتحرك في الاتجاهات الأربعة بالسرعة والسهولة ذاتها لأنه يعتمد على الحاسة الكهربائية في حركته لا على حاسة الإبصار، ولا يؤثر الضوء أو الظلام في قدرته على الحركة ومن مميزات هذه الحاسة، أنها حاسة فاعلة وليست مستقبلة، فهي التي تقوم بإنشاء المجال الكهربائي حول السمكة، ومن ثم تتابع التغير في ذلك المجال، وبذلك فهي تختلف عن حواسنا التي تعد مستقبلة لا فاعلة، فالعين حاسة الإبصار عندنا تقوم باستقبال الضوء ولا تقوم بإرسال الضوء للجسم.
ونظرًا لأنَّ المجال الكهربائي يتأثر بتركيز الأملاح، فإن هذه السمكة تفضل العيش في المياه العذبة للأنهار فنجدها في نهر الأمازون مثلًا؛ حيث تقل نسبة الملوحة عمومًا. ولا يُعرف حجم الذاكرة التي تمتلكها هذه الأسماك، لكنها حتمًا ليست ذاكرة شمية أو بصرية؛ بل هي ذاكرة كهربائية، وهذه الذاكرة الكهربائية تقوم باستخدامها للتعرف على الأسماك الأخرى في محيطها فهي تتعرف على بني جنسها من خلالها؛ بل لوحظ أنها تستخدم هذه الحاسة للتفاهم والتزاوج أيضًا!
وهكذا نجد أن عالمنا الذي رسمناه بالصورة، ترسمه الكائنات الأخرى بالروائح، فهو عالم مليء بالروائح المختلفة، عالم لا يعني لها اللون والجمال البصري الشيء الكثير، بل ما يهمه هو الروائح المنتشرة في ذلك المكان، وهناك من الكائنات الحية من يهتم بما في المكان من مجال كهربائي فيتخيل العالم على أنه عالم من ذبذبات كهربائية ولا تعني له الروائح والألوان ما تعنيه لنا نحن بني البشر!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس