واقعة الطف المأساوية بأحداثها التراجيدية التي جرت على أولاد رسول الله (صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين) في العاشر من محرم الحرام عام 61 للهجرة حفرت لنفسها جرحاً عميقاً في صدر التاريخ الإسلامي. الجرح يتفاوت في الاحساس بعمقه بمدى تفاوت الحساسية لدى الإنسان تجاه مثل هذه الجروح والتراجيديا المنطوية فيها، ومدى التعلق العاطفي للمؤمن برسول الله والتجاوب الوجداني للتعبير عما قد يكون أصاب رسول الله بما جرى على أولاده.
الدين الإسلامي يزخر بتعدد القراءات والروايات للمشهد الواحد والموقف الواحد والنص الواحد. وبين تلك القراءات قراءة يجتهد أصحابها لإرجاع النصوص وملابساتها لمصادر أهل البيت، وفي الركن المقابل لذلك موقف انبنى على تراث انفتح لصياغة وتسجيل ونقل وتفسير الطرف المقابل لأهل البيت، والذي انخرط في ارتكاب المأساة العاشورائية. وفي خضم الجهود الرامية لاستخلاص الواقع من التراث، فلا بد من أخذ ذلك في الاعتبار لئلا تبقى الرؤية منحازة خارج المعقول. ولا شك أن القراءات ستبقى متعددة رغم تلك الجهود، لاستحالة تنقية أثر الموروثات في بعض الأمور. ويقتضى الوضع من الباحث عن الحقيقة التجرد من الموروثات وتقصي السلسلة بدءاً برسول الله. وما بقي بعد ذلك فلا أشك أن المولى تبارك وتعالى يتولاه عن المؤمنين المخلصين إما هدياً وإرشاداً، وإما تجاوزاً وصفحاً وعفواً وقبولاً بسلامة النيات. وهذا ينطبق على واقعة الطف وتفاصيلها وملابساتها.
لقد أدت التضاربات في التاريخ الإسلامي فيما يتعلق بواقعة الطف إلى تهميشها لحد النسيان والتغافل والتقليل من الشأن، رغم ورود التفاصيل في معظم المراجع التأريخية. ومن ملامح التلاعب استحداث مناسبات تأريخية يتم الاحتفال بها بالتحديد في يوم عاشوراء مثل ذكرى إنجاء سيدنا موسى وبني إسرائيل من بطش فرعون. فهل تساءل الذين قبلوا بهذه الرواية عما إذا كان “محرم” من شهور السنة في عهد موسى عليه السلام، أو كيف تم تحديد يوم العاشر من محرم الحرام ليكون مصادفاً لذلك التأريخ، بينما بقيت المناسبات الأخرى من ذلك العهد مجهولة؟ وحتى وإن تبين وصحّ كل ذلك، فأين مناسبة إنقاذ بني إسرائيل من بطش فرعون من مأساة رسول الله فيما جرى على أهل بيته في كربلاء من الأهمية؟
تاريخ أئمة أهل البيت من الإمام الرابع زين العابدين عليه السلام يبين ما لاقى يوم عاشوراء من الاهتمام بإحياء الذكرى من باب تقديم العزاء لرسول الله وأهل بيته، بالرغم من المعاناة من القهر الأموي والعباسي. وبمحدودية المجال المتاح للأئمة وأتباعهم وأصحابهم لم يكن الوضع يتسع لأكثر من مجلس عزاء تتلى فيها قصة كربلاء وشعارات الإمام الشهيد وما تيسر من القصائد الشعرية الرثائية في تأبين شهداء واقعة الطف. ولم يسع الشيعة في تلك الأيام التعبير بما يجيش في الصدور بأكثر من ذلك، خصوصاً بعد أن شهدت السنون اللاحقة للواقعة ثورات عديدة استهدفت المجرمين من جيش يزيد الذين اشتهروا بأفعال إجرامية على أولاد رسول الله، وكانت أهم تلك الثورات ثورة المختار الثقفي الذي تمكن من الاقتصاص من الكثير من أولئك المجرمين.
هناك لغط كبير حول المبالغات التي نشهدها في التعبير عن مأساة عاشوراء من خارج المذهب الشيعي ومن داخله، والتي تطورت كثيراً من الجلسة العزائية في حضرة الإمام من أئمة أهل البيت. وما يبدو ذا أثر جوهري في ذلك لعله انزياح الكبت الأموي والعباسي اللذان ركزا على العزلة السياسية لمن تبقى من أهل البيت وأشياعهم خوفاً من الثورات، وكذلك خشي العباسيون انقلاب الأمر عليهم، إذ أنهم تذرعوا بالقرابة من رسول الله لتبرير استيلائهم على الخلافة مع وجود من يكون أقرب منهم نسلاً وأحق منهم بالخلافة، الذين يتمثلون في ذرية رسول الله وهم الأئمة الأطهار. وظهرت من بعدهم دول تبنت مذاهب من التي تنتمي إلى أهل البيت فتراخت الأمور فيما يتعلق بإحياء الواقعة الأليمة، من قبيل الفاطميين والقرامطة. وازدادت المرونة بل وتحولت إلى تبنٍّ مباشر للاحتفال بإحياء عاشوراء من قبل الدولة عندما تحولت بلاد فارس إلى المذهب الإمامي الإثناعشري. وهذا مما يسوقه الكثير من المنتقدين كحالة مستوردة في الممارسات الشيعية لتجاوزها ما سبق من المستويات الاحتفالية، رغم أنها في حقيقتها حالة صحية فتحت المجال لتعبير محبي أهل البيت عن مخاضهم الوجداني فيما يتعلق بالمصيبة العظيمة التي ألمّت برسول الله وأهل البيت. فمن الخطأ اعتبار ما سمحت به الظروف تحت الخلافتين الديكتاتوريتين الظالمتين لأهل البيت أن يكون هو المعيار للتعبير السليم عن فداحة المصيبة.
وفيما يتعلق بالمظاهر الاحتفالية العزائية ليوم عاشوراء نرى جلسة في المسجد وتلاوة قصة المصيبة وزيارة الإمام الحسين في الطرف الأدنى، وفي الجانب الأقصى مظاهر عنيفة من إيذاء الذات كالضرب المدمي على الصدور واستخدام سلاسل السكاكين للضرب على الظهور وإسالة الدماء والتطبير باسخدام السيوف لإدماء الجبهات والمشي حافياً على جمرات مشتعلة، وبينهما مساحة واسعة من النوح والمسيرات والسهر في مجالس عزاء. فترى، ما هو الحد الأدنى المقبول لتقديم العزاء والتعبير عن وقوع المصيبة؟
لو ابتعدنا عن البعد الديني ونظرنا إلى الممارسات العامة لبني البشر في مسيرة حياتهم، فسنجد تفاوتاً كبيراً جداً بين من يحب ويفضل الحياة البسيطة الساكنة والهدوء، وبين من لا يهدأ لحظة من لحظات يقظته في كل ركن من أركان حياته، وبين من يكتفي بالإشارات ومن يحتاج إلى الهز والرج والصغب حتى يتفاعل. وذلك في الأكل والشرب، وفي المعيشة والتعايش المجتمعي، وفي الاستجمام والترفيه، وحتى في طبيعة العمل والمهن والقراءة والمطالعة وكافة ما يتعاطى معه الإنسان، وهي مسائل شخصية فردية قد تلتقي مجموعة من البشر في إحداها وتظل مختلفة في غيرها. ولذلك فالمعايير في هذا المضمار مآلها للأذواق الشخصية الفردية في الأساس، وحولها محيط من الحزمة القيمية التي تتبناها المجتمعات للحكم على الممارسات في موقف جماعي تجاه ما يدور في المجتمعات. والمجتمعات المتدينة تتبنى الحزمة الشرعية من الأحكام للتعاطي مع يدور فيها… ولكن، أية ديانة؟؟؟ فاليهودية لها حزمتها والمسيحية لها حزمتها وكذلك الديانات الهندية والبوذية والصينية واليابانية و الحزم الأخلاقية لبقية البشر.
وبالطبع، تتبنى المجتمعات الإسلامية الحزمة الدينية الإسلامية. ولكن مهلاً… ليست ثمة حزمة متكاملة واحدة يعتمدها الجميع في الإسلام، حيث أن المذاهب المختلفة لديها قراءاتها التي تتلاقى في الكثير، ولكن تتخالف في البعض. فلدينا المذهب الذي يسمى “السني”، الذي هو في الحقيقة متفرع لأربعة مذاهب، والمذهب الأباضي، ثم المذهب الشيعي الذي يفرعه الباحثون إلى عدة فروع كالإسماعيلية والعلوية والدرزية والزيدية وغيرها، ويمثل المذهب الشيعي الإثناعشري أكبرها. فهل نكون بذلك وصلنا لنهاية التفرعات…؟ مطلقاً! فحتى ضمن المذهب الشيعي الإثناعشري (الجعفري – نسبة للإمام جعفر الصادق) – الذي يتم صب وتعميم كل النقد المتعلق بالممارسات العاشورائية عليه – يبقى الاتفاق في معظم الحزمة فيه ويستمر التفاوت واختلاف القراءات على مستوى “مَراجع التقليد” وهم الفقهاء المتصدين للاجتهاد في المسائل الفقهية الشرعية ويتبنى فتاويهم وآراءهم “المقلدون” لهم. وحتى عند هذا الحدد لا يتوقف التفاوت، فتستحدث الآراء طبقاً للفهوم الشخصية التي هي عرضة لكل ما يدور حول الناس في الإعلام ومختلف المحافل، بحيث يمكن أن يتفاوت الفكر على صعيد كل شخص وفرد. فهل يجوز لأحد أن يفرض قراءته ويلغي الآخر كلياً؟ أفليس من الظلم التعميم بالحكم بالفساد والكفر والزندقة وما إلى ذلك على جماعة أو مذهب أو دين كرد فعل على تصرّف من فرد أو جماعة…؟!
ويتساءل الكثير ويتوقفون عند السؤال “أفيرضى الله عن أفعال إيذاء النفس؟” فيما يتعلق بالممارسات العنيفة من قبل البعض كالضرب المدمي بالأيادي أو السلاسل أو السيوف. لا شك أن الدول تضع وتتبنى القوانين التي تسري ضمن نطاق حكمها، ومن يخضع لها عليه أن يتقيد بتلك القوانين أو أن يواجه التبعات العقابية عند المخالفة. كما أنه لا شك أن التعدي على حقوق الآخرين يستتبع عقوبات على المتعدي. وفي عقيدتنا أن الله عز وجل شرع الشرائع والأحكام وطالبنا بالتقيد بها، وسيحاسبنا يوم القيامة على سلوكنا، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء. ولكن من الذي أوكل إليه الله تنفيذ الأحكام في الدنيا فيما يتعلق بإخلال العبد فيما فرض عليه الرب من الفرائض والأحكام…؟!
الخلاصة:
• كانت الأحداث التي وقعت يوم عاشوراء في كربلاء مؤلمة إنسانياً لا يقوى عليه إلا البلادة الحسية، من المواجهة غير المتكافئة والحرمان من الماء والتعذيب والقتل واستباحة الحرمات وهتك الأعراض والسلب والنهب وإيذاء الأطفال والنساء واقتياد الثكالى عبر الصحراء والإهانة واستعراض الأسرى من النساء والأطفال في القصور العسكرية وأقوال وأفعال التشفّي.
• ضاعف من إيلام الأحداث أضعافاً أنها وقعت على أولاد وحرم رسول الله، بعد التعدي على الرسالة التي بعثه الله بها رحمة بالناس واستنقاذاً لهم من أوحال الجاهلية.
• تناغم المؤمنون مع الشحنة العاطفية المنطوية في عاشوراء فعكفوا على إحياء ذكراها، وفاءً لرسول الله وإبقاءً على الخط التصحيحي في الإسلام الذي نهض به الإمام الحسين.
• بدأت مراسم العزاء بجلسات حزينة في المساجد، كونها الحد الذي سمحت به الحكوماتت الطاغية، فلما سنحت فرصة التوسع والزيادة تجاوب المؤمنين ووسعوا في الطقوس. وكذلك لعب عنصر تزايد سهولة الحصول على المعلومات التاريخية على مر الزمن دوراً في تفاعل عاطفي أوسع مع فداحة مجريات الواقعة، مما يُفترض أنه زاد من تناغم المؤمنين معها.
• في الحقيقة، تعكس المبالغات في العزاء وصولاً لحد إيذاء النفس تعاطفاً مع شخصيات عاشوراء، وتستنسخ في الأساس صور العنف التي تم تنفيذها من الجيش الأموي الظالم على أولئك المستضعفين الأطهار، فيميل أولئك المتعاطفون إلى إذاقة أنفسهم بعض ما جرى للشهداء وحرمهم.
• تلون الطقوس في مختلف المجتمعات ببعض الموروثات الفكرية والثقافية فيها جائزٌ جداً، وربما تسرب أيضاً بعض ما تعتبره بعض المجتمعات الإسلامية الأخرى تجاوزاً لحدود قراءاتها الدينية. ولا يستدعي ذلك التسرب أن يكون محرّماً بحد ذاته بالضرورة، إلا إذا تجاوز حدود الشريعة المطهّرة.
• بعض الممارسات الصارخة جداً التي نشهدها وتجانف الذوق العام، ولكنها تبقى مقبولة بل ومرحّب بها في محيطها المجتمعي بحيث يتنافس المؤمنين بالمبالغة فيها، وهي لا تخرج إلى حد كبير عن رعاية فقهاء وعلماء تلك المجتمعات.
• إيذا النفس مكروه في ديننا وقد يبلغ مستوى التحريم، وتميل طبقة المثقفين من ذات المجتمعات إلى النفور منها ونقدها، فضلاً عن عموم المجتمعات الأخرى، إلا أن رعاية بعض الفقهاء والعلماء تتيح غطاءً شرعياً كافياً لاستمرارها.
• لا شك أن الممارسون للمبالغات في إحياء ذكرى عاشوراء يعكفون عليها طلباً لرضا الله تبارك وتعالى وحبيبه المصطفى وأهل بيته، وذلك من خلال قراءة ذلك المجتمع المعني وفقهائه وعلمائه، استلهاماً من النصوص التاريخية المعتمدة لديهم.
• فرض قراءة فقيه وعالم دين على غيره من الفقهاء ليس منصفاً، فالاختلافات واردة بين الفقهاء حتى في الوضوء والصلاة والكثير من الفرائض والأعمال التي يؤديها المسلم يومياً.
• فأما من كان من المسلمين مستعيباً كون ممارسي تلك الطقوس المتجاوزة حدود الدين في قراءته يدّعون انتمائهم لمجموعته الدينية أو المذهبية، فعليه أن يتذكر، إن كان تدينه مراءاةً للناس فالأولى أن يراجع الإخلاص لله في نفسه قبل مباشرة الحكم على غيره من ذوي القراءة المخالفة.
• يستحق التنويه أن الطقوس العنيفة يمنعها غالبية فقهاء الشيعة الإمامية الإثناعشرية، كضرب السلاسل المدمية والتطبير بالسيوف المدمية للجبهات.
هذا مبلغ علمي واطلاعي وفهمي، والاعتذار إلى المولى عز وجل وحبيبه المصطفى وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
السَّلام عَلَيْكَ يَا أبا عَبْدِ اللهِ وعلَى الأرواحِ الّتي حَلّتْ بِفِنائِكَ، وَأنَاخَت برَحْلِك، عَلَيْكًم مِنِّي سَلامُ اللهِ أبَداً مَا بَقِيتُ وَبَقِيَ الليْلُ وَالنَّهارُ، وَلا جَعَلَهُ اللهُ آخِرَ العَهْدِ مِنِّي لِزِيَارَتِكُمْ أهْلَ البَيتِ، السَّلام عَلَى الحُسَيْن، وَعَلَى عَليِّ بْنِ الحُسَيْنِ، وَعَلَى أوْلادِ الحُسَيْنِ، وَعَلَى أصْحابِ الحُسَين.