“لئن نزلت صاعقة على الأرض، فلأنَّ زوس إله الآلهة رمى بها بذراعه، ولئن هبَّت الرياح فلأن إيلول إله الريح فتح قِرَب الماء، عقيدة ساذجة تطورت مع الزمن….” (“تيارات الفكر الفلسفي”، ص:32).
هكذا صوَّر لنا أوغست كونت مُؤسس الفلسفة الوضعية (1857م) سر لجوء البشرية إلى الاعتقاد بالميتافيزيقا. إنه “الجهل” الذي أوجد كائنا باسم (الإله)، وحيث إنَّ العلم أشرقت شمسه على المعمورة، أسقط في يد الميتافيزيقا أدوارها واحدا تلو الآخر، وما عدنا في حاجة إلى الإله الذي جعله الجهل أبا للطبيعة، وعلينا القيام بعزله بعد شكره على خدماته المُؤقتة.
هذا التصوُّر لم يُكلف نفسه لتقديم تفسير لبقاء آلاف من العلماء في شتى حقول المعرفة على اعتقادهم بالألوهية، رغم كل هذا التقدم الهائل للعلم في مُختلف مناحي الحياة؛ فهذا “ونش” وتحت عنوان “العلوم تدعم إيماني بالله”، كتب يقول: “عندما اتخذتُ قرار دراسة العلوم، توسلت عمتي إليَّ تطلب مني أن أعدل عن هذا القرار، لأنها كانت تعتقد بأنَّ الإيمان والعلم لا يتفقان. إنني أشعر بالغبطة تملأ قلبي؛ فلقد درست العلوم واشتغلت بها سنوات طويلة، إلا أنَّها لم تُزعزع إيماني، بل جعلته أمتن، فليس من شك في أنَّ العلوم تزيد الإنسان تبصرا بقدرة الله وجلاله”. (“الله يتجلى في عصر العلم”، ص:8).
وحيث إنَّ التفكير العقلي المُستقل هو التهديد الأكبر لمحاولات طرد الميتافيزيقا عن ساحة الحياة اليومية، قاموا بإخراج حالة “الإيمان” من إطار “العلم”! كتب الفيلسوف الصدر موضحا: “اعتبرت مسألة الإيمان بالله مسألة فلسفية، بمعنى أنَّها مسألة خارجة عن الوسيلة الوحيدة للمعرفة وهي الحس، وحيث ينتهي الحس تنتهي معرفة الإنسان؛ وبالتالي كل ما لا يكون محسوسا فلا يملك الإنسان وسيلة لإثباته؛ وبالتالي تم ضرب فكرة الإيمان بوجود الخالق” (“المرسل والرسول والرسالة”، ص:6).
وماذا تبقى للميتافيزيقا أن تقوم به بعد أن شلَّ العلم حركتها؟
إنِّها “نفخة الحياة” التي ظنَّ النَّاس عندما كان ستار الجهل مرخيًّا على العقول، أنه عمل حصري للميتافيزيقا؛ فالإله وحده الذي يمتلكها، وهو الذي ينفخ روح الحياة، إلا أنَّ هذه النفخة أيضا قد تمَّ سحبها من يده! هكذا ظن أؤلئك الذين قَفزوا فرحين عندما شاهدوا المُرّكبات العضوية الحيَّة يتم صناعتها مختبريا من أخرى غير حية، فظنوا أنَّ ضربة أخرى وقعت على رأس الإله وملائكته الغيبيين، فها هو الإنسان يصنع الحياة أيضاً اليوم بعد أن ظنَّ أن صناعة الحياة ونفختها شفرة تختص بالميتافيزيقا، وكما تنبأ “هيجل” من قبل عندما قال: “ائتوني بالمادة والحركة أخلق كونا” (“أصالة الروح”، ص:32).
إنَّه تصور ينم عن “جهل” بطبيعة الإيمان بدور الميتافيزيقا في الحياة؛ فالإله لا يحتل موقعاً ضمن النظام “العرضي” للكائنات، وإنما يحتل موقع الصدارة في النظام “الطولي”. لقد صوروه يعمل مكان العوامل المسببة في الزلازل، والبروق والرعود والفيضانات؛ بحيث وباكتشاف العنصر المادي الذي يقف خلف تلك الظاهرة، سقط عن الإله دوره المزعوم، في حين لم يكن الإله يوماً يعمل محل العوامل المادية، وإنما يُوجِدها ويُوجِد آثارها مانحاً إياها التحقق والوجود.
وعليه، ليست فحسب هي “نفخة الحياة” التي لا يزال الإله يحتفظ بها، وإنما وجود كل موجود وأثره أيضًا راجع إلى الميتافيزيقا.
وفيما يتعلق بـ”نفخة الحياة” تحديدا؛ فلقد طرح أحد كبار فرسان “المستقلات العقلية” سؤالا، أسنده إلى القاعدة البديهية التي لم نعهد عاقلاً يقبل أن يتجاوزها، ألا وهي أن “فاقد الشيء لا يُعطيه”، فقال: “إذا كانت الحياة شيئا آخر غير متوفر في الذي لا حياة له -وبديهياً هذا الأمر لا يقبل المناقشة – فسؤالنا هو: من أين أتت ونحن نعلم أن فاقد الشيء لا يُعطيه؟” (“المرسل والرسول والرسالة”، ص:29).
لم نعهد فعلًا أن نجد عاقلا يتجاوز “جدار المنطق البديهي” في الحياة اليومية العملية، ولكن في ميدان الفكر فحدِّث ولا حرج عن التجاوزات إلى حد الشذوذ.
لندع فارس المستقلات العقلية يُكمِل حديثه: “إذا كان الاختلاف بين أشكال الوجود يُعبّر عن وجود تطوّر ونمو وزيادة في وجود هذه الأشكال، فمن أين جاءت هذه الزيادة الجديدة في المادة؟”.
توجد بهذا الصدد ثلاث إجابات:
الأولى: أنّ هذه الزيادة قد جاءت من المادّة نفسها. الشكل الأدنى من وجود المادّة هو السبب في وجود الشكل الأعلى. ولكنّ هذه الإجابة تتعارض مع القضية التي تُقرِّر أنّ الشكل الأدنى درجة لا يُمكن أنْ تكون سبباً لما هو أكبر منها درجة!
الثانية: أنّ هذه الزيادة قد جاءت من المادّة نفسها، على أساس أنّ كلَّ أشكال التطوّر ومحتوياته موجودة في المادّة منذ البدء. ولكن هذه الإجابة أيضًا عاجزة من أين تشرح جاءت الزيادة؟ لأنه قد تقرر أن الدرجة الأدنى لا تنتج الدرجة العليا، ففاقد الشيء لا يُعطيه؟” (“المرسل والرسول والرسالة”، ص:39).
لم يتبقَ إلا القول بأنَّ الميتافيزيقا حاضرة جدًا، وبشكل دائم، تعمل على ضمان تدفق الحياة وتنفخها بلا كلل طالما أنَّ شروط تمريرها قد توافرت؛ فليست في الطبيعة قوة تصلح لأن تكون مانحة لما لا تملك، البتة، وإنما تصلح لأن تُعد لاستقبال مطر الرحمة النازل من علياء الميتافيزيقا.
وبعبارة فارس آخر للتفكير العقلي المستقل: “الأجزاء في تركيبها تُمهِّد الأرضية لتحقق طاقة الحياة. فعندما تتدفق الحياة في الأجزاء تصبح مؤشرا على الغيب؛ لأنَّ المادة فاقدة للحياة وتحصل عليها في سيرها التكاملي فتصبح نشطة بعدما كانت خاملة” (“أصالة الروح”، ص:31).