تعملُ جميع دول العالم على جذب المزيد من الاستثمارات العالمية لديها للتكيُّف مع الإستراتيجيات التي تضعها لاقتصاداتها المحلية.. وهذا الأمر ليس بغريب علينا في السلطنة؛ حيث تبذل الحكومة جهودها لتوفير العديد من المزايا والدعم والحوافز التي تشجع المستثمرين على القدوم إلى البلاد، وإقامة المشاريع التي يمكن من خلالها استفادة المستثمرين أنفسهم وكذلك الاقتصاد المحلي.
وهذه السياسة تحتاج اتخاذ قرارات صائبة في الكثير من الجوانب، خاصة فيما يتعلَّق بكيفية تشغيل القوى العمالة الوطنية والوافدة؛ فليس من السهل إقناع المستثمر الخارجي بالقدوم إلى الدولة المستضيفة، في الوقت الذي يرى فيه أنَّ هناك من العقبات التي يُمكن أن تمس سياسة التوظيف والتشغيل بصورة تؤدي أحيانا إلى النفور. فليس المكان ولا التشريعات ولا الحوافز هي التي تلعب دوراً رئيساً في جذب الاستثمار الأجنبي فقط، ولكن من المهم أن تكون قرارات تشغيل العمالة واضحة بصورة كبيرة؛ بحيث لا يُؤدي نقص الخبرات والكفاءات إلى توقف عمل المؤسسات أو الوحدات الصناعية والخدمية من الاستمرار، وإلزام المؤسسات والشركات بتعيين كوادر غير مؤهلة للعمل. فالاقتصاد الحر يحتاج إلى قيام المستثمر بالتكيف مع ما يراه صالحا لمؤسسته، وفي تشغيل من يراهم قادرين على تحمل المسؤولية، وفي إنهاء عقود الذين لا يتكيفون في عملهم وفي إنتاجيتهم اليومية.
اليوم.. كل دولة تعمل على التكيُّف مع الإستراتيجيات التي وضعتها لتكون موائمة للبيئة العالمية للاستثمار، والكل له توقعات مُعينة بالنسبة لتدفقات الاستثمار العالمية سواء للفترة الحالية أو العقود المقبلة، وعلى ضوء ذلك يتم وضع سياسات التدريب والتوظيف؛ بحيث لا تواجه الشركات الاستثمارية مشكلات أو صعوبات في التوظيف وعملية الإنتاج. وهذا ما تفعله وكالات الاستثمار في الوقت الحالي لتسريع الانتعاش الاقتصادي في أعقاب جائحة “كوفيد 19″، والتي ألمَّت بالعالم خلال السنوات القليلة الماضية.
وفي السلطنة، تُبذل الجهود لتشغيل العمالة الوطنية وتوطين بعض الوظائف في إطار القرارات التي تتخذها وزارة العمل في هذا الشأن. ومنذ مُدة بسيطة اتَّخذت الوزارة قراراً بحظر 207 وظائف على العمالة الوافدة. فكيف ينظر أصحاب الاستثمار إلى مثل هذه القرارات؟ فمنع استخراج تراخيص استقدام القوى العاملة غير العمانية في هذه المهن رُبما له تبعات سلبية على جذب الاستثمار الأجنبي إلى البلاد؛ الأمر الذي يتطلب مُعالجة هذا الأمر بصورة أخرى.
فمن حق العمانيين أن يحصلوا على العمل والوظائف في بلدهم، ولكن من جانب آخر فإنَّ المنافسة العالمية تتطلب أن يفتح المجال للشركات الاستثمارية باختيار العمالة وفق دراسات الجدوى لأعمالها. ومع مرور الأيام، سوف تضطر إلى تشغيل العمالة الوطنية دون إكراه، بينما فرض التعمين سوف يؤدي إلى نفور الاستثمارات الأجنبية التي نعمل على جذبها. وهذا هو رأي عدد من أصحاب الأعمال والتجار العمانيين الذين وفَّروا الآلاف من فرص العمل للمواطنين خلال السنوات الماضية، ولكن قلة الاستثمارات المحلية والأجنبية هي التي تؤدي لعدم توفير فرص العمل الجديدة للمواطنين.
نحن بحاجة ماسة إلى الاستثمارات الأجنبية لاستضافة المزيد من المؤسسات والشركات في مختلف القطاعات الاقتصادية بهدف تحقيق التنويع الاقتصادي، ولكن بعض القرارات التي تُعنى بأوضاع العمالة في البلاد تعمل على التباطؤ في جذبها، بل وتؤدي إلى خروج الاستثمارات الوطنية أحيانا إلى الدول المجاورة. وهذا الأمر يتطلب من الجهات المعنية أن تقوم بطرح استبيانات لمعرفة نتائج تلك القرارات التي تتعلق بتشغيل العمالة الوطنية، وفرض الإحلال بصورة لا تتناسب وأوضاع الشركات والمؤسسات. وبناءً على ذلك، يتم عندئذ وضع الحلول وإيجاد المخارج لاستيعاب العمالة الوطنية؛ فالأمر لا يتعلق بالتوظيف فقط، وإنما بنظام التعليم والتدريب؛ بحيث تكون لدى الدولة عمالة مؤهلة لتشغيلها في المؤسسات وشركات الاستثمار الأجنبية القادمة قبل قدومها في تنفيذ المشاريع، وليست عملية الفرض عليها في قبول العمالة الوطنية -وإن كانت غير مؤهلة- حلًّا في ذلك.. وهذا ما هو معمول به في كثير من دول المنطقة.
الكلُّ يعلم أنَّ خروج العمالة الوافدة أثناء فترة جائحة “كوفيد 19” أثر على العديد من القطاعات الاقتصادية في مجال بيع التجزئة والعقار والسياحة…وغيرها، وكانت لذلك نتائج سلبية على بعض المؤسسات التي يديرها العمانيون؛ وبالتالي زادت عليها المديوينات التي يعانون منها حتى اليوم. ولكن بدأت الأوضاع تعود إلى سابق عهدها بحيث سجل إجمالي القوى العاملة الوافدة ارتفاعا بنسبة 7% خلال شهر مايو الماضي، لتصل إلى 1.530 مليون عامل مقابل 1.229 مليون عامل خلال الفترة ذاتها من العام الماضي؛ بسبب حاجة المؤسسات والشركات إلى إدارة مهن معينة من قبل هذه العمالة. ولكن هذا لا يعني أنَّ تقوم مؤسسات وشركات القطاع الخاص بالتحايل على بعض القوانين والالتفاف عليها في إفشال خطط التعمين وعدم تشغيل العمالة الوطنية، وهذا ما يجب مراقبته والإشراف عليه؛ بحيث لا ينتج عن ذلك إخلال بعمل تلك المؤسسات وحدوث أضرار مادية للعمالة الوطنية بسبب الأساليب التي تتبعها بعض تلك المؤسسات تجاه المهن التي تتطلبها في العمل اليومي.
وأخيراً.. نقول إنَّ قرارات حظر المهن تنقل رسالة سلبية للمؤسسات والشركات الراغبة في القدوم إلى أي دولة؛ الأمر الذي يتطلب في البداية العمل على جذب الاستثمار أولاً، ومع مرور الأيام والإنتاج الفعلي للمؤسسات يتم ضخ المزيد من العمانيين في تلك الأعمال، وفق مُؤهلاتهم وخبراتهم ومهنهم، مع عدم السماح للشركات الأجنبية باستغلال بعض الثغرات في القوانين والهروب من تشغيل العمالة الوطنية، وعدم السماح لشركات التوظيف بمنح فرص العمل للعمالة الوافدة في حال وجود العمالة الوطنية المماثلة للقيام بتلك المسؤوليات، وقيامها بتغيير مسار التوظيف في بعض الوظائف التخصصية. ولا شكَّ أنَّ قيام وزارة العمل بهذه المسؤولية في عملية التوظيف سوف تقلل من دور تلك الشركات في التلاعب وفي تغييب فرص العمل للعمانيين.