عمرها لا يتجاوز الثماني سنوات، لكنها بحارة ماهرة تركب الموجة تلو الموجة حتى صارت «أمهر غواصة في الأعماق». في هذا العمر الصغير حلمت الطفلة بالإبحار مع عمّها «النوخذة الكبير» لاكتشاف الجزر والبلدان النائية. وحين كانت تتوسّل إليه ليأخذها معه، كان يجيبها: «كيف يمكن لفتاة صغيرة أن تتحمّل مشاق السفر التي لا يقدر عليها إلا الأشداء من الرجال، لكنها كانت تُلحّ عليه قائلة: “أرجوك يا عمي، خذني معك، أريد أن أعيش مغامرات البحر المثيرة».
إنها سندراني بطلة القصة المصورة الجديدة للكاتبة العُمانية أمامة اللواتية التي صدرت في كتاب هذا الأسبوع عن دار السلوى الأردنية المتخصصة في أدب الأطفال والناشئة، برسوم معبّرة وأخاذة للفنان الإسباني سيزار سمانيجو. الكتاب صدر عن سلسلة «الدحنون» التي تتوجه للأطفال من سن السابعة فما فوق، وتهدف إلى أن تكون جسرًا ينقل القارئ الصغير من القصص المصوّرة إلى الروايات المبسّطة، كما جاء في النبذة التعريفية بالسلسلة آخر الكتاب.
وإذا كان «النوخذة» قد حاول إطفاء رغبة سندراني الطفولية لخوض عباب البحر بإهدائها لعبة اشتراها من بائع تحف، هي عبارة عن قارب شراعي قال إنه من بلاد الهند والسند، فإن ذلك القارب/ اللعبة كان سببًا في تحقيق الرغبة لا إطفائها؛ لأن الأطفال هم أخصب الكائنات خيالًا، فقد كانت هذه الهدية كافية لسندراني لتحقق حلمها بالسفر وخوض المغامرات، وتحقيق الذات، أو لنقل إنها كانت حيلة فنية ذكية من المؤلفة للدخول على عوالم بطلتها.
تفاصيل صغيرة كثيرة تتضافر لتصنع جمال هذا الكتاب، أولها خروج أمامة عن الصندوق المعتاد في جعل أبطال البحر ذكورًا، لتجعل بطلتها أنثى هذه المرة، بل وتختار لها اسمًا ذا مغزى (سندراني) الذي يذكّرنا ببطل البِحار الأسطوري: سندباد. تشرح الكاتبة ذلك بإحالتنا إلى الجذر اللغوي للاسمين؛ فاسم « سندباد» يتكون من شقين: سند/ باد، ويعني أمير البحار أو سيد بلاد السند، في حين يُحيلنا اسم « سندراني» بمقطعيه سند/راني إلى معنى قريب، وهو سيدة بلاد السند، إذْ تعني «راني» في عدد من لغات الهند والسند أميرة أو سيدة.
لم تكن أسطورة السندباد هي الوحيدة التي أعادت أُمامة كتابتها من منظورها الخاص في هذه القصة، فقد مزجت بين أسطورتين إغريقيتين وأعادت كتابتهما من جديد؛ الأولى هي أسطورة « بروميثيوس»، سارق النار. تخبرنا هذه الأسطورة أن بروميثيوس طيب تجاه البشر، وما سرق النار من الآلهة إلا لينقلها للأرض من أجل مصلحتهم، بل وتحمّل من أجلهم عقاب الإله زيوس، وقد حفظ البشر لبروميثيوس هذا الصنيع، وظلوا يتذكرونه كل أربع سنوات من خلال الشعلة التي ترمز إليه ويحملها الرياضيون في افتتاح دورات الألعاب الأولمبية، لكن «ديميتر» في قصة أمامة يسرق النار لأنه شرير وليس لأنه طيب، وليضّر الناس لا لينفعهم، انتقامًا ممن سجنوه بجعلهم يعيشون في برد قارس. ديميتر هذا الذي جعلتْه المؤلفة رجلًا شريرًا، يحيلنا على الأسطورة اليونانية الأخرى، فهو اسم إله الزراعة التي أهملتْ الأرض حزنًا على اختطاف ابنتها بيرسيفوني من قِبَل هاديس، إله العالم السفلي، فذبلت المحاصيل، وانتشرت المجاعة، إلى أن تدخّل الإله زيوس فأعاد لها ابنتها بشرط أن تعود إلى هاديس أربعة أشهر في السنة، هي المدة التي تبقى فيها الأرض جرداء قاحلة. دمجت الكاتبة هنا الأسطورتين معًا، واختارت لبطلها المذكّر اسم الثانية (ديميتر) رغم أنه في الأسطورة مؤنث، مُبقيةً على جزئية العربة الذهبية التي كانت تركبها ديميتر في هذه الأسطورة.
عدا الأساطير الإغريقية استلهمت أمامة أيضًا أساطير شرقية أخرى ووظفتها في نسيج القصة، كأسطورة التنين الذي ارتبط لدى الصينيين بقدرته على إثارة العواصف والفيضانات، وأسطورة «لوجابو» الذي له رأس أسد وأربعة أيدٍ بشرية، وطائر اللقلق الذي له في المخيلة الشعبية الكثير من الحكايات والأساطير. كما وظفت أمامة في قصتها كهف الهوته؛ أشهر كهوف عُمان، دون أن تسميه، إذْ أخذت أشهر ما يتصف به وهو أسماكه العمياء وجعلتها من ضمن أبطال القصة، كل ذلك كان بسلاسة في نسيج الأحداث والمغامرات.
ما يلفت النظر في هذا الكتاب، عدا قصته الجميلة، هو العناية الكبيرة التي أولتها دار السلوى لإخراجه فنّيًا، بدءًا من الغلاف الجميل الذي تتوسطه صورة سندراني وهي تنظر إلى القارئ، ومرورًا برسوم الفنان سيزار سمانيجو المعبّرة عن خلجات الأبطال وانفعالاتهم، مشكّلةً بذلك المعادل البصري للكلمات المكتوبة. وقد أخذت هذه الرسومات تصف الكتاب تقريبًا، وهو ما يفسّر تجاوز عدد صفحاته المائة صفحة رغم قصر القصة، وما جعل سمانيجو يستحق وضع اسمه موازيًا لاسم المؤلفة في غلاف الكتاب. إن كتابًا كهذا سيفتح شهية الأطفال بلا شك لكتب سلسلة «الدحنون» القادمة التي وعدتْ بها «السلوى» قراءها في نهاية الكتاب.