Image Not Found

القانون الكوني للوراثة!

أ. د. حيدر أحمد اللواتي – الرؤية

◄ علم الوراثة برمته لم يتطور من خلال دراسة الإنسان.. بل من خلال دراسة انتقال الصفات الوراثية من الأجيال السابقة إلى اللاحقة في كائنات أخرى بسيطة نسبيا.

يعدُّ علم الوراثة من أقدم العلوم؛ فالإنسان ومنذ القدم يُدرك أنَّ هناك صفات مُعينة يرثها الولد عن أبيه، وكان هذا الأمر واضحاً عند العرب أيضاً، ولهذا كانت العرب تهتم كثيرا بالأنساب، وجاء الإسلام وركَّز على أهمية اختيار الزوجة الصالحة وأشارت بعض الأحاديث النبوية إلى أنَّ الولد يرث من طرفي أبيه وأمه، بينما كانت النظرة السائدة والتي تبناها أرسطو أن الولد يرث صفات أبيه وأن الأمهات إنما هنَّ كالتربة التي تزرع فيها النباتات.

لكنَّ علم الوراثة دخل حيزا جديدا وقفز قفزة جبارة في القرن التاسع عشر.. فما سر هذه القفزة؟ وما الذي أضافته للمعرفة البشرية؟

إنَّ التقدُّم الذي سبب تطورا ملحوظاً في علم الوراثة هو المنهج التجريبي الدقيق الذي اتبعه عالم الوراثة الشهير مندل؛ فهذا العالم استخدم التجارب العلمية الدقيقة ولربما لأول مرة في تاريخ علم الوراثة.

فقبل مندل، كان النَّاس يعتمدون على ملاحظاتهم ويستمدون معرفتهم من خلال تجارب شخصية لا تخضع للدقة العلمية المطلوبة للوصول إلى نتائج دقيقة، وتكمن الصعوبة في أن هكذا تجارب تستغرق وقتاً طويلاً وتحتاج إلى متابعات دقيقة.

وللتغلُّب على هذه التحديات، قام مندل بعمل تجاربه على نبتة البازلاء، وسبب اختياره لهذه النبتة، أن هذه النبتة تمتلك تنوعا مميزا في صفاتها وسريعة النمو، كما أن لها القدرة على التلقيح الذاتي.

وبعد أن قام مندل بعدد من التجارب وكررها مرارا، لاحظ أن صفات أحد الأبوين تسود في الجيل الأول، وأطلق مندل اسم “الصفة السائدة” على تلك الصفة واسم الصفة المُتنحية على التي اختفت.

أما أهم ما قام به مندل أنه وجه علم الوراثة من كونه علم وصفي إلى علم كمي، فقد أوضح نسب الصفات المتنحية التي تتواجد في الأجيال بشكل دقيق، وربما يعود سبب فكرة تحويل علم الوراثة من علم وصفي إلى كمي إلى أن مندل كان فيزيائيا في الأصل وتحول إلى دراسة النباتات والصفات الوراثية فيما بعد، ولهذا لم تثر أبحاث مندل فضول المتخصصين في علم الوراثة إلا بعد مضي عقود على نشرها وتم اعتباره أبا لعلم الوراثة الحديث.

لكن اللافت للنظر أنَّ علم الوراثة برمته لم يتطور من خلال دراسة الإنسان، وكيف تنتقل صفات الآباء إلى الأبناء، بل تطور من خلال دراسة انتقال الصفات الوراثية من الأجيال السابقة إلى اللاحقة في كائنات أخرى بسيطة نسبيا، فكما أشرنا سابقا أن مندل استخدم نبتة البازلاء في دراسته، وتم استخدام الديدان الطفيلية والبكتريا المسببة للالتهابات الرئوية لهذا الغرض أيضا، إضافة إلى خلايا الخميرة والتي لعبت هي الأخرى دورا مهمًّا في تطور علم الوراثة، والسبب في ذلك أن خلايا الكائنات الحية تتشابه لحد كبير سواء كانت من خميرة أو من نبات آخر أو من حيوان أو إنسان، ولا تختلف سوى في مستوى التعقيد، لذا فالاختلاف بينها ليس نوعيا بل كمي.

ويعدُّ اكتشاف العالم بول نرس والذي حصل على إثره على جائزة نوبل في الطب عام 2001 نموذجا جميلا لتوضيح الفكرة.

ففي تلك الفترة كان العلماء يحاولون الكشف عن الجين الموجود في الخلايا البشرية والذي يتحكم في دورة حياة الخلية وذلك لفهم ميكنة مرض السرطان ومحاولة التحكم به، وكان بول نرس يعمل على خلايا بسيطة نسبيا وهي خلايا غير بشرية، فلقد كان يغريه العمل على خلايا الخميرة، بينما الآخرون كانوا منشغلين بالعمل على خلايا بشرية.

واستطاع بول نرس أن يكشف عن الجين الذي يتحكم في دورة حياة خلايا الخميرة وأطلق عليه (cdc2)، وأثناء زيارته لأحد معاهد البحوث المتخصصة في السرطان راودته فكرة مفادها أن الجين الذي يتحكم في خلايا الخميرة ربما يكون هو نفسه الذي يتحكم في الخلايا البشرية!

كانت الفكرة تصل حد الجنون، ولم يجرأ أن يفاتح أحدا بها، ولكنه أشار إلى بعض مساعديه للقيام بتجارب في هذا الصدد للتحقق من صحة فرضه المجنون.

وبعد تجارب بسيطة وذكية استطاع بول نرس وزملائه أن يثبتوا أن الجين الموجود في خلايا الخميرة ويتحكم في دورة حياتها هو الجين ذاته الذي يتحكم في دورة حياة الخلايا البشرية بل ويتحكم في دورة خلايا الكائنات الحية الأخرى!

لكنَّ أهم النتائج التي أثارت الكثير من الدهشة والاستغراب أن ميكنة توريث الصفات الخلقية لدينا نحن بني الإنسان لا تختلف إطلاقا عن تلك المستخدمة في الحيوانات التي نستضعفها والنباتات التي نزرعها، بل تتطابق تماما حتى مع خلايا الخميرة؛ فالقانون الوراثي متطابق في جميع الكائنات الحية، فهو قانون كوني عام!


مصادر تم الاستعانة بها:

• DNA: The Secret of Life, Andrew Berry and James Watson

• What Is Life? Five Great Ideas in Biology, Paul Nurse

  • كلية العلوم – جامعة السلطان قابوس