الفوارق الواضحة بين الكائنات الحية والجمادات جعلت العلماء يظنون أن أجسام الكائنات الحية تتكون من مواد مغايرة تماما لتلك المكونة للجمادات، كما ولّد اعتقادا آخر مفاده أن هناك قوة مودعة في الكائنات الحية أطلق عليها “قوة الحياة” هي التي تميز هذه الكائنات الحية عن غيرها، وهذه القوة هي السبب وراء تصنيع المركبات الكيميائية التي تتكون منها أجسام الكائنات الحية والتي تولد الفروق التي نشاهدها بين الكائنات الحية والجمادات.
بل إن علم الكيمياء برمته تم تقسيمه إلى قسمين أساسيين: قسم أطلق عليه “الكيمياء العضوية” والتي تضم المركبات التي يتم تصنيعها في الكائنات الحية عبر قوة الحياة، وقسم أطلق عليه “الكيمياء غير العضوية” وهي المركبات التي توجد في الجمادات ويتم تصنيعها عبر القوى الفيزيائية المعتادة، ولأن قوة الحياة قوة غير مادية فلا يمكن للإنسان التحكم بها والسيطرة عليها، ولذا فالبشر لا يمكنه تصنيع مركبات الحياة العضوية.
وبهذا فلقد تركت لقوى ما وراء الطبيعة مساحة كبيرة جدا في علم الكيمياء، فجميع المركبات الكيميائية التي تتكون منها الكائنات الحية إنما هي نتيجة لتدخل مباشر لهذه القوى الميتافيزيقية والتي أطلق عليها “قوة الحياة”.
إلا أن الدور المباشر لهذه القوى الميتافيزيقية والمعبر عنها بـ”قوة الحياة” في تصنيع المركبات الكيميائية المكونة لأجسام الكائنات الحية تعرض لهزات عنيفة متتالية ففي عام 1828م، قام الكيميائي فريدريش ويلر بتصنيع مركب كيميائي في المختبر من مركب جامد لا يوجد في الكائنات الحية؛ إذ قام بتصنيع مركب اليوريا، وهو مركب كيميائي يتم تصنيعه في أجسام الكائنات الحية ويتواجد في بول الانسان، ولذا فقدرة الكيميائي ويلر على تصنيع مركب اليوريا من مركب لا يوجد في الكائنات الحية، أثار تساؤلات عدة حول دور قوة الحياة، فإذا كان بإمكاننا إنتاج مركبات توجد في أجسام الكائنات الحية من مركبات جامدة لا حياة فيها، فلماذا نفترض أن هناك قوة خاصة ميتافيزيقية تتواجد في الكائنات الحية مسؤولة عن تكوين هذه المركبات العضوية!
وقد علق ويلر على ذلك في رسالته لزميله، حيث قال له: “إنه قام بتصنيع مركب عضوي “اليوريا” دون الحاجة إلى كلية أو أي حيوان أو إنسان ولا يوجد فرق بين ما قمت بتصنيعه وبين ما يوجد في بولي!”
لكن دور “قوة الحياة” في تصنيع مركبات الكيميائية المكونة لأجسام الكائنات الحية كان منغرسا بقوة في الوجدان البشري فلم يكن من السهل التنازل عنه بتجربة واحدة وبإنتاج مركب واحد للقضاء عليه، وخاصة أن مركب اليوريا مركب بسيط وغير معقد، لكنه فتح بابا كبيرا للتساؤل والبحث. فهل بإمكاننا تصنيع مركبات عضوية أخرى توجد في الكائنات الحية من مركبات جامدة لا توجد في أجسام الكائنات الحية؟
وفي عام 1845م كانت الهزة الثانية التي دكت حصون دور “قوة الحياة”، فعملية التخمير التي تتم عبر الكائنات الحية وبواسطتها يتم إنتاج عدد من المركبات الكيميائية منها مركب “الخل”، والذي قام الكيميائي “أودولف كولب”، بتصنيعه في المختبر من مركب غير عضوي لا يتواجد في الكائنات الحية ودون الاستعانة بأي عملية بيولوجية.
وجاءت الضربة التالية من الكيميائي إدوارد بوخنر عام 1897، فلقد كان معروفا آنذاك بأن عملية التخمر التي تقوم بها الكائنات الدقيقة يتم فيها تحويل السكر إلى كحول وإلى غاز ثاني أوكسيد الكربون، وتنتج من هذه العملية الطاقة التي تمكن خلايا الكائنات الحية من القيام بوظائفها.
وتساءل بوخنر: هل نحتاج إلى كائنات حية تمتلك قوة الحياة للقيام بذلك؟ أم أن السر يكمن في المركبات الكيميائية الموجودة في تلك الكائنات الحية فهي الكفيلة بالقيام بذلك؟ فإذا كان السر يكمن في تلك المركبات الكيميائية، فهذا يعني أن بإمكاننا استخدام هذه المواد الكيميائية خارج أجسام الكائنات الحية.
ومن أجل التحقق من فكرته، قام بوخنر باستخدام الخميرة والتي يوجد بها عدد كبير من الخلايا الحية، وقام بطحنها وقتل تلك الخلايا ومن ثم قام باستخلاص المركبات الكيميائية منها، وخلطها مع التراب بعد أن قام بدقها وطحنها مرة أخرى، وبعد ذلك قام بعصرها وقام باستخدام هذا العصير مع محلول السكر، ووجد أن السكر قد تحول إلى كحول وغاز ثاني أوكسيد الكربون، وهي نفس المركبات التي تنتج من عملية التخمر البيولوجية.
وبذلك أوضح بوخنر أن المركبات الكيميائية الموجودة في الكائنات الحية يمكنها القيام بإنتاج بقية المركبات الكيميائية الموجودة في الكائنات الحية باستخدام القوى الفيزيائية الطبيعية ودون الحاجة إلى قوة الحياة، وقد حصل عام 1907 على جائزة نوبل في الكيمياء اعترافًا بجهوده في الكشف عن طرق تكوين هذه المركبات الحياتية.
واستمر الاعتقاد أن الإنسان غير قادر عن تصنيع المركبات المعقدة الموجودة في الكائنات الحية فقوة الحياة هي القوة الوحيدة القادرة على تصنيعها، إلّا أن فضول الإنسان لا يقف عن حد معين، فتحدى الإنسان هذه النظرة وغاص في علم الكيمياء، واليوم تجاوز العلم كل ذلك، فأصبح بإمكاننا تكوين هذه المركبات الكيميائية في المعامل والمختبرات وتغييرها وتحضيرها بالطريقة التي نرغب بها، وهكذا غدت كل مركبات الطبيعة؛ أكانت عضوية مكونة لأجسام الكائنات الحية أم مركبات غير عضوية لا توجد في أجسام الكائنات الحية يمكن تصنيعها في المختبرات، فلقد تبين لنا أن القوة المسيطرة على جميع التفاعلات الكيميائية هي قوى كهرومغناطيسية.
وهكذا غدا علم الكيمياء برمته علما تجريبيا بامتياز، فـ”قوة الحياة” لا تصنع المركبات الكيميائية العضوية منها والغير عضوية.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس