سعت اليابان ومع بداية القرن العشرين، للدخول كمنافس كبير في البحث العلمي، فقامت بإنشاء أول مختبراتها البحثية الحديثة عام 1917م، والذي أنشأ بسبب مخاوف من أن اليابان ستتخلف عن ركب العلم إن لم تدعم البحث العلمي؛ فكان هدف هذا المختبر تحويل البلاد من التقليد واستيراد المعرفة العلمية إلى الإبداع فيها عبر إنشاء مختبرات بحث مخصصة لدراسة الفيزياء والكيمياء، وأطلق على المختبر اسم “ريكن”.
وانضم لهذا المختبر عالم ياباني يدعى “نشينا”، وغدا هذا العالم أحد الرواد في مجال الفيزياء النووية، فبعد تخرجه من جامعة طوكيو الإمبراطورية عام 1918، أرسل في رحلة علمية للتعرف على المعاهد البحثية في أوروبا، وهناك تعرف على نيل بور أحد أبرز علماء الذرة آنذاك، وعند عودته وجد ضالته في مختبر ريكن، وانضم إليه في عام 1921 واعتبره قاعدة ينطلق منها في أبحاثه.
واستمر نشينا يعمل بجد في هذا المختبر واستطاع عام 1937 تصنيع جهاز السيكلترون والذي يمكن من خلاله الكشف عن عناصر كيميائية مشعة، وكان هذا الجهاز الأول من نوعه، والذي يتم تصنيعه خارج الولايات المتحدة، ومع بداية العقد الرابع واتجاه العالم نحو الحرب العالمية الثانية، غدا المختبر موجها لأبحاث إنتاج القنبلة النووية. وتم تدميره في أبريل عام 1945 بقنبلة سقطت عليه ودمرت بعض الأجهزة الموجودة فيه، وقامت ألمانيا بتزويد اليابان في مايو من نفس السنة بـ560 كجم من اليورانيوم؛ وذلك لمساعدتها في إنتاج القنبلة النووية، لكن الشحنة تم الاستيلاء عليها في المحيط الأطلسي، وفي يونيو من العام نفسه أبلغ نيشنا المسؤولين في اليابان بأن السلاح النووي غير مجد ولا يمكن تصنيعه، لكن القنبلة النووية التي سقطت بعد شهرين على مدينة هيروشيما لاشك أنها غيرت من قناعته؛ إذ تم تدمير 70% من مباني المدينة، وتم قتل 80 ألف ياباني مباشرة إثر سقوط القنبلة النووية، لكن اليابانيين وعلى الرغم من الخطأ الذي قام به نيشنا لم يعاقبوه، فبعد الانتهاء من الحرب ظل هذا العالم في اليابان وكان يمتلك عزيمة وإصرارًا عجيبين؛ إذ كتب إلى الأمريكان طالبًا منهم السماح له؛ بل ومساعدته في تعليم الفيزياء النووية في اليابان، وكان الرد الأمريكي قاسيًا: “كل اليابان جائعة، لو كنت يابانيًا حقيقيًا لحرثت الأرض بدل ما تنوي القيام به”.
لكن نيشنا لم يعبأ بما قاله الأمريكان، واستمر بدعم من الحكومة بإعادة بناء مختبر ريكن، ونجح في ذلك فقبل وفاته عام 1951 كان المختبر في طريق استعادة بريقه العلمي.
وعلى الرغم من أن المختبر فشل في صنع القنبلة النووية ولم يقدم إنجازات تذكر طيلة نصف قرن من الزمن، الا أن اليابانيين ظلوا متمسكين بدعم البحوث العلمية لاعتقادهم وقناعتهم بأن البحث العلمي هو السبيل الوحيد لرقي الأمم وتقدمها.
واليوم تعد مختبرات ريكن من أكبر مختبرات الأبحاث العلمية وفي شتى الميادين العلمية، وهناك مجموعة بحث خاصة في الكيمياء النووية تحمل اسم نيشنا.
واستطاعت هذه المجموعة العلمية، أن تنحت اسم اليابان في عالم علوم الطبيعة؛ إذ استطاعت أن تقوم بتصنيع العنصر رقم 113 في الجدول الدوري، وتم الاعتراف العالمي بذلك قبل بضع سنوات وذلك عام 1916، واعترافا من العالم بما قدمته اليابان، تم تسمية العنصر الجديد باسم “نيهونيوم”، نسبة إلى دولتهم اليابان الذي يطلقون عليها بلغتهم الأم اسم “نيبّون” أو “نيهون” وتعني منبع الشمس، ويعد العنصر 113 العنصر الوحيد في الجدول الدوري الذي يحمل اسمًا لمدينة في قارة آسيا بعد قصة تربو على قرن من البحث والمثابرة.
إن تاريخ وحاضر اليابان العلمي هو مدعاة للفخر والاعتزاز، فلا يمكن لأحد أن يدرس مساهمات اليابان العلمية الحديثة إلا ويقف موقف إجلال وإكبار لها ولإسهاماتها المميزة، كما إنها تعكس لنا طبيعة هذا الشعب العنيد والمثابر والواثق من نفسه ثقة لا نظير لها.
لقد مرت اليابان بأصعب الظروف، فالقنبلتين النوويتين الوحيدتين اللتين استخدمتا في تاريخ البشرية قاطبة سقطت على مدينتين يابانيتين، وأحدثتا دمارا لا مثيل له، وعلى الرغم من كل ذلك، فقد نهضت اليابان بعد الحرب مباشرة ولملمت جراحها وإعادة بناء دولتها وخلال عقدين من الزمن، تبوأت مكانة كبيرة وفرضت احترامها على العالم أجمع.
إذا كان هناك تاريخ قريب، يستحق للعرب أن يدرسوه ويتعلمون منه لحاضرهم ومستقبلهم فعليهم بدراسة تاريخ اليابان، فعلى الرغم من كل ما تعرضت له اليابان، لكن شعبها المثابر تجاوز كل تلك المحن وسطر اسمه في المحافل العلمية فالقنابل النووية لم تنل من فكر وثقافة اليابانيين، إنما هدمت دورهم ومساكنهم فحسب، بينما نحن المسلمون أصبحت مصيبتنا في ثقافتنا، فلم يعد ابتكار العلم والمعرفة وإعمار الأرض من أولوياتنا بل غدا همنا البكاء على الأطلال والتغني بالأمجاد!
كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
*المعلومات التاريخية الواردة في المقالة تم اقتباسها من كتاب
Superheavy: Making and Breaking the Periodic Table by Kit Chapman