اليوم أشارك معكم رحلتي الخاصة في تشخيص ابني، الرحلة التي تم تنتهي فصولها بعد، لكنها كانت كافية لصقل قدراتي، وإخراجي من منطقة الراحة والأمان التي كنت متعلقة بها إلى عالم ملون متناقض وجميل، أصبحت أرى الأمل يتجدد فيه يوميًا مع كل لحظة ألم.
بدأت الرواية عندما وُلد ابني القاسم كطفل ثالث في أسرتنا الصغيرة، وبدت جميع الأمور “طبيعية” في تلك المرحلة. في مرحلة (١٢-١٤ شهرًا) من عمر القاسم، أذكر أنني في إحدى زياراتنا الاعتيادية لطبيب الأطفال ذكرت له ملاحظتي حول انطوائية القاسم وهدوءه غير المعتاد، وحول شكوكي المتعلقة بالتوحد أو أحد الاضطرابات النمائية، ولكنه أجابني بأننا “الأمهات الشابات” نقرأ كثيرًا وبالتالي “نوسوس كثيرًا”!!، ولكني حمدت ربي مرارًا لاحقًا بأن حدسي كأم دفعني للمزيد من البحث المبكر!
عندما أكمل القاسم (18) شهرًا من عمره، بدأت الأمور تتغير وتتهاوى سريعًا، وبدأ القاسم في فقدان جميع مهارات التواصل التي اكتسبها حتى تلك المرحلة. وبدون سابق إنذار توقف التواصل البصري، وتوقفت استجابته لاسمه عند مناداته، حيث بدا وكأنه لا يسمع شيئًا، وفجأة أصبح يتصرف وكأنه غير مهتم بأي شخص، أو أي شيء يجري من حوله.
وأؤكد مجددًا هنا على ضرورة صمود موقف الأبوين في حال ملاحظة أي مؤشرات تراجع في نمو الطفل، وعدم الانسياق خلف قائمة النصائح الطويلة، والمقارنات بالأطفال الآخرين في العائلة أو خارج نطاقها، والتي تأتي بدافع الحب والمواساة، ولكن نتيجتها قد تكون وخيمة على الطفل في حال التأخر في تشخيصه أو متابعته، أو تقديم الرعاية المناسبة له.
قمنا مباشرة باجراء تقييم مبدئي لتشخيص ما حدث مع القاسم في إحدى مراكز التدخل المبكر، وأظهرت نتيجة التقييم أن القاسم معرض بنسبة عالية للتشخيص بالتوحد (لم يكن قد أكمل العامين بعد، وعادة يتم تأخير منح التسمية أو التشخيص في مرحلة مبكرة من عمر الطفل)، وبدأنا بعدها رحلتنا في مقابلة العديد من المتخصصين والأطباء، الذين كان بعضهم يضعه في قائمة طويلة من المقارنات مع ما يمكن أن يفعله الطفل “الطبيعي” في هذا العمر ، حتى راودني شعور بأنهم يحاولون فقط تأكيد مواطن ضعفه بدلاً من التركيز على جوانب تميزه ووضع خطط لتطويرها.
خلال العام ذاته، تم استبعاد القاسم من عدد من دور الحضانة، حيث أنه لم يكن قادرًا على التكيف مع أنظمة التعلم المخصصة لعموم الأطفال، وكانت أغلب المؤسسات توجهنا إلى جهات معنية تقدم خدماتها حصرًا للأطفال ذوي الإعاقة. هذه الممارسات في التعامل مع الإعاقة والأطفال المعاقين كما يصفها هودكينسون (٢٠١٦) تركز على الأطفال ذوي الإعاقة كمشكلة تحتم على المحيطين البحث عن حل لعلاجها، ولذلك يتم فصلهم عن أقرانهم في المؤسسات التعليمية، وكذلك عزلهم في مدارس ومراكز خاصة، كما قد يبقى البعض بعيدًا عن التعليم والتأهيل في المنازل.
كأبوين، كان أقصى ما تمنيناه في تلك المرحلة هو عودة ابننا كما كان قبل مرحلة “الانتكاسة” إن صحت لي تسميتها، حيث كنا نقضي أيامًا وليالي بالرجوع إلى مقاطع فيديو التقطناها في العام الأول من عمره لنتأكد من مهارة معينة كان يتقنها وفقدها، أو كلمات كان ينطقها وأصبح لا يرددها. وبفهمنا القاصر آنذاك كنا نعتقد بأن الأمر سيستغرق بضعة أشهر من الخضوع لعلاج معين لتحقيق “شفائه”، أو عددًا معينًا من جلسات العلاج التي كان يتحدث عنها المختصون لعودته كما كان، لكننا بالتأكيد كنا مخطئين.
وفي الأعوام الأربعة اللاحقة، اتبعنا سبلًا مختلفة لتأهيل القاسم بما في ذلك جلسات العلاج الأسبوعية المختلفة (النطق والتواصل والعلاج الوظيفي والتكامل الحسي، والتربية الخاصة، وغيرها)، والأنشطة الرياضية كالسباحة، والفروسية، وصالات الرياضة المغلقة، كما أدخلنا تغييرات في نظامه الغذائي بالرجوع للمختصين، وغيرها من الطرق، وقد ساعدته بعض هذه الممارسات على إحراز تقدم كبير في بعض مجالات النمو ، ولازلنا نعمل لتحسين جوانب أخرى متعلقة بالمهارات الحياتية الاستقلالية، ومهارات التواصل الاجتماعي، والمهارات الأكاديمية بدعم كبير من الأخصائيين والمعلمين الرائعين الذين يشاركوننا الرحلة.
وكذلك، فإننا كأسرة صغيرة على يقين تام في هذه المرحلة أن تقبلنا ودعمنا للقاسم من خلال تقديمه للمحيطين والمجتمع، ونشر التوعية حول التوحد والاعاقات المختلفة، وتقبل كافة جوانب اختلافه وتميزه هو ما سيصنع فرقًا أكبر في المعادلة!
اليوم يخضع القاسم لمرحلة تقييم جديدة، حيث يعاد تشخيصه للنظر في التطورات التي مر بها بعد التقييم السابق، وبكل ثقة أقولها أنني فخورة به كما هو، ولا أرى بأن التشخيص أو المسمى سينتقص من ابني شيئًا، كما أنني لن أتوارى عن ذكر تشخيصه في الجلسات أو التجمعات أو المقابلات المدرسية كوصمة عار أحاول مواراتها. أعتقد أن كل طفل في العالم هو طفل “طبيعي” بطريقته الخاصة، وأن المسمى والتشخيص لم يوضع إلا لمساعدة الآخرين على فهم تطور الطفل وما يمر به، وبالتالي المساعدة في دمجه وتأهيله وتعليمه بما يتناسب مع اختلافه. لم أعد اليوم كما كنت سابقًا أبحث عن طفلي “الطبيعي” الذي اختفى وراء شبح التوحد حين أكمل الثمانية عشر شهرًا، فالتوحد “ليس شيئًا يملكه الشخص أو يصاب به، إنما هو طريقةٌ ونمطُ حياة”، سنكلير (1993).
أتفهم مشاعر الألم والحزن والإنكار التي قد يمر بها الأبوان في المراحل الأولى لتشخيص أبناءهم ومعرفة جوانب اختلافهم أو إعاقتهم، وقد تعود هذه المشاعر للبعض في مراحل لاحقة من حياة الطفل، خاصة عند مقارنة التطورات المتوقعة في كل مرحلة بمستوى التطور الذي وصل إليه الطفل، ولكنني أحثهم على النظر إلى هؤلاء الأطفال خارج دائرة التشخيص الذي تم منحهم إياه، لأنهم يمتلكون إمكانات غير محدودة في هذه الحياة، تمامًا كالآخرين