إذا كانت للأفراد قدرات معينة في إنجاز الأعمال المرتبطة بهم وبأسرهم وعائلاتهم وللمجتمع بصفة عامة، فإن الحكومات هي أقدر منهم في القيام بهذه المسؤوليات والأمور نتيجة لما تملكها من قدرات وكفاءات وموارد عديدة؛ فالكل يضع خططه لتنفيذها في الوقت المناسب، خاصة إذا تم وضع الاستراتيجيات المناسبة لحل القضايا الملحة التي تريد تحقيقها في المستقبل؛ فجميع المؤسسات والوحدات الحكومية لها سياسات، ولكل واحدة منها قدرات يمكن لها أن تتحول إلى نموذج لوزارة المستقبل.
وفي هذا السياق، تقول شبكة “برايس ووتر هاوس كوبرز” في جزء من التقارير الصادرة عنها حول الشرق الأوسط، أنه باتَ من الضروريّ على الحكومات اتخاذ التدابير اللازمة لبناء واعتماد حزمة من ستِ قدرات محورية لكي تتمكن من إحداث تحوّل نوعي في منهجية العمل الحكومي بما يؤهلها للانطلاق نحو آفاق التحوُّل والتطور، وتحقيق أثرٍ اجتماعي واقتصادي حقيقي ومستدام
ففي منطقة الشرق الأوسط على سبيل المثال، وضعت عدة حكومات استراتيجيات وطنية ومنها السلطنة التي وضعت رؤية “عُمان 2040″؛ لتحقيق عدد من الأهداف الطموحة ومن بينها تحقيق مزيد من التنويع الاقتصادي للبلاد واستغلال الثروات الوطنية بكل كفاءة. ويعمل المختصون في البلاد على تحقيق تلك الاستراتيجيات لكل مورد اقتصادي هام ليكون لها أثراً إيجابيًا بالغًا على أرض الواقع. ويمكن لهذه السياسات إحداث تحوّل نوعي ليس على الصعيد الاقتصادي فحسب؛ بل على المستوى الاجتماعي والتكنولوجي، وتوفير مزيد من فرص العمل للمواطنين؛ فعُمان لديها اليوم بشر يصل تعداده حوالي 4.6 مليون نسمة؛ منهم أكثر من 2.6 مليون مواطن عماني والباقي من الوافدين؛ الأمر الذي يتطلب الاستمرار في العمل بكل كفاءة للوصول إلى نقطة النهاية، وتحقيق الأهداف المرجوة التي تعتمد على قدرتها في اتخاذ التدابير المناسبة التي تضمن الصياغة والتطبيق السليم للخطط التنفيذية، واعتمادها على بناء نمطٍ جديدٍ من المؤسسات، ألا وهو نموذج “وزارة المستقبل”، بناءً على طرح نموذج شبكة برايس ووتر هاوس كوبرز.
وترى تلك المؤسسة أن وزارة المستقبل تتسم بالتركيز على المستفيدين، والاعتماد على الحقائق والبيانات، والتوجُّه نحو تحقيق النتائج. كما تتميز بأن تكون عملياتها التشغيلية مدعومة رقميًا، وأن تحقق لديها عنصران وهي التعاون والمشاركة، وتتسم بمرونتها وفعاليتها وقدراتها الابتكارية التي تقوم على أحدث التكنولوجيات لتقديم الخدمات التي يحتاج إليها الآخرون.
فوزارة المستقبل يجب أن تعتمد على تحقيق 6 قدراتٍ محورية لتحقيق الأهداف المرجوة، وهذه القدرات الستة يمكن أن تجعل الحوكمة عنصرًا رمزيًا غير مرئي؛ أي أداة تساعد المؤسسات وبتلقائية في تقديم خدمات استباقية ومتواصلة طول دورة حياة الأفراد ومنشآت الأعمال، الأمر الذي يتطلب من كل جهة حكومية تعديل نموذج وزارتها بما يتوافق مع المهام المنوطة بها، والنتائج المسؤولة عن تحقيقها، لتضمن في النهاية التحوُّل الشامل على المستوى الوطني.
ويفرد التقرير- في هذا الشأن- الكثير من المعلومات لكل من العناصر الستة السابقة؛ حيث لكل منها دور رئيس في العمل المستقبلي؛ فمُسرّعات التنفيذ- على سبيل المثال- يكمُن عملها في تعزيز مبدأ المرونة وريادة الأعمال، والعمل ضمن قوالب تنظيمية لتحقيق الكفاءة والابتكار وسرعة الاستجابة، وتتسم ببساطة ورشاقة، واعتماد نموذج المشاريع السريعة للابتكار، وتطبيق منهجية “الفريق الواحد” لإدارة الكوادر.
أما الحوكمة الجماعية التجريبية، فتعمل على منهجية منح الفرصة للمواطنين ومنشآت الأعمال والمجتمع الأكاديمي للمشاركة في تصميم السياسات والمنتجات والخدمات، والتعبير عن الرأي في كيفية تخصيص التمويل الحكومي واختيار المشاريع ذات الأولوية. وفي مجال نموذج التمويل والتسعير البديلة؛ فإن عملها يكمن في مساعدة وزارة المستقبل في توفير التمويل اللازم للمشاريع، وخفض عجز الموازنة، وتخفيف حدة المخاطر، بجانب العمل بنماذج التسعير التفاعلية القابلة للتغيير حسب الاحتياجات والمستجدات.
وفي مجال اللوائح التنظيمية الاستباقية الذكية، يمكن لها أن تسمح لوزارة المستقبل بتعزيز قدرتها على الاستجابة وتحقيق الشمولية بشأن عملية التنظيم، والتنبؤ والمساعدة في رصد الاحتياجات التنظيمية الناشئة، مع الاعتماد على التقنيات الرقمية في التنفيذ والتطبيق. أما في الشراء التعاوني المتكامل القائم على الحوسبة السحابية، فإن هذه المنهجية تعمل على تمكين التغييرات التدريجية على مستوى الإنفاق الحكومي، كما تدعم الوُفورات الاقتصادية وإمكانية وصول المتنافسين ومشاركتهم في عمليات الشراء الحكومي في نموذج واحد للخدمات المشتركة مع تعزيز الشفافية والرقابة على الإنفاق من خلال التخطيط. وفي مجال المحاسبة على أساس الأثر المحقق؛ فإن هذه المنهجية تعمل على الانتقال نحو نموذج قياس الأداء على أساس النتائج التي تحققها وزارة المستقبل للمستفيدين؛ إذ تدعم ثقافة المحاسبة تحقيق المستهدفات والاستراتيجيات واضحة المعالم التي تركز على المستفيدين من خلال إجراء التحليلات والمسوحات الاجتماعية.
ويؤكد القائمون على هذه الأطروحة، ضرورة الانتقال إلى نموذج الحكومة المؤهلة بتوافر الرغبة في التخلي عن الهياكل الهرمية، والنماذج القيادية، والعمليات، والثقافات التنظيمية المورثة منذ أمد طويل بهدف تعزيز مستويات الخدمة المقدمة، والمضي قُدمًا بجدول التحول الوطني لمخطط عملي لبناء وزارة المستقبل.
إن جميع تلك المحاور تعمل الحكومات على تنفيذها في الكثير من الدول العربية.. ولكن نظرًا لغياب الشفافية والرقابة وتزايد عمليات الفساد والتلاعب في المؤسسات الحكومية، وإعطاء الأولوية للرغبات الشخصية في تنفيذ المعاملات، بجانب البيروقراطية التي تمارسها تلك المؤسسات، فإن ذلك يؤدي إلى تراجع تلك الأعمال وتعقيد الأمور وعدم قدرة المؤسسات الحكومية في توفير مزيد من فرص العمل للمواطنين، وهذا ما يجب الاهتمام به قبل التفكير في بناء نموذج لوزارة المستقبل.