آمنتْ البشرية عبر تأريخها الممتد بوجود قوى مؤثرة في هذا الكون، وهذه القوى سببت إرباكا شديدا لها؛ فلقد حاولت البشرية إرضاء هذه القوى بشتى الوسائل؛ فالفراعنة -مثلًا- كانوا يسعون لإرضاء النيل حتى لا يصب جام غضبه عليهم ويغرق أراضيهم ومساكنهم؛ فكانوا يلقون عروسًا من خشب لنهر النيل في موكب مهيب، يتقدمه الملك ورجال الدولة.
ومع تطور العلوم تبين أن النيل لا يملك لنفسه حولا ولا قوة، وأن هناك أسبابًا طبيعية وراء فيضانه، واتضح أن هناك قوى طبيعية وراء كل ظاهرة من الظواهر التي نراها ونعايشها، ومع ارتفاع قيمة علوم الطبيعية والمنهج التجريبي عند المجتمعات البشرية، حاول البعض طرح تفاسير قائمة على مفاهيم علمية حديثة على بعض الأمور وذلك بغية إقناع أكبر عدد من الناس بصحة ما يقومون بطرحه؛ فيدعون -مثلًا- أن هناك قوى مادية معينة ومجهولة تشع من الأحجار الكريمة، وأن ولها تأثيرا على سلوك الإنسان، أو يدعون أن هناك صورًا مادية لطاقات سلبية أو إيجابية على شكل شحنات أو جسيمات أو إشعاعات مجهولة.
وقد يدّعي البعض منهم، أن العلم لم يكشف عن جميع القوى المادية، وأن هناك قوى مادية طبيعية لم يكشفها العلم وربما سيصل لها في المستقبل. وهذه القوى هي القوى التي تولد تأثيرًا في الأحجار الكريمة أو تمد الإنسان بطاقة إيجابية. فهل هذا الادعاء ادعاء علمي تجريبي معتد به؟
نتكلم هنا عن احتمالات عملية وليس من باب العملية التنظيرية؛ فالإنسان لا يبني قراراته، ولا يعتمد على احتمالات غاية في الضعف، كما عبّر عن ذلك المفكر الإسلامي الكبير محمد باقر الصدر عندما قال: “المعرفة البشرية مصممة بطريقة لا تتيح لها أن تحتفظ بالقيم الاحتمالية الصغيرة جدًا، فأي قيمة احتمالية صغيرة تفنى لحساب القيمة الاحتمالية الكبيرة المقابلة”، واحتمال وجود قوى مادية لم يتعرف عليها العلم احتمال غاية في الضعف ولا يمكن أن يعد احتمالا معتدا به حاليًا؛ إذ لا يصح الاحتجاج واللجوء والاستناد على هكذا احتمالات غاية في الضعف.
وقد يتساءل البعض عن السبب في ضعف احتمال وجود قوى مادية أخرى لم يكتشفها العلم.
بداية لا بُد من التأكيد أننا نتحدث عن قوى مادية لها أثر في الخارج، أما إذا أردنا أن ندعي أن هناك قوى مادية مجهولة لكنها معدومة الأثر، فإن ذلك فرض ممكن ولكنه لا يفيد بشيء ولا يجدي نفعًا في تفسير أي ظاهرة من الظواهر.
أما سبب قولنا بضعف احتمال وجود قوى مادية لم يتوصل لها العلم؛ فيرجع إلى أن جميع الإنجازات العلمية التي تحققت اليوم من فلق الذرة والغوص في أعماق المادة والجسيمات الأولية إلى بناء المركبات الفضائية والطائرات العملاقة والسفن الضخمة التي تبحر في البحار والمحيطات، قد تم الاعتماد فيها على 4 أصناف من القوى المادية المؤثرة، وهذه القوى توصلنا إليها من خلال تجارب لا تعد ولا تحصى، واختبرناها خلال القرنين الأخيرين باختبارات تجريبية غاية في الدقة، فإذا كانت هناك قوى مجهولة فلا بُد وأن أثرها ظاهر في أحد هذه التطبيقات المتنوعة والعديدة، ولما أمكننا التحكم بمختلف التقنيات بكل هذه الدقة المبهرة؛ بل وحتى في حالات الفشل؛ فقد أمكننا تفسير أسباب الفشل بالرجوع إلى هذه القوى الأربع، ولذا فقد توصلنا الى أن هذه القوى الأربعة كفيلة بتفسير جميع الظواهر الطبيعية التي نعرفها بدقة متناهية، كما لاحظنا أن اثنين من هذه القوى يبرز دورها في النواة وما دونها، وهما القوى النووية القوية والقوى النووية الضعيفة، وأما الظواهر الطبيعية على مستوى الذرة وما فوقها؛ فإن العلوم الطبيعية استطاعت تفسيرها من خلال قوتين مختلفتين وهما قوى الكهرومغناطيسية والجاذبية.
ولذا فإننا نستطيع تفسير الظواهر الطبيعية حسب نموذجنا العلمي الحالي، وذلك من خلال الإرجاع الى أحد هذه القوى الأربع. وأما من يدعي أن هناك قوى مادية أخرى مجهولة، وهي قوى مؤثرة؛ فقول يفتقر إلى دليل تجريبي، ولهذا فلا يمكن الركون إليه، ويحق أن نطلق عليه حسب معايير العلوم التجريبية بأنه زيف لا واقع له.
إن القول بوجود قوى مادية أخرى غير المشار لها؛ يعني أن النموذج العلمي برمته غير صحيح، وهذا أمر لا يوجد دليل واحد في الوقت الحالي يدعمه ولذا فلا يلتفت لمن يدعي ذلك.
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس