رحل بكامل ضحكته
التقيت بالراحل محمد نظام على مدخل متحف بيت الزبير قبل أيام قليلة من رحيله المفاجئ، كنت قادمًا من أجل حضور افتتاح ملتقى الفلسفة الأول، وكان خارجًا من المتحف. كان بكامل ضحكاته كعادته، يتعامل بنفس بالروح التلقائية حتى مع من يتعرفون عليه لأول مرة. الكلمة عنده لا تكون مختومة وموقعة إلا بضحكة ناصعة تشارك في إيصالها إلى يديه المبسوطتين. في ختام تلك الوقفة، اتفقت معه على لقاء قريب في بيته وهو ما لم يتم. أتذكر محمد نظام حين كان يسكن في حارة الشمال في مطرح، غير بعيد عن مبنى البريد الذي يعمل فيه مصممًا للطوابع. كنت أزوره برفقة حسن باقرعبد الرب اللواتي رحمه الله، المعروف بحسن بوس، وهو الذي عرفني عليه أول مرة، رغم أني كنت أسمع عنه كفنان كبير قبل أن ألتقيه. تلك الشقة كانت عبارة عن متحف صغير، حيث إن محمد نظام لا يترك أي تفصيل ولو هامشيًا إلا ويصعده إلى مستوى الفن، وبالتالي يحول المتلاشي والمهمل إلى مادة قابلة للتأمل؛ وذلك بإضافة رتوش خياله عليها. فتتحول مثلًا علبة المرطبات إلى لوحة صغيرة في ما يسمى بالبوب آرت أو الفن الشعبي، محمد نظام كذلك كان من أوائل من زاولوا النهج السوريالي في الفن، وهذه الفنون لم يعد أحد يزاولها في عمان إلا محمد نظام، وهي مدارس تتيح له أن يهتم بأي حجر أو قطعة خشب في الطريق أو قطعة كرتون ويحولها إلى لوحة فنية. فنان يرسم بلا عقد، أو هو فن من أجل الفن، وكان كذلك دادائيا بطريقته، وهو خير من مثل هذه التيارات العالمية الأولى في عمان على الإطلاق. هل يمكن أن نطلق عليه سلفادور دالي عمان؟ عرف محمد نظام كذلك بأنه فنان محترف مطبوع تجري الريشة بين يديه كما يجري الحرف في أنساغ وعروق كاتب غزير مطبوع وبسرعة وإتقان كبيرين. أتذكر مرة في أيام الحجر الصحي بسبب جائحة كورونا، كنت عائدًا من المغرب واضطررت للحجر أسبوعين في البيت. وكان الوقت شاسعًا للقراءة خاصة، فقرأت ديوان الشاعر العراقي الكبيرعبدالوهاب البياتي «بستان عائشة» ولأني أعد رسالة الدكتوارة في جامعة الملك محمد الخامس بالمغرب حول «بورخيس والعرب»، وقد ترك لنا بورخيس حوالي أربعين مجلدًا من مختلف أعماله الأدبية. استوقفتني قصيدة جميلة رسم فيها البياتي بالكلمات هذا الكاتب الأرجنتيني الفذ الذي أثر طويلًا في الأدب العربي قبل أن يتأثر به. قمت بتسجيل القصيدة في فيديو الهاتف، وأرسلتها إلى عدد من الأصدقاء وكان من ضمنهم الفنان الراحل محمد نظام، حدث ذلك تقريبا في الساعة التاسعة صباحًا. ولكن كانت المفاجأة ما إن حل الليل حين أرسل لي محمد نظام -عبر الهاتف- صورة للوحة مكتملة، مع خطوات رسمه لها. وبذلك حول قصيدة البياتي إلى لوحة مكتملة تتجلى فيها الأشكال والألوان في مزيج مركب. وقال لي حين نلتقي سأهديك هذه اللوحة. الغريب أنه ظل يرسمها لأكثر من عشر ساعات وهو مستعد بعد ذلك أن يهديها. هذه هي روح الفنان المتقن الذي يعنيه التعبير أكثر من المآلات الأخرى للوحة، وكأنه في داخله يعتقد أن لوحاته يجب أن تتوزع على أكثر من فضاء من فضاءات محبيه.أتذكر كذلك أنه أحيا في وزارة التعليم العالي معرضًا فنيًا ما إن تم افتتاح المبنى الجديد للوزارة، وكنا نجلس في طاولة مقهى الوزارة طيلة فترة المعرض. أتذكر حتى اللحظة تلك الطاولة حين أدخل إلى الوزارة. في بداية مدخل الكافتيريا، وكان يجلس منتظرًا، وهو يقول: إنها لوحات قديمة جدًا، وكان من الصعب أن يعرض هذه اللوحات على الجمهور لولا إصرار صديقه قصي مكي مستشار وزير التعليم العالي يومئذ، الذي ألح عليه بالمشاركة بمناسبة افتتاح المبنى. وكان لا يحب اللقاءات التلفزيونية، يقول: «اقتلني ولا تعمل معي لقاء في التلفزيون».
ذاكرة للغياب:
في أيام الإجازة الأسبوعية كنت أقضي الصباحات في مقهى كوستا في سوق الخوض، ويحدث مرارًا أن أترك الكمبيوتر بأمان في المقهى وأمشي قليلًا على ضفتي الشارع ذهابًا وإيابًا. وأثناء ذلك الممشى المتقاطع مع حركة الناس، كنت أصادف «طاولة الراحلين» الصاخبة بالضحك، التي أصبحت الآن أثرًا بعد عين وكأنها طلل يذكر بالراحلين. وكان ضمن اللذين يجلسون فيها سالم علي ( أبو طفول)، ومبارك العامري ومحمد بن ناصر المعولي وعلي السيابي رحمهم الله جميعا. هؤلاء الرفاق كانوا في سن التقاعد وكنت أشاركهم الجلوس مكتفيا بالسماع، حيث إن الإنسان في هذا العمر يقتنع كثيرًا بمن يشاركه السماع؛ لأن مخزونه مليء بما يقال ولا يحتاج ممن هم أصغر منه ( أمثالي) إلى مشاركة بالحديث. أتذكر كذلك المرحوم علي السيابي كان لا يشاركهم إلا بالضحك، فهو صامت طوال الوقت، ولكن ما إن يحضر الضحك إلا وتراه يقتنص الفرصة سريعًا. كان حديثهم مرحًا؛ لأنه يرتبط بالذاكرة، ولا يتخلل الحديث أي شيء يعكر الصفو، الانبساط هو الأساس، وإن اعترى الأمر الحديث عن عارض يقتضي الحزن، فإن الصمت المؤقت هو النتيجة المباشرة لذلك، على أن يستأنف الحديث المرح سريعًا. يطوفون بذاكرتهم عادة إلى أيام العمل الأولى والشباب الأول الذي لم يبقَ منه سوى الذكرى، حديث طويل كذلك عن المفارقات التي تعتري الحياة. لقد تحول الرفاق مع الوقت إلى حكماء، فالتجارب تصقل الإنسان ليكتشف في النهاية أنه لا داع للحقد والضغائن؛ لأن البشر بطبعهم متشابهين، وما الاختلافات إلا عوارض زائلة لا يجب أن تحملها القلوب طويلًا. أتذكر الآن هذه الطاولة المشرقة في مقهى المسافر في الشارع التجاري لمدينة الخوض، الطاولة الصاخبة تلك والمطلة على الشارع أصبحت فارغة. وكان فصل الشتاء هو أفضل وقت لجلوس الرفاق، أتركهم بعد ذلك وأعود أدراجي إلى طاولتي في المقهى الآخر «كوستا» الذي تغير الآن.
الحديث عن الراحلين وطاولاتهم لإيقاف عند أسماء معينة. فكل منا لديه ذكرى في طاولة من طاولات الحياة، رحل جلاسها وبقيت الأطلال والرسوم والمواقف تذكر بهم. لا أحد يعلم متى تأتي ساعة أي إنسان، فحين كنت أجلس معهم لم أكن أشعر في تلك اللحظة بأن كل جلسة من تلك الجلسات يمكنها أن تكون جلسة وداع، رحمهم الله.