الحرب المستمرة في أوكرانيا تطرح عددًا من الأسئلة حول مستقبل وشكل النظام العالمي الجديد، في حالة استجابة أوكرانيا لمعظم الشروط الروسية، نظامٌ لا تكون الولايات المتحدة فيه، القوة الوحيدة القادرة على فرض أجندتها، وقد تكون من أولى التداعيات تحول أوكرانيا إلى دولة مُهلهلة ضعيفة معرضة لاضطرابات قد تمتد لفترة، وحصول تغييرات عديدة في القيادات العُليا.
التداعيات ستشمل أيضًا العلاقات والتحالفات والاتفاقات الدولية الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وسيزداد التعاون والتنسيق بين روسيا والصين وعدد من الدول الأخرى، الصين ستتشجع على حسم موقفها من تايوان. منطقة آسيا والمحيط الهادي ستكون ساحة للتوترات الكبيرة.
وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بدأت روسيا بمواردها وطاقاتها وترسانتها النووية والصاروخية، تشكل عامل ضغط متزايد، معتبرة نفسها وريثًا للاتحاد السوفيتي، كما برزت الصين كعملاق جديد، بعدد سكانها الضخم واقتصادها وحجم ناتجها القومي المتصاعد الذي يقترب من حجم الناتج القومي الأمريكي، وقد يتجاوزه قريبًا، حسب معدلات نمو الاقتصاد الصيني.
وفي نفس الوقت تجاوز حجم الدين الأمريكي 32 تريليون دولار وهو في صعود مستمر، وعدم الاقتراض يحمل معه مخاطر عديدة منها عدم قدرة 30 مليون عائلة على الحصول على دعم إضافي لأطفالها، وعدم تمكن نحو 50 مليون متقاعد من الحصول على معاشاتهم.
واستندت هيمنة الولايات المتحدة والغرب على النظام العالمي على القوة الاقتصادية، ووفقًا لبعض الدراسات أنتجت ثماني دول التي فرضت عقوبات على روسيا 79.4% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2000، وانخفضت هذه النسبة إلى 60.4% في عام 2020. وهي في تراجع مستمر. ويُعتقد أنه بحلول عام 2040، سيكون للصين والهند معًا ناتج محلي إجمالي أكبر من حيث القوة الشرائية من الولايات المتحدة والدول الثماني الأكبر التي فرضت عقوبات على روسيا مجتمعة، عندئذ سيتغير ميزان القوى في العالم بشكل أكبر.
الاحتياطي الفيدرالي قد يتوقف عن طباعة النقود الورقية غير المغطاة، ورفع سعر الفائدة للسيطرة على التضخم الأمريكي المتصاعد سيسبب هبوطًا لسوق الأسهم. وسوق الأوراق المالية هو قلب الاقتصاد الأمريكي، ولإنقاذه، فمن الضروري ضمان تدفق رأس المال إلى الولايات المتحدة الأمريكية من جميع أنحاء العالم عن طريق تصعيد الصراعات المختلفة، وإيجاد مبرر يتحمل المسؤولية عن أي انهيار لهرم الديون الأمريكي، ومن ثم انهيار النظام المالي العالمي.
قسط كبير من المستوى المعيشي والإنفاق العسكري قام على أساس استنزاف رؤوس الأموال من جميع دول العالم، فسندات التمويل الضخمة الصادرة من الولايات المتحدة لتمويل العجز، تشتريها أوروبا واليابان والصين ودول أخرى من ضمنها بعض الدول العربية، وهي الدول التي تتمتع بفائض تجاري، وارتفاع أسعار السلع الأساسية، كل ذلك قد يقضي على الفوائض التجارية لأوروبا واليابان وغيرهما، ووقف مصادر التمويل وخفض الاستثمارات في الديون الأمريكية، سيحرم الولايات المتحدة من مصادر مهمة لتمويل العجز، مسببًا شللًا وتفككًا في النظام الأمريكي، الأمر الذي سوف يضغط عليها للحصول على الأموال بأية طريقة ومن أي مكان، سوف تبذل جهودًا أكبر لزعزعة الاستقرار العالمي، ومن المحتمل أن يتم تكليف بولندا أو أي دولة أخرى في “الناتو” بالتحريض على صراع أكبر مع روسيا وزج مولدوفا.
الولايات المتحدة تواجه أيضًا مشاكل داخلية عديدة، فجزء كبير من حيوية المجتمع الأمريكي راجع إلى قدرة هذا المجتمع على استيعاب وهضم عناصر بشرية مهاجرة من أصول مختلفة، هذه العملية المجددة والمنشطة للشباب جعلت الولايات المتحدة وعاء صهر ومزج هائل من طراز مثير وفريد “Huge Melting Pot”.
هذا الصهر بدأ يتباطأ لاعتبارات كثيرة تتعلق بمشاكل التمييز العنصري، وموجات الهجرة الجديدة، وتباطؤ النمو، وبدأت الولايات المتحدة تتحول تدريجيًا إلى مجموعات كتل إنسانية كأنها الجزر المعزولة.. كتل زنجية وهندية، ولاتينية، وآسيوية، وأوروبية، واستتبع ذلك إحياء ثقافات ولغات وممارسات جعلت ذلك البلد مُهددًا بانقسامات يستفحل خطرها ويحولها إلى “الولايات غير المتحدة الأمريكية”. وبدأت الولايات المتحدة تشعر أن قبضتها على العالم أخذت تتفكك تدريجيًا. كما إن انتشار السلاح بين الأمريكيين، جعل الولايات المتحدة من أعلى الدول في معدل الجرائم بسلاح ناري، فضلا عن أن عمليات إطلاق النار المستمرة وسط خلاف محوري حول حق حمل الأسلحة، تؤثر على مكانة الولايات المتحدة في العالم وسمعتها.
من الصعب على الولايات المتحدة قبول خسارة ترتيبها كأقوى اقتصاد في العالم وتجاوز ديونها وفوائدها كامل دخلها القومي، هي تحاول بكل وسيلة أن لا تصل إلى هذا المأزق مهما كان الثمن، وكل ذلك استفحل على مستوى القرار السياسي، ودفعها لأن تلجأ إلى أنواع من العنف، مستحدث في ممارساته، منها إشغال الحروب المختلفة، المباشرة وغير المباشرة والهجينة، وإصرارها على إدخال أوكرانيا إلى الناتو وتسليحها بقوة، كانت من تلك السياسات.
وبدأت حروبها الاقتصادية والتجارية مع أقرب أصدقائها وحلفائها، ابتداءً مع اليابان، وتاليًا مع أوروبا وألمانيا في طليعتها، وحاولت إغراء غرب أوروبا بأن تتدخل في ضبط مشاكل شرق أوروبا، وتتحمل تبعاتها وتكاليفها، وغرب أوروبا لا يريد أن يتورط، وفي شرق آسيا حاولتْ- وما زالتْ- إعاقة أي لقاء استراتيجي بين اليابان والصين لكي يقوم أي من العملاقين بمزاحمة الآخر.
ومن المتوقع قيام بلدان مختلفة بتنويع استثماراتها بعيدًا عن الدولار الأمريكي لحماية نفسها بعدما شاهدت ما حصل لروسيا، وبلدان أخرى اختلفت مع الولايات المتحدة، وتم تجميد 300 مليار دولار من احتياطيات النقد الأجنبي الروسي لتقويض قيمة الروبل، ومعاقبة روسيا على حربها قد يؤدي إلى تقويض دور الدولار كعملة احتياطية، علمًا بأن حصة الدولار كانت تشهد انخفاضًا خلال العقدين الماضيين. وبيع الغاز الروسي بالروبل هو الآخر قد يهدد عرش الدولار الأمريكي، ويعتقد بعض المحللين أن الهيمنة الغربية آلتي استمرت لمائتي عام، قد تنتهي بحلول عام 2040 مع نمو الناتج المحلي الإجمالي الهائل في الصين والهند، ودول عديدة أخرى مثل المكسيك والبرازيل والأرجنتين وإيران ودول أخرى.
ولذا نقول إن عالم ما بعد حرب أوكرانيا لن يكون مثل عالم ما قبل الحرب، فثمة نظام مالي عالمي جديد سيفرض نفسه على الجميع، ونظام اقتصادي يتم رسم ملامحه الآن، وقد يختلف كثيرًا عن نظام بريتون وودز Bretton Woods system الذي يهيمن على العالم منذ الحرب العالمية الثانية. هناك قوى اقتصادية ستصعد وأخرى ستتراجع، وسوف تُبذل محاولات جدية للبحث عن نظام بديل للتحويلات المالية الدولية بدل الاعتماد على نظام “سويفت swift” بعد أن أقحم نفسه في الأمور السياسية والخلافات بين الدول وقطع خدماته عن البنوك الروسية، كما قطعها قبل ذلك عن إيران وسوريا، بدلًا من الوقوف على الحياد وعلى مسافة واحدة من الجميع في تقديم خدماته للقطاع المصرفي حول العالم، كما سيتم استعمال عملات أخرى غير الدولار للاحتياطيات النقدية أو لشراء النفط والذهب والفضة وغيرها، عملات أخرى سيكون لها دور أكبر في نظام المدفوعات الدولية، منها اليوان الصيني والروبل الروسي، والين الياباني والفرنك السويسري والروبية الهندية.
نظام العولمة ذاته سوف يبدأ في التفكك بعد أن تبين عدم قدرة رأس المال على الانتقال بسهولة بين البنوك والمؤسسات، وعدم وجود ضمانات بعدم مصادرة الأموال والعقارات والأصول الأخرى، فمصادرتها والاستيلاء عليها أصبح ممكنًا، بعد أن صادر الغرب ثروات وأصول تقدر بمليارات الدولارات عائدة للشركات الروسية الخاصة وللأفراد.
العولمة ذاتها تم استعمالها كسلاح عند حدوث خلافات سياسية، كما إن الثقة في السرية المصرفية أو احترام الملكية الخاصة كأهم مبادئ الرأسمالية بدأت تهتز. وسن القوانين الخاصة لمعاقبة أية دولة ومواطنيها على خلاف مع الحكومة الأمريكية أو الغربية، أصبح ممكنًا، وستضطرب سلاسل الإمداد وستزداد أزمة الغذاء والوقود في العالم في الأمد القريب. وبعض البلدان العربية لن تفلت من تداعياتها وقد تشهد تفجر الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية.
من جهة أخرى فإن انكسار روسيا سيؤدي إلى نوع مختلف من التداعيات، ولو أن معظم المحللين يستبعدون هذا السيناريو، وذلك بحاجة إلى مقال آخر لتتضح الصورة من جميع جوانبها.