شبّه محمد نظام حياته بصعود سُلَّم، يقف فيه طويلا في درجة واحدة في بعض الأحيان، وفي أحيان أخرى يقفز على درجات عديدة مرة واحدة، دون أن يعرف إن كان هذا القفز صعودا أم نزولا، وفي أيهما يكمن الرحيل. كان هذا الفنان التشكيلي العُماني العاشق للفنّ، المهجوس بتفكيك الأشياء إلى عناصرها الأولى، منشغلًا – كما يقول – بتجميع كل لحظة من لحظات حياته على شكل منمنمات متناهية الصغر، لكي لا تفلت منه وهو لم يلحظ أهم انحناءاتها، ولا درجات ألوانها، على أمل أن يرسم اللوحة التي تمثّل حياته. لم تكن له من أمنية بعد أن تقاعد من عمله في وزارة البريد قبل عدة سنوات إلا أن يواصل الرسم، كيما يشعر بإنسانيته أكثر. ولأن أهمية الرحلة تكمن في الطريق لا في الوصول فقد ظل نظام يبحث عن لوحة حياته حتى آخر أيامه، محوِّلا كل ما حوله إلى لوحة على حد تعبير صديقه الفنان أنور سونيا، دون أن يملّ من المحاولة والتجريب، بدءًا من النحت، ومرورًا بالسريالية، ثم المرحلة الانطباعية أو التعبيرية، وليس انتهاء بالحروفيات.
كان محمد الابن البكر لأسرة مكونة من عشرة أفراد، قضى طفولته بين مطرح ودبي. وقد كان لهاتين المدينتين تأثير كبير في تشكيل الفنان الذي سيكون، إذْ أتيح له في مطرح تأمل ذلك الخليط البشري المتنوع من العرب والعجم والبلوش والهنود وغيرهم، وملامح الفتيات وملابس الصبية، والتعب في الوجوه الباحثة عن أمل، والوقوع بين اللونين المسيطرين: الأزرق/ البحر والأصفر/ الصحراء. وعندما انتقل إلى دبي مع والده الذي كان يعمل فيها لم يكن يشعر بأي فرق بينها وبين مطرح، لا في الوجوه ولا في الروائح ولا في البضائع، ولا في الألوان ولا في الطقس. في دبي كان يرتاد «سوق الإنجليز» ويتأمل فترينات المحلات وما تعرضه من بضائع، بطرق جاذبة، كان الأمر بالنسبة له أشبه بتأمل لوحات فنية. بل كانت معارض فنية مفتوحة ومجانية تحفّز في داخله تساؤلات لونيّة وبصرية، كما سرد في حواره الطويل مع سعيد الهاشمي بمناسبة فوزه بجائزة الإنجاز الثقافي في عُمان عام 2016.
بعد مطرح ودبي جاء دور القاهرة؛ المدينة التي شكلتْ منعطفًا حياتيًّا مهمًّا في حياة محمد نظام، والتي تَوجَّه إليها للدراسة في أوائل الثمانينيات. هناك تعرف الفنّان على ذاته بشكل أوضح. واكتشف في نفسه- بتحريض من هذه المدينة الساحرة- جرثومة التمرد. أدرك أن النجاح الحقيقي في رحلة التعلُّم تلك لن يكون في مقاعد الدراسة بقدر ما سيكون في شوارع القاهرة ومسارحها و«سينماتها» ومعارضها الفنية، فانخرط «في عالم القاهرة الحقيقي» على حد تعبيره، وأصغى لأصوات الناس، وتلذذ باكتشاف المكان وتفاصيله الصغيرة. وفي تلك الفترة انشدّ ناحية فن النحت، وبدأ بتعلّمه، والقراءة في مدارسه، وقصد معلمين بارزين فيه، متمعنًا «لساعات في جهودهم وهم يشكلون من الصخر الجامد كائنات ذوات ملامح وأرواح تسرق الإعجاب وتحيّر العقول».
بعد عودته من القاهرة عمل موظفا في وزارة التربية والتعليم. وبعد سنتين، احتاجت وزارة البريد إلى رسامين للطوابع البريدية، فقدم لها بعض المشاهد المقترحة، وعلى الفور قُبِلَ موظفًا فيها. ولأن وزارة البريد أدركتْ أنها محظوظة بهذا الفنان الموهوب فقد تشبثت به سنين طويلة إلى أن حان موعد تقاعده. كان نظام يعي أن الطابع البريدي لا ينبغي أن يُنظَر له باستخفاف، بل كأي عمل فنّي يحمل فكرة وفلسفة عميقة، فالفن البريدي في نظره «وُلِد من رحم فكرة إنسانية بسيطة وعميقة: الحق في الوصول الآمن لأكثر أحاسيسنا وكلامنا وأحلامنا ومشاريعنا خصوصية، عن المزيج من الحب والجمال والوفاء والتأريخ والثقة، في قطعة ورقية لا تتجاوز نصف إصبع».
هذه النظرة المتقدمة للفنّ البريدي، تُحيلنا على نظرته الأعم للوحة التشكيلية: «اللوحة كما أفهمها هي حوار؛ حوار مع نفسك، مع الطبيعة، مع الألوان، مع ذكرياتك، مع حزنك، مع إحباطك، مع حبك، مع غريب لا تعرفه، ولن تلتقيه يومًا». هذه العبارة الأخيرة «غريب لا تعرفه ولن تلتقيه يومًا» التي اختارتها مبادرة «القراءة نور وبصيرة» عنوانًا للكتاب الذي أصدرتْه عنه، كانت وصفا بليغا لمحمد نظام نفسه، الذي اختار منذ البداية طريق الزهد والابتعاد عن الأضواء، مدركًا أن العزلة هي «أساس الإبداع»، وأن «الضجيج قد يُثري البصر، لكن إلى حين. ثم يأتي دور العزلة لتعصر الروح كيما تنتج خلاصها في الفن».
وها هو محمد نظام يغادرنا (يوم الجمعة 27 مايو 2022) في هدوء، وهو في أوج نضوجه الإنساني والفني، تاركًا إرثا فنيًّا بديعًا، ومحبة في قلوب من عرفوه، وبعضًا من الحِكَم الصغيرة التي نثرها هنا وهناك، وعلى رأسها أن «المرء يأتي إلى هذه الحياة ويغادرها دون أن يفهم أشياء كثيرة».