عُمان: كتبت: خلود الفزارية
انطلقت اليوم في مؤسسة بيت الزبير أعمال ملتقى بيت الزبير الفلسفي في نسخته الأولى تحت رعاية صاحب السمو السيد الدكتور فهد بن الجلندى آل سعيد رئيس جامعة السلطان قابوس، وبمشاركة مفكرين وفلاسفة وباحثين من داخل سلطنة عمان وخارجها.
وألقت الدكتورة منى بنت حبراس السليمية مديرة دائرة الفعاليات الثقافية والإعلام بمؤسسة بيت الزبير كلمة الملتقى أشارت فيها إلى أن رؤية مؤسسة بيت الزبير بإيجاد فضاء معرفي رحب ونموذجي للحوار والبحث والتدارس الفلسفي؛ بغية تمكين الفلاسفة والباحثين والمهتمين بالشأن الفلسفي من المدارسة الفلسفية، في أفق حواري يعلي من قيم التفكير النقدي والمعرفي، ويعزز حركة التأليف والنشر الفلسفي، مبينة أن فكرة أن يكون الملتقى مساحة واسعة لأنشطة شتى تعنى بمجال الفلسفة، ما بين جلسات نقاشية يحاضر فيها فلاسفة ومفكرون وباحثون من داخل سلطنة عمان وخارجها، وحلقات عمل للأطفال والكبار على حد سواء، من أجل إيجاد جوّ تفاعلي هو حقيقة الفعل الفلسفي الخلاق، فضلا عن حرصنا على أن تواكب هذا كله نتاجات فلسفية تمثلت في مشروع الفلسفة للأطفال والناشئة، عبر ترجمات فلسفية تساعد هذه الفئات على ارتياد هذه التخوم المعرفية التي طالما كانت بعيدة عن متناولهم رغم أنهم مصدرها الأساس.
وأضافت أن المؤسسة سعت إلى بناء النموذج الأول لمادة فلسفية للناشئة من خلال تأليف عدد من الإصدارات الفلسفية للناشئة، واستقطاب أسماء عربية مهمة أسهمت في تحقيق هذا المشروع الذي طال انتظاره في بلد كسلطنة عمان، ولنضع به لبنة أولى في هذا الطريق الذي يطمح إلى تحقيق تراكم يثري فضاء البحث والمعرفة.
وأوضحت حبراس أن مجموعة من المكتبات العمانية ودور النشر شاركت في تنظيم معرض مصاحب للكتاب الفكري والفلسفي، ليدني المعرفة في أوعيتها المتعددة من أيدي المهتمين بحضور جلسات هذا الملتقى وفعالياته، ويصحبه جنبا إلى جنب معرض للفن التشكيلي العماني بمشاركة مجموعة متميزة من الفنانين العمانيين المنتمين إلى المدرسة التجريدية بنحو خاص، وتحتضن هذا كله قاعة الدور الأرضي من مبنى مؤسسة بيت الزبير «بيت النهضة».
فعاليات مصاحبة
وقبل حفل الافتتاح قدمت داليا تونسي حلقة عمل الفلسفة للكبار بعنوان: «الدودة والطائر» بقاعة بيت النهضة، هدفت إلى تقديم حوار فلسفي بالاستعانة بأدب الطفل.
وفي مسرح بيت النهضة دشنت فاخرة الراشدية مشروع الفلسفة للصغار والناشئة المتمثل في ترجمة عدد من كتب سلسة الفيسلوف الصغير للفيلسوف الفرنسي المعاصر أوسكار رونيفييه، وبعدها أعلنت إبتهاج المسكرية إطلاق جائزة صادق جواد للدراسات الفكرية التي تهدف إلى تكريس قيم المعرفة الإنسانية وتعزيز المساحات البحثية أمام الباحث العماني، ورفد المكتبة العمانية والعربية بمنتوج فكري يتجاوز الأطر الجغرافية المحدودة.
فكر صادق جواد
وافتتحت أولى جلسات الملتقى وأدار الجلسة الدكتور زكريا المحرمي وتناولت «الإرث الفكري لصادق جواده» قدمها كل من بدر العبري، ومحمد رضا تناولت سيرته الذاتية حيث ولد صادق جواد سليمان عام 1933م في سور اللواتية بولاية مطرح، ثم سافر في الأربعينيات بعد الحرب العالمية الثانية وهو في بداية العقد الثاني من عمره إلى الشارقة ودبي، ثم البحرين، واستقر به المقام في الكويت ليعمل في صحيفة الرأي لعقدين، وعند حكم السلطان قابوس -رحمه الله- رجع إلى سلطنة عمان ليعمل في وزارة الخارجية 1972م سكرتيرا ثم مستشارا في السفارة العمانية بواشنطن، ثم يلتحق بالسلك الدبلوماسي عام 1976م، ليكون سفيرا لعمان في إيران أيام الشاه محمد رضا، ثم تركيا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من دول أمريكا اللاتينية، وغير مقيم لدى كندا عام 1979، كما تولى منصب رئيس الدائرة السياسية في وزارة الخارجية 1977-1979، ليتقاعد في عام 1983.
وتفرغ بعدها للتأمل والبحث عن الله والإنسان والوجود، متنقلا بين العديد من الدول، جامعا بين الأديان الشرقية خصوصا الهند، والحضارة الغربية، ليسهم في تأسيس مركز الحوار العربي في واشنطن عام 1994، ومشاركا في الصحيفة التي يصدرها المركز بتوقيع أدبي، وقد جمع هذه المقالات صبحي غندور، ليعود إلى سلطنة عمان في الألفية الجديدة، ويكتب في بعض الصحف ويقدم بعض المشاركات، وجمعها سعيد بن سلطان الهاشمي بعنوان سلامة الفكر بسلامة التفكير، وهي عنوان مقالة له، ألقاها في الجمعية العمانية للكتاب والأدباء في لجنة الفكر 2017.
وكان صادق جواد من المساهمين في تأسيس الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، وانتخب رئيسا لها 2010 – 2012، ومساهما في خدمات الاستشارة العلمية لمجلس البحث في عام 2008 وحتى عام 2010، كما أنه يعدّ من الخبراء في السلك الدبلوماسي عموما، وفي الجانب الدستوري خصوصا، لهذا كانت له مشورته في الدستور الإيراني بعد الثورة، كما كان له لقاء مع السيد السستاني 2004 مشاورا له في بعض جوانب الدستور العراقي بعد التحرر، ويعدّ أيضا من خبراء الدستور الأمريكي والفلسفة السياسية الأمريكية، ورسالته في الماجستير في السياسة الدولية العامة من معهد الدراسات الدولية العليا، بجامعة جونز هوبكنز الأمريكية.
وفي أيامه الأخيرة كان مترددا بين السفر إلى أمريكا أم إلى الهند، وفارقنا في 27 يوليو 2021 بسبب كورونا.
وتطرقت الجلسة إلى مراحل تطور المعرفة لدى صادق جواد من الهوية إلى الماهية والأنسنة، ومصادر صادق جواد المعرفية، ومدار فكر صادق جواد، كما تم تقديم قراءة وصفية في فكر صادق جواد، وعلاقته بالمجتمع والدولة من الهوية إلى الأنسنة، بالإضافة إلى آرائه في علاقة الحقوق بالمواطنة من جهة والحرية من جهة أخرى، والدولة بين التحديث والحداثة والحضارة، وهيئات المجتمع المدني والسلطة، والدولة العصرية والدولة المعاصرة، والديمقراطية بين الدين والعلمانية.
ويشير بدر العبري عن فلسفة صادق جواد والدين إلى أنه يرى الموروث الديني هو المصدر الذي كان وعاء للفلسفة والحكمة القديمة، ثم انفصلت الفلسفة عن الدين، فصارت الفلسفة فكرا حرا، والدين فكر لاهوتي مقيد، ثم ظهرت العلموية التجريبية في الفلسفة، والعلموية التجريبية قطعية، والعلموية الشمولية ظنية، يجمعهما الاجتهاد الإنساني، فهو المدار لإدارة الشأن الإنساني، ويمكن أن نجمع مصادره في أربعة معارف رئيسة هي التأمل، والعقلنة، والأنسنة، والتجربة.
ويتابع العبري بقوله: تأملت في فكر صادق جواد المعرفي فرأيته يدور حول أن تنظر إلى العالم من الخارج، وأن تنطلق من الماهية فالهوية، وأن نحاول الرقي من البشرية إلى الإنسانية كلما اقتربنا من الماهية، وألا تخاصم الماضي وتراثه، ولا الأديان وطقوسها، ولكن عليك أن تعيش مع الاجتهاد الإنساني في عصرك، وأن تسهم في تطويره ورقيه، لا أن تكون نسخة من الماضي، وأن تتعامل مع العالم من خلال مبادئ العدل والكرامة الإنسانية والمساواة والشورى، فهي مرتبطة بالماهية، وليست مضافة من الخارج كالقيم، ولا متعلقة بالوجدان كالأخلاق، وهي الأساس لبناء الدول، وتنمية الثقافات، ورقي الحضارات، وأخيرا الاعتناء بثلاثة أمور أساسية قبل الاعتناء بالأمور الكلية والسياسية، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثم أن يوسع من معارفه، بالاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثالث الاستقامة.
الفلسفة المعاصرة
أما الأستاذ الدكتور السيد عبدالله ولد أباه فحملت ورقته عنوان «نقد العقل الفلسفي المعاصر.. الفلسفة والأزمات الراهنة للإنسانية» تطرق فيها إلى أن خطاب نهاية الفلسفة يتمحور حول المعنى الهيغلي الذي يذهب إلى أن الفلسفة حققت كل محطات مسارها المفهومي والنظري فتوصلت إلى الصياغات التأليفية الضرورية بين تصدعاتها وتشققاتها التي برزت منذ موجة الحداثة الأولى وانتهت إلى تجسيد المطلق الديني في أشكال إنسانية تاريخية موضوعية، والمعنى النتشوي الذي ذهب إلى أن مشروع الفلسفة كما بدأ مع أفلاطون تناسبا بين العقل والوجود قد انتهى حطاما على يد مطرقة التأويل الجينالوجي في نقده الجذري لإرادة الحقيقة وأخلاقيات الواجب والخير. مشيرا إلى أن الفلسفة في الغرب منذ أن تخلصت من نزعتها الشمولية النسقية بعد هيغل تحولت إلى نهج الاستحضار والتذكر والنقاش المتجدد مع الفلاسفة،باعتبار أنه لم يبق للفلسفة سوى « اجترار » ماضيها والتفكير من داخل تاريخها. ذلك هو النهج الذي اختاره هايدغر وتبعه الكثيرون، وحصر دور الفلسفة ومسؤولياتها في توضيح الأفكار ورسم الحدود الفاصلة بين القضايا والمنابع الدلالية، بحيث تكون مجرد منهج لتحليل الأفكار، وأنه مسلك الفلسفة التحليلية والوضعية المنطقية، إضافة إلى التفكير من خارج التقليد الفلسفي عن طريق استكناه حقول جديدة للنظر والحفر الإشكالي، انسجاما مع المقاربة النتشوية في النقد الجينالوجي، مثل محاولة ميشال فوكو في تاريخ الجنون والجنس والعقاب، مبينا أن هذه التحولات ولدت مفارقة تستحق الاهتمام وهي انفجار القول الفلسفي على جثة الفلسفة نفسها، بما يعني قطيعة الفلسفة مع خطابها التأسيسي ومشروعها الأنطولوجي الجوهري، في الوقت الذي تشعبت اهتماماتها وتوسعت آفاقها.
واستشهد ولد أباه بفلسفة كل من هابرماس عن «المنعرج اللاهوتي» في حديثه عن المجتمعات ما بعد العلمانية وضرورة اللجوء إلى السردية الدينية في مقوماتها الأخلاقية لشحذ الوعي الفلسفي الشقي، في حين يعتبر ريكور سليل «الفلسفة التأملية الفرنسية» التي اكتشفت الوعي المفكر، الذي يعد الأفق النظري للحداثة، لكنه يعي بقوة التحديات الكبرى التي تواجهها الذاتية التأملية بعد الثورة التأويلية «لسادة التشكك»، مشيرا إلى أن ريكور يسعى لإنقاذ الوعي من حيث أساس المعرفة الممكنة والمسؤولية الأخلاقية، لكن بتحويره إلى وعي مهدم غير شفاف لذاته، لا يمكنه أن يثبت إلا عبر دروب الاعتراف المتعددة التي لا تنحصر في صدام الذاتيات وتأليفيته المتناغمة كما يرى هيغل، مبينا أن ريكور ينتهي إلى إدراك السبل المسدودة لانتشال العقلانية الذاتية، فيلجأ في فلسفته التأويلية الأخيرة إلى الانفتاح على الأبعاد الإنشائية الشعرية في تجربة المعنى من خلال استكشاف جوانب الإبداع الدلالي في الاستعارة والسردية الراوية، ضمن اهتمام مكين بالنص الديني خارج مقاييس المفهوم الفلسفي.
وعرج ولد أباه إلى النقد الفلسفي «اللانطولوجيا» وهو خروج من الأفق اليوناني للفلسفة دون التخلي عن سماتها الأساسية من مقاربة مفهومية نقدية وبرهانية، ودون التخلي عن فكرة الكونية الإنسانية التي لم تعد تفهم بالمعنى المنطقي للكلي الأرسطي ولا بالمعنى الصوري الإجرائي على الطريقة الكانتية ولا بمعنى التأليفية النسقية كما لدى هيغل، ولكن بمعنى المسؤولية الأخلاقية تجاه الآخر في علاقة اللاتناهي التي تطبع الأفق الأخلاقي للتعالي، موضحا أن كانت هو من نبه إلى أن فكرة الحرية من حيث هي فكرة توجيهية للعقل العملي الأخلاقي لا يمكن أن تستمد من العقل التجريبي ومن أحكام الطبيعة، لكنه ربط هذه الفكرة بالخضوع للقانون الأخلاقي، محولا الأخلاق إلى مدونة قانونية صورية كونية.
واختتم ورقته بالإشارة إلى محاولات بناء موقف فلسفي عربي خارج السردية الغربية من منطلق حق التنوع الفلسفي أو نقد المركزية الغربية وبناء علم للاستغراب، ويرى بأن على الرغم من أهمية هذه المحاولات التي قد تدخل في المنظور الإجمالي لنقد الكولونيالية المتركز على رفض احتكار الغرب للوضع الكوني الإنساني، إلا أنها تصطدم بالإشكال العصي المتعلق بتركة الحداثة في الحد الفاصل ما بين ما هو رصيد مشترك للإنسانية وما هو خصوصيات ثقافية أو فيمية غربية « متحيزة».
ويؤكد أن تجديد النظر الفلسفي العربي يجب إذن أن يبتعد عن هذه المقاربة الأيديولوجية الهشة، وأن المطلوب هو أن تستوعب وتسبطن الفلسفة العربية الراهنة مكاسب الحداثة الكونية من داخل حقلها المفهومي وسرديتها الطويلة التي توفر آفاقا واسعة للإبداع والتجديد.
الفلسفة والتصوف
واختتمت فعاليات اليوم الأول بجلسة أدارتها أمل السعيدي قدم فيها الأستاذ الدكتور محمد شوقي الزين ورقة بعنوان «في أصل التفلسف.. تواشج التجربة الفلسفية والتجربة الصوفية» أوضح من خلالها أن الروابط المتينة بين الفلسفة والتصوف بالاسم «تواشج»، يتطلب الأمر النظر في معنى الفلسفة والتصوف بثنائيات متجاورة ومتحاورة: كالأصل والبداية، والتفلسف والفلسفة، والتصوف والعرفان، والفلسفة والتصوف، مبينا أن أصل التفلسف هو فلق الفكرة بلحظة الانفلاق بين الأصل والبداية، بين الفكرة الحدسية وتركيباتها التاريخية، ويجد التفلسف نفسه في التصوف، ويجد التصوف نفسه في التفلسف، فالوجود المشترك بينهما هو ما يمكن نعته بالتواجد، وكذلك المشترك بينهما هو «التجربة». ويضيف: تكتسي التجربة في هذه العتبة المبدئية دلالة سلوك الدرب المحفوف بالمخاطر، ولا نجد صعوبة في فهم المسألة عندما ندرك أن التجارب الفلسفية والصوفية التي اختبرها القدماء أو دونوها في أدبياتهم السردية تشير إلى منازلة العواطف والانفعالات من أجل تهذيب النفس. يكفي قراءة الكراسات للفلاسفة الأبيقوريين والرواقيين حول السعي نحو طمأنينة النفس أو الرسائل الروحية للصوفية الأوائل حول جهاد النفس لإدراك أن التجربة تنطوي بالفعل عن الأمر الذي يقلق النفس ويقض مضجعها. إذا كان المعطى المباشر للتجربة هو إرادة التحكم في النفس، كما تكشف عنه «أسطورة العربة» في محاورة «فيدروس» لأفلاطون وهو شق النفس طريقا نحو العلا، فإن الغاية المرجوة هي الوصول إلى التوازن بدرء ما يتخطى الكائن ويقحمه في الإسراف والغلو.
ويشير الزين إلى أن التجربة أصبحت جزءا لا يتجزأ من المعرفة العلمية بما تسخره من إجراءات موضوعية. غير أن التجربة في العصر الحديث لم تكن فحسب وقفا على العلم بالمعنى الطبيعي والموضوعي، بل كانت كذلك من اختصاص الصوفية، مبينا أن منذ البحوث المهمة التي نشرها بيير هادو، دخلت العبارة «الرياضة الروحية» في التقاليد والاستعمالات، وتشهد على العودة المتجددة، في طبعة جديدة ومنقحة، للمباحث التي شغلت القدماء فيما يخص الأخلاق والعلاج الفلسفي، كما أن التقارب اللغوي الذي يجريه ابن عربي بين الرياضة والأرض مهم جدا في تبيان الجلادة والبأس في تحمل الشدائد، وهي أخلاق الصبر والمكابدة الشهيرة عند الرواقيين، فالتفلسف هو في مقام الرياضة الروحية مثله مثل التصوف، فهو يجمع بين الجسد والنفس، بين التدريب الجسدي والتربية الروحية.
وينوه الزين أن فيلون الاسكندري عدد قائمة من الرياضات الروحية التي يشهد الإنسان تحولا ملموسا في الحياة بسببها وهي: البحث، والتفتيش، والقراءة، والسماع، وضبط النفس، وعدم الاكتراث بالأشياء، وتهدف هذه الإجراءات لأن تعالج انفعالات النفس وتوفر للإنسان مقومات التوازن والطمأنينة، مضيفا أن الرياضة الروحية هي القاسم المشترك بين التفلسف والتصوف، درجاتها هي التعلم العيش، الحوار، الموت، القراءة ووسائلها هي التأويل والتخيال، وهي وسائل في الوساطة والبينية. يشغل التفلسف هذه الوساطة بين الفلسفة واللافلسفة، من جهة النسق الفكري ومعاجمه ومذاهبه، ومن جهة أخرى النسق الفني في الذوق والعبقرية أو النسق الديني في الإيمان والتصديق، كما يشغل التصوف الوساطة بين الفلسفة واللافلسفة، من ناحية العقل البرهاني والمنطقي الذي كان ملاذ الفلاسفة في صناعة الفكرة، ومن ناحية الأخرى العقل الحدسي في توليد الفكرة والتوصل بالحياة، مؤكدا على أن الرياضة الروحية هي الوسط الحي لكل تجربة فلسفية وتجربة صوفية، الطبقة اللامادية للممارسات العقلية والنفسية.
الفلسفة والترجمة
وقدم الأستاذ الدكتور عبدالسلام بن عبدالعالي ورقة «الفلسفة والترجمة» بين فيها العلاقة بين الفلسفة والترجمة من وجهة نظر الفلسفة تعتمد على تأويل يقف عند التوسط اللغوي والزمني، وما يسميه التحول بالنقل من لغة إلى أخرى، وتأويل آخر لا يظهر جليا في هذا النص، ويمر مع جملة اعتراضية يرجع فيه التوحيدي.
ويضيف أن كل نص ينطوي على كثافة سيميولوجية تجعل، حتى صاحبه، عاجزا أن يحصرها من غير انفلات «بقايا لا يقدر عليها». فلا سبيل إلى استرجاع تام للنص الأصلي. ولا تسعف المباشرة المؤلف نفسه حتى يتمكن من بسط سلطته على النص لحصر معانيه وضبطها، والتحكم في المتلقي مهما تنوعت مشاربه اللغوية والثقافية. إنها ترسب بقايا تنفلت من كل رقابة شعورية، وتجعل النص يفلت من قبضة صاحبه، وتجعل المعنى ينفلت ويمتد في اختلافه عن ذاته.
أما العلاقة بين الفلسفة والترجمة من وجهة نظر الترجمة فإن الترجمة فعالة في النص الفلسفي، ومولدة لمعانيه، وكاشفة لخباياه، فهي لا تكتفي بتوفيره وتهييئه للقارئ الذي سيعمل فيه فكره، وإنما تشرع هي، ومنذ البداية، في تأويله، بل في توليده، وإبراز طاقاته ومكنوناته، والأهم من ذلك أنها غالبا ما لا ترضى عن عملها، فلا تفتأ تعيد فيه النظر. بين النص وترجماته مصاحبة دائمة.
ويشير بن عبدالعالي إلى أن الثقافة العربية كانت وما تزال تعتبر الترجمة مرحلة تمهيدية تسبق تأويل النصوص وتكتفي بوضعها في يد القارئ عسى أن يستنطقها. ومن أجل ذلك فقد اكتفت بان تسند مهمة الترجمة إلى مؤسسات أخذت على عاتقها توفير ما تطلق عليه أمهات أو «نصوصا مؤسسة»، حتى إذا ما احتاج الباحثون في مجال الفلسفة أن يعملوا فكرهم فيها، وجدوها بين أيديهم. لا أريد أن تفوتني الفرصة هنا لأدعوكم إلى التوقف قليلا للنظر في شأن هذه المؤسسات التي أوكلت إلى نفسها السهر على ترجمة النصوص المؤسسة. فقد اعتبرت تلك المؤسسات أن قضية الفلسفة عندنا هي غياب النصوص الكبرى، وأن ترجمة النصوص وتوفيرها بلغة عربية تنقل عن اللغة الأم هو أضمن سبيل لحل تلك المعضلة، مؤكدا أن هذه الترجمات، رغم كل مزاياها، لم تكن لتأتي دوما استجابة لدواعي فكرية، فهناك منها ما تولد نتيجة قرار مؤسسي، ومنها ما جاء استجابة لحدث ثقافي كموت مؤلف، أو حصوله على جائزة.
وعن ترجمة النصوص الفلسفية فيوضح بن عبدالعالي أنه لا يمكن إلا أن تتلبس الممارسة الفلسفية ذاتها، ولن تعود الترجمة مجرد فعل في تلك النصوص، وإنما تغدو تفاعلا معها، ولن تعود تفكيرا في تلك النصوص، وإنما تفكيرا بها، معللا كون الترجمة الفلسفية تظل عملية لامتناهية حتى داخل اللغة الواحدة، وما دام النص الفلسفي موضع فكر، فهو يترجم وتعاد ترجمته فالترجمة ليست مرحلة تقترح مصطلحات وتهيئ نصوصا، ثم إنها ليست أساسا مسألة مؤسسة فحسب. لا يمكن للترجمة، وترجمة الأمهات الفلسفية، أن تسند فقط إلى منظمات وقطاعات وزارية، و«بيوت حكمة» تراكم النصوص الكبرى في رفوف المكتبات. «بيوت الحكمة» في مجال الفلسفة هي، أولا وقبل كل شيء، الممارسة اليومية لمن يشتغل بالفلسفة، ومن يشغل باله بها. والترجمة الفلسفية، مثل الفلسفة، هم فكري ومعاناة من «يفلح» النصوص، ويعشق اللغة، ويرعى صقلها وصفاءها. ربما لا يمكنها أن تستغني ماديا عن المؤسسات والمنظمات، إلا أنها لا يمكن البتة أن تتم خارج «مختبرات» الفكر، وبعيدا عن قاعات الدرس، وفضاءات «الإنتاج» الفلسفي.
وإذا سلمنا بان قضية الفلسفة ليست مسألة معرفة، وبأن علاقتها بنصوصها ليست أساسا علاقة اطلاع وتحصيل، فإننا يمكن أن نجزم أنه ما دامت علائقنا بالنصوص الكبرى علائق لا تتعدى الفضول المعرفي، فإننا سنظل نتوهم أن تملك تلك النصوص يتحقق بمجرد نقلها إلى لغتنا دون بذل جهد متواصل لانفصالنا عنها، وإذكاء حدة التوتر بيننا وبينها.
انطلاق فعاليات ملتقى بيت الزبير الفلسفي الأول بمشاركة مفكرين وباحثين من داخل سلطنة عمان وخارجها
قناة Oman News Center مركز الأخبار
تقرير: يعقوب بن يوسف البلوشي
مقطع تعريفي بالمفكر صادق جواد سليمان من إعداد مؤسّسة بيت الزّبير
قناة بدر العبري العبري bader alabri
كلمتنا في أمسية الإرث الفكريّ للمرحوم صادق جواد سليمان في مؤسّسة بيت الزّبير: بدر العبري