ممّا يميّز عُمان قديما وحديثا، على قلّة سكانها باعتبار التّعداد الحالي، إلا أنّها لا تتوقف عن ولادة مبدعين يساهمون في مختلف مجالات المعرفة، ويبدعون في النّتاج فيها، ولهذا حوى هذا البلد من المخطوطات المتنوعة، مع بعد هذا القطر حينها عن مراكز الحضارة العربيّة؛ إلا أنّ المخطوط العمانيّ – على الأقل في المجال الفقهيّ والكلاميّ واللّغوي والتّأريخيّ مثلا – يشكل شاهدا كبيرا في كثرته وحضوره ثقافةً في الحضارة العربيّة والإسلاميّة.
وفي العقد الثّاني من القرن العشرين أصبح العمانيّ أيضا حاضرا ثقافيّا، ومساهما في المنشط الثّقافيّ الخليجيّ خصوصا، والعربيّ عموما، ولمّا استضاف النّادي الثّقافيّ بمسقط في مارس الماضي الكاتبَ والباحثَ البحرينيّ حسن مَدن، تحدّث عن أربع شخصيّات عمانيّة، لها تأثير ثقافيّ في الخليج، في البحرين والكويت خصوصا، وهم الأديب عبد الله الطّائيّ، والكاتب في أدب الرّحلات حسين حيدر درويش، بجانب الكاتبين أحمد الجماليّ، ومحمّد أمين البستكي، وبيّن حضورهم ليس كتابيّا فحسب، بل امتدّ إلى عمق المعرفة المقدّمة حينها في مجلّة “صوت البحرين” مثلا، والّتي صدرت في نهايات النّصف الأول من القرن العشرين الميلاديّ.
ولئن كان عبد الله الطّائيّ [ت 1973هـ] الرّمزَ الثّقافيّ الأبرز والنّشط منذ النّصف الأول من القرن العشرين الميلاديّ، وإن رحل مبكرا بعد ثلاث سنين من عُمان الحديثة، إلا أنّه وبلا منازع يعتبر – في نظري – الأستاذَ أحمد بن عبد الله الفلاحيّ وريث الطّائيّ ثقافيّا، ليكون الرّمز الثّقافي الأبرز منذ سبعينيات القرن العشرين وحتّى اليوم، ولا يزال – أمدّ الله في عمره، وبارك في وقته وصحته – نشطا، كتابة وحضورا ثقافيّا، وبيته مفتوح لمحبي الثّقافة والمعرفة، ويملك مكتبة شخصيّة ثقافيّة فيها ما أنتجه العقل العمانيّ والخليجيّ والعربيّ في القرن العشرين والألفيّة الجديدة خصوصا، قال عنه نزار قباني [ت 1998م] كما ذكر محمود الرّحبيّ في كتابه “فاكهة الفلاحيّ”: “كان [الفلاحيّ] كتيبة من الشّعر والظّرف والرّواية والثّقافة، بطحتنا جميعا على الأرض، إنّه واحد من الظّرفاء العرب الّذين سلموا من هذا العصر الثّقافيّ الحديث الّذي لا مثيل لغلاظته”.
الحديث عن أحمد الفلاحيّ ومسيرته الثّقافيّة حضورا ونتاجا يطول ذكره، بيد أنّ حضوره الثّقافيّ بدأ مبكرا جدّا في عمان الحديثة، وكان حاضرا في “النّادي الوطنيّ الثّقافيّ”، وهو أول نادي ثقافيّ في عُمان الحديثة، قال عنه مؤسّسه معالي الوزير السّابق للإعلام الشّيخ حمد بن محمّد الرّاشديّ في كتابه “بين بلاغين”: “وقد كان في تلك السّنة – أي 1974م – مركزَ اهتمامي الثّقافي هو النّادي الوطني الثّقافيّ، الّذي شاركت بمعيّة الأخ يحيى بن سعود السّليميّ في تأسيسه في مدينة مطرح في مطلع العام 1974م”، ويصف أحمد الفلاحيّ هذا النّادي أنّه كان نشطا ومنفتحا على الثّقافة والفنّ والإبداع، ولقي قبولا كبيرا، ومن ثمراته مجلّة “الثقافة الجديدة”، ويذكر الرّاشدي في كتابه من كتّاب المجلّة البارزين أحمد الفلاحيّ، إلا أنّ المجلّة لم تستمر طويلا، كما أنّ النّادي “النّادي الوطنيّ الثّقافيّ” توقف مبكرا في عام 1979م، إلا أنّه كان تجربة فريدة، تستحق الوقوف والدّراسة، وذلك في فترة مبكرة من سبعينيات القرن الماضي.
إنّ تجربة مجلّة “الثقافة الجديدة” ولّدت فكرة مجلّة الغدير، والّتي ستكون نقلة ثقافيّة تحدث جدلا ووعيا ثقافيّا أهليّا في عمان، وفي فترة مبكرة جدّا، بيد أنّها لن تخرج نسبا وفكرة من مسقط؛ بل من بلدة بعيدة تسمى المضيرب التّابعة لولاية القابل من خلال نادي المضيرب الّذي تأخر الاعتراف به إلى 1977م لأسباب مجتمعيّة حينها، وإن ارتبطت المجلّة بمسقط طباعة، إلا أنّ بداية الفكرة والأقلام فيها من المضيرب والقابل وحواليها، فبدأت مع الأستاذين أحمد بن حمد بن سليمان الحارثيّ رئيسا للتّحرير، والأستاذ أحمد الفلاحيّ مديرا للتّحرير، إلا أنّ قلم الفلاحيّ سيبرز بشكل كبير من خلال مقال العدد وكلمة الغدير، والّتي ستثمر هذه المقالات إلى مشروع كتب صدرت للفلاحيّ لاحقا، ككتابه “متابعات” الصّادر عن دار الرّؤيا للصّحافة والنّشر 2009م، وكتابه “من الحياة” الصّادر عن دار الانتشار 2011م، “وتأملات” الصّادر عن المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر 2013م، وغيرها.
وفي الوقت ذاته ستنفتح المجلّة على المجتمع العمانيّ ككل، من مسندم وحتّى ظفار، ليشارك فيها أكثر من ثمانين قلما عمانيّا بين مكثر ومقل، بجانب بعض الأقلام من خارج عمان، ومن هذه الأقلام المتكررة مثلا قلم عبد الله الرّيامي، وقلم عليّ بن محفوظ المنذري، فضلا عن اللّقاءات الغنيّة، وقد كانت مع رموز دينيّة وثقافيّة ورياضيّة وأدبيّة وتأريخيّة من عمان وخارجها، وليتها لو تطبع أو يطبع بعضها في كتاب مستقل.
لقد افتتحت مجلّة الغدير عددها الأول في 10 ديسمبر 1977م، متوافقة مع اليوم العالميّ لحقوق الإنسان، قائلة: “أول كلمة نقولها في استهلال هذه السّطور الّتي نفتتح بها العدد الأول من نشرتنا “الغدير” الّتي ستصدر بإذن الله مع غرّة كلّ شهر هديّة من نادي المضيرب، إسهاما في نشر الثّقافة، وتعميم المعرفة، ومساهمة في إحياء تراثنا العظيم، وإظهار دور هذا التّراث ليكون في متناول أبناء وطننا وأمتنا”.
لقد أطلق على المجلّة اسم الغدير من باب الاستعارة، فكما أنّ الغدير هو النّهر الصّغير بعد نزول الأمطار، فهذه المجلّة أيضا نهر من الثّقافة والفكر والأدباء من ماء المعرفة الّذي لا ينضب، وقد بدأت مع نشرة بسيطة لتتحوّل إلى مشروع مجلّة تزامنا مع العيد الوطنيّ العمانيّ الثّامن، أي في العدد الثّاني عشر من نوفمبر 1978م.
القيمة المهمّة في نظري للمجلّة أنّها تسقط تصوّر غياب العماني عن الثّقافة والأدب والفكر في تلك المرحلة، فمن يطلع على المجلة يجد التّنوّع والحضور الثّقافي والأدبي في فترة مبكرة، كما نوقشت العديد من القضايا المجتمعيّة والثّقافيّة، ومنها ما يتعلّق بقضايا الطّفل والمرأة والعادات والتّقاليد، وبعض آثار الحداثة، بجانب قضايا دينيّة في زوايا متعدّدة، مع قضايا الأدب والشّعر، كشعر التّفعلية والشّعر الحر وقصيدة النّثر، فضلا عن مناقشة بعض المشروعات الخدميّة حينها، وتجد تجاوبا من الجهات المعنيّة.
هذه القيمة – في نظري – مهمّة للباحث؛ لأنّها تعطي صورة أفقيّة لقراءة الوعي الثّقافيّ في المجتمع العمانيّ حينها، فالمجلّة من الابتداء ارتبطت بالجمهور المجتمعيّ، ولم تتوقف عند الرّموز الثّقافيّة أو الدّينيّة أو الأدبيّة فحسب، كما أنّها شموليّة لم تحجر نفسها في زاويّة معينة، حسب ما يسمح لها القانون حينها، والأمر الأهمّ هنا في نظري أنّها كانت منفتحة على الجميع، بكافّة التّوجهات اليمينيّة واليساريّة، الدّينيّة والثّقافيّة، فيعض المقالات لا توافق حسب تصوّري توجهات المجلّة، لكنّها كانت تنشرها بأريحيّة، كما فتحت مجالا واسعا للتّجاذبات الشّبابيّة، كما حدث في مقالة “الشّباب المتميّع”، للكاتبة خالصة سعيد في ديسمبر 1980م، ومقالة “هل توجد دروشة في الإسلام” للكاتب عبد الله الرّياميّ في مارس 1982م.
مجلّة الغدير أيضا لم تعمّر طويلا، حيث توقفت في عددها السّابع والسّبعين، في رمضان 1404هـ، يوافقه يونيو 1984م، إلا أنّ المجلّة من الكنوز المعرفيّة والثّقافيّة الّتي تزامنت مع بداية عُمان الحديثة، فلا ينبغي أن يكون هذا الكنز مخفيّا حتّى اليوم، بل ينبغي أن يظهر ويطبع ليطلع عليه الباحث والقارئ اليوم كما هو، بسلبياته وإيجابياته، بتقدّمه وإخفاقاته، فعلى الأقل أن يكون متاحا رقميّا في الشّبكة العالميّة إن لم يكن ورقيّا، مع رجائي أن يطبع ورقيّا، ويضاف إليه نشرة “الثّقافة الجديدة”، ومجلّة “المزون” الّتي أصدرها الأستاذ أحمد الفلاحيّ في فترة عمله كملحق ثقافيّ في البحرين، وهي خمسة أعداد كما أخبرني.
إلا أنّ رجائي يمتد أن تطبع أيضا النّشرات والمجلّات الأخرى في داخل عمان كالوحي والعقيدة، وفي خارج عمان كالطّالب من القاهرة وجبرين من الأردن، كما فعلت مجلّة الوعي الّتي كانت تصدر من مكتبة الرّسول الأعظم في مطرح، والّتي تزامن صدورها مع الغدير في ديسمبر 1977م، إلا أنّها توقفت في العدد الحادي عشر في نوفمبر 1979م، وهي وإن لم تكن بذلك الانشراح الثّقافيّ والفكريّ كما عند الغدير، إلا أنّهم يشكرون على إخراجها وجعلها متاحة للقارئ والباحث اليوم، وهذا ما نرجوه من الغدير وغيرها، وما ذلك ببعيد.
- بدر العبري كاتب عماني مهتم بموضوع التقارب والتفاهم ومؤلف كتاب “فقه التطرف”