Image Not Found

مدينة “مطرح” في ثلاث قصص عمانية معاصرة

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس

(1-3)

تبوأت المدينة مكاناً مميزاً بين مختلف الأمكنة التي برزت في النتاجات الأدبية العربية المعاصرة ، على اختلاف اتجاهاتها ومدارسها التي تنتمي إليها ، وكان لهذا أسبابه وتجلياته وجمالياته ، مما لا سبيل إلى الخوض فيه هنا (1)وليس الإبداع الأدبي العماني المعاصر بمنأى عن هذا كله ، فللمدينة وجودها البارز في نتاجات شعرية ونثرية كثيرة تتفاوت فيما بينها في جوانب كثيرة ، لكنها تشترك في إبراز المدينة وإظهار شؤون وقضايا ترتبط بالحياة فيها وطبيعة العوامل والأسس التي تتحكم فيها وفي أهلها ومن يفد إليها من خارجها.

إنَّ هذه الدراسة تسعى إلى ملاحقة الوجوه التي تتبدى بها أهمية مدينة معينة في نصوص قصصية عمانية معاصرة معينة أيضاً. أما المدينة فهي مدينة “مطرح” (2) ، وأما القصص فهي ثلاث :
1-    ” قناديل مطرح ” ، ليونس بن خلفان الأخزمي (3)
2-    ” يوم صمت في مطرح ” ، له أيضاً (4)
3-    ” بوابات المدينة ” ، لمحمد بن سيف الرحبي (5)

تشترك هذه القصص الثلاث في كونها تحمل ” المدينة ” أو اسم مدينة معينة هي “مطرح” في عناوينها ، ولعل هذا ما دعا إلى اختيار هذه القصص بالذات دون سواها لتكون موضعاً لهذه الدراسة 0 وهذه العناوين تشي- منذ البداية- بما لمطرح من أهمية فيها ؛ ذلك أن العنوان لا يختاره الأديب عادةً إلا بعد جهد جهيد ، وبعد أن يكون قد أعمل فكره ملياً في كل ما عساه أن يكون ذا أهمية في قصته ، حتى إنَّ بعض الدارسين المعاصرين نقل عن إبراهيم عبد القادر المازني قوله عن نفسه : “إنه يكتب القصة في ساعة ، ويفكر في اختيار عنوان لها في ساعتين ! ” (6).

إن أهمية مطرح في بناء هذه القصص تتجلى في الأمور الآتية:
1) التأثير في إيقاع الحدث وسيرورته :
إنَّ دقة الأديب في اختيار مكان قصته تفسح أمامه المجال واسعاً ليعطي أحداث قصته وأبعادها المختلفة المدى الذي يريده لها ، وذلك من خلال إيحاءات المكان وظلاله المتنوعة التي تعمل على تعميق الدلالات وتأسيس الرؤى والتأثيرات التي تسعى إليها القصة فعنوان القصة الأولى ” قناديل مطرح ” يوحي بوجود ظلمة مدلهمة لا يكفي المرء فيها قنديل واحد ، بل لا بد من ” قناديل ” و “القناديل ” إنما يحتاج إليها المرء ليحدد مسيره أو ليبحث عن شيء أثير لديه قد ضاع منه ، وتتأكد هذه الدلالة عندما نلحظ الصيغة اللغوية لـ ” مطرح ” : اسم مكان الطرح.
وليست القضية مقصورة على الصيغة اللغوية وحدها ، فالراوي إنما جاء باحثاً عن الذات التي هربت- في لحظة جنون- من صفاء القرية وهدوئها إلى مطرح بكل ما فيها من غموض واختلاف عن الحياة السابقة ، فظلت الذات ” مطروحة ” في مطرح على مدى عشرين عاماً ، باحثة عن الخير الذي عساه يكون ” مطروحاً ” فيها :
” تتقاذف أخبـاره الشوارع والأسواق شاهدوه منتصباً فوق الأرصفة كتمثال فقد اتجاهاته ، يلوح بعصاه ويدندن بكلمات لا تُفهم يذرع الأسواق والسكك بحثاً عن وجه قروي يألفه ، لكنه يظل وحيداً ، مسكوناً بالجنون المقدس ” (7).

إنَّ وصف مطرح هنا – بكل ما تحمله الشوارع والأسواق والسكك من دلالات- يسهم إسهاماً واضحاً في دفع الإيقاع الحدثي المتمثل في الغموض المسيطر والبحث الدائب إلى مداه الأوسع ، فيكون للمكان أثره في سيرورة الحدث وحركته.

وفي القصة الثانية ” يوم صمت في مطرح ” يفاجأ القارئ بأنَّ كل شئ في نهارٍ ما كان صامتاً وهامداً ، فـلا حركة ولا صوت حتى من الديكة والحشرات والبحر فضلاً عن البشر وسياراتهم ومتاجرهم وأسواقهم ، وهذا أمر غريب وغير متوقع ويمعن القاص في تعميق هذه الغرابة حين يختار مدينة كبيرة مثل ” مطرح ” المعروفة بحركتها وأسواقها وتجارتها مكاناً لهذا ” الصمت ” الذي تتمحور حوله القصة وإذا كان من المألوف أنَّ ” تشخيص المكـان في الرواية هو الذي يجعل من أحداثها بالنسبة للقارئ شيئاً محتمل الوقوع ، بمعنى يوهم بواقعيتها ” (8) ، فإنَّ القاص هنا يعمد إلى عكس هذا تماماً ، فيستفيد من كل الطاقات الإيحائية التي يشتمل عليها المكان في سبيل تعزيز المفارقة التي أرادها ، المفارقة التي تبرز من العنوان :” يوم صمت في مطرح ” والتي تدور حولها أحداث القصة كلها.

إنَّ القاص هنا يبدي براعة ملحوظة في تعمد اختيار الأماكن التي يكثر فيها الازدحام والحركة والضوضاء عادة في مطرح ، فهو يختار أماكن من مثل سوق الظلام ، وشارع الكورنيش ، وسوق السمك يقول مثلاً :
” وكنت قد اعتدت مع صبيحة كل جمعة على حلاقة لحيتي والتوغل في الأسواق حيث يروق لي كثيراً مشاهدة الباعة والتجار والزبائن ووجوه النساء المتزاحمات علـى المحلات قبل أن أصل إلى سوق السمك هذا الصباح تبدو الأشياء غريبة جداً : البيوت هادئة ، السكك صامته ، المحلات جافة ميتة ، حتى صياح الديكة الذي كثيراً ما نرفزني مع كل فجر جديد ، اختفى اليوم تماماً ” (9).
وهكذا تكون مطرح – بكل ما فيها من حركة وضجة في العادة – عاملاً بيد الأديب ، يعمل على تعميق غرابة الأحداث التي أراد لقصته أن تتناولها.

أما القصة الثالثة ” بوابات المدينة ” فتحاول أن تقارن بين عهد النهضة العمانية الحديثة منذ 1970م والعهد الذي سبقه ، من خلال قضية خلفان الذي يهرب مع أسرته الكبيرة من قريته ، تاركاً وراءه واقعها الثقيل المتمثل في الثارات القبلية والأمراض والفقر والموت اليومي بلا معنى ولا غاية، ومتجهاً صوب مطرح التي كان يؤمل أن تكون الجنة المنتظرة :
” هـذه أمامهم الجنـة المنتظرة تفتح ذاكرتها للتاريخ وللرزق القادم من أفواه أسماك القرش ” (10)
لكن الأمور لم تمضِ حسب ما كان يؤمله ، فقد استغرق السفـــر إلـى الجنة المنتظرة أياماً ثلاثة قاسية ،وباتت الأسرة كلها إلى الصباح في العـــراء عند البوابة التي أغلقــت قبيل دخــولهم إلى ” البندر “، وبعد دخول الجنة ما لبث خلفان أن أعتقل بتهمة إطلاق الرصاص من بندقيته التي كان يحملها وحسب ، وطال اعتقاله عاماً قضاه سجيناً في ” الكوت ” ( أي القلعة المستعملة سجناً) ، وكانت هذه المدة كافية لكي تموت زوجته ويتشرد أطفاله
بعد هذا كله ، ليس من العسير على القارئ أن يستخلص أنَّ إيقاع الأحداث في القصة يرمي إلى أنه لم يكن ثمة فرق ظاهر في عهد ما قبل النهضة بين القرية والمدينة ، فلهذه مآسيها ولتلك مصائبها ، والفرق – إن كان – فرق في المظاهر والتجليات ، لا في الواقع والحقيقة وهنا تبرز أهمية اختيار مطرح ، المدينة الشهيرة التي يلهج القرويون باسمها ويتوقون إليها ، حتى إذا جاؤوها اكتشفوا أنّ كل آمالهم فيها لم تكن سوى سراب بقيعة ، وأنَّ واقعها لا يكاد يختلف عن واقع قراهم:
” أين المعجزة تتفجر مع موج البحر في ديجور هـذا الليل الذي يحاكي القرية برعب لياليها ؟ أين هذه المعجزة ترجع القبطان الغائب في موجة أخذته وتركت البقية دون أدنى تجربة في القيادة ؟ إنه الغموض والصدفة المليئة بالأسرار تحركت الأقدام الصغيرة تذرع سوق مطرح المتهالك في سكة الظلام مشت الأجساد تتهجس بعفوية ، والأم تغرق في دموعها” (11).
إنَّ هذا الوصف لمطرح ، المشتمل على محطات مختارة بعناية : موج البحر والليل المرعب كليل القرية وسوق مطرح المتهالك وسكة الظلام ، ليعمق الإيقاع الذي أراده الأديب تعميقاً واضحاً ، حتى ليمكن ترديد قولة غالب هلسا بثقة :” إنَّ المكان يلد السر قبل أن تلده الأحداث الروائية ”  (12).

(2-3)

ثمة تأثير لمدينة “مطرح” في إيقاع الحدث معنى آخر ، هو أنَّ انصراف القاص إلى وصف المكان ” يفترض دائماً توقفاً زمنياً لسيرورة الحدث ، لهذا يلتقي وصف المكان مع الانقطاع الزمني ” (13) فالحـدث يمضي هادئاً حتى يكاد يتوقف – في ” قناديل مطرح “-  حين يعتني القاص بوصف المكان :
” يصنع تمثالاً ضخماً بظل قامته المغروزة في شواطئ مطرح يقعد معه ذلك الذي يتأجج في أعماقه يلتصق به كجلده ، فيتقاذف قدامه الزبد الذي يحمل الصرخات الآتية من الأعماق يرقب بلهفة موج البحر والامتداد تتناثر الأسمــاك بكثرة على الشاطئ كجثث جنود خلفوا إثر معركة بحرية طاحنة ” (14).

بيد أن وتيرة الحدث تتصاعد وتقوى حين يصب القاص اهتمامه على ما يجري لا على المكان :
” ذاك هو الآن يتأهب لعودة خاوية ، يتقدم قطيعاً من الأحزان وقبل أن يهم بركوب صهوة الرحيل ، حين كان يزف أحزانه المرة ويتكئ على صخرة شاهقة أمام البحر ، داهمه صوت ضعيف محشرج ، يخرج مخنوقاً بحدة : يا ناس ، يا ناس قوموا ، هذي حبيبتكم ” (15).

والأمر يبدو أوضح لدى يونس الأخزمي في قصته الأخرى ” يوم صمت في مطرح ” ، فاهتمامه الواضح  بوصف جزيئات مشاهدات السارد في مطرح يترافق مع بطء إيقاع الحدث وتوقفه تماماً أحياناً يقول مثلاً :
” كانت المحلات التي اعتادت فتح أبوابها مع صلاة الفجر مغلقة ، المخبز اللبناني لا تنبعث منه رائحة رغيف كالعادة ، ودكان الحاج علي بائع المرطبات وعصير البرتقال الطازج والخضراوات بدا ساكناً هامداً مصطبة العجوز مياء بائعة الحمص والفول خالية ، حيث اعتدت على شرب شاي الحليب الساخن وتناول رغيف مملوء بالفول تارة وبالجبن تارة أخرى قبل توجهي للعمل كل صباح ” (16).
ويختلف الحال كثيراً في مقطع آخر من القصة ، عندما تتسارع الأحداث وتتعاقب متتالية غير تاركة مجالاً أمام القاص ليسهب في أوصافه المكانية :
” برحت سوق الظلام ، وولجت سككاً ضيقة ، واكتشفت – وأصواتهم القميئة تبتعد تدريجياً- أنني أملك ساقين سريعتين ” (17).

ومثل هذا ما يمكن أن يقال عن ” بوابات المدينة ” أيضاً ، فحين يغيب وصف المكان يتسارع إيقاع الحدث :
” شيخ القبيلة أمر بالثأر لأن شاة أحد رعاياه قتلت يوم أمس ثلاث رصاصات تمرق في الهواء باحثة عن جسد آدمي تكتب النهاية على حوافه أخطأته الرصاصات إلا من جرح يجري به في الوادي المحاذي للقرية البائسة ” (18).
ويحدث العكس لإيقاع الحدث الأصلي للقصة عندما يميل القاص إلى التأمل في بعض جماليات المكان :
” مطرح إذن هذه هي المدينة تستقبل القادمين بصور ساحلها القديم وساحلها المزدان بمراكب الصيد وسفن التجار ، بقلعتها التي تطل بكبرياء العاشق للبحر وللنوارس تحوم حول مركب البوم وذلك السنبوق الآتي من صور العفية ” (19).

القضية هنا إذن هي أنَّ الحرص على وصف مظاهر الجمال أو القبح في أي مكان من الأمكنة يجب أن يرافقه حرص آخر على مدى اتساق سرعة إيقاع الحدث مع ما يقتضيه المقام ، وهذا ما لربما يغفل عنه بعض الكتّاب الذين يطمحون إلى أن تكون قصصهم ذات صبغة شعرية ، ويقودهم طموحهم هذا- على الرغم من وجاهته في حد ذاته- إلى تناسي السرد وخط سير الأحداث ، والوقوع في إسار جاذبية الوصف ورسم الصور الفنية البديعة المتتابعة.

2- إبراز مكنونات الشخصيات :
من الحقائق الأدبية التي لا يتطرق إليها شك أنَّ المكان ” سواء أكان واقعياً أم خالياً يبدو مرتبطاً بل مندمجاً بالشخصيات ” (20) فالشخصيات تحيا في المكان ، وغالباً ما تربطها به وشائج وصلات تتصل بذاكرتها ، وتؤثر في حاضرها ، وتسعى إلى رسم ملامح مستقبلها.

وبدهي بعد هذا ألاّ يكون المكان محايداً معزولاً عن كل المكنونات  الرؤيوية والعاطفية للشخصيات ، فهو مؤثر فيها ومتأثر بها، وهو أداة مهمة بيد الأديب لإبرازها للقارئ بنحو تعبيري مؤثر ، ففي وسع الأديب ” أن يحّول عنصر المكان إلى أداة للتعبير عن موقف الأبطال من العالم  ”  (21).

الشعور الغالب على السارد في ” قناديل مطرح ” هو القلق والتوجس ، وقد انعكس هذا على رؤيته للمكان ، فصار لا يرى من حوله إلا الموات :
” هذه الشوارع الساكنه ، هذه الأجساد المبذورة على الأرصفة ، هذا الشخير0 كلهم ميتون”   (22).

واللافت للنظر هنا أنَّ هذه النظـرة السوداوية القاتمة أرادها المؤلف أن تكون عارمة شاملة ، لا ينجو منها شيء ، حتى ما كان أثراً تاريخياً مهماً ، كقلعة مطرح:
” مطرح الممتدة حتى الأفق ، المشربة تلالها الصلبة بالأسماء الموشومة كالنجوم ، كالحفريات الناطقة ، كالشموخ إيه أيها البرتغاليون ، لماذا حين ارتحلتم ، لم تحطموا كل أدرانكم النتنة في عيوننا؟ ”  (23).

أحسب المؤلف هنا أراد أن يلجأ إلى طريقة الإدهاش وتغريب المألوف حين جعل قلعة مطرح- إن كانت هي المقصودة فعلاً كما يظهر – من ” الأدران النتنة ” وهذه طريقة لا نملك أن ننكرها عليه ، فلها أهميتها وأثرها في تلقي القارئ وملامسة ” أفق التوقع ” لديه هذا إذا أحسن استعمالها ، وهنا مكمن القضية لقد كان في وسع المؤلف أن يجعل نصه أقرب إلى الموفقية لو أنه حافظ على السواد طاغياً تماماً على كل شيء ، مثلما أراده أن يكون ، دون أن تتخلله منافذ نور أو مواضع إعجاب وعندئذ ستكون قلعة مطرح غارقة في ذلك السواد ، كشأن غيرها ، وسيكون هذا أدعى إلى إدهاش القارئ والتأثير فيه لكن الملاحظ أنَّ المؤلف لم يستطع أن ينتزع مظاهر الإعجاب والفخر من عيني سارده وهو ينظر إلى ملامح مطرح الأثرية ، فجاءت رؤيته غير متمحضة وغير غارقة في التشاؤم والقلق ، وهذا ربما يكون قد نال من تماسك البنية الشعورية في النص وسبَّب فيها بعض التهافت.

والنظرة السوداوية الملأى بالألم والتوجس من الموت نجدها مبثوثة أيضاً لدى السارد في ” بوابات المدينة “، فمطرح الواقع المرير غير مطرح الأمل المنتظر :
” وها هي مطرح التي تفاخر بصاغتها تهدي أبي حواجيل  من حديد ، بوزن كل السنين التي عاشها ”  (24)
صحيح أنَّ السارد أحس بشيء من الألفة في بعض المراحل :

” وحين أفقت كان المثعاب وهو الباب التوأم لدروازة مطرح يوزع شيئاً من الألفة ، الحطابون  يكومون حطب السمر ، وقود البيوتات المطرحية الفقيرة  ، والحمالون يصنعون بقطرات قـرب الماء على ظهورهـم ممرات ذكرتني بظلال سعف نخيل قريتي ”  (25).
لكن هذا لم يكن سوى مرحلة طارئة استثنائية ، يعود بعدها الإحساس بالموت والقتامة ليغلِّف كل شيء ، وليدعو السارد إلى أن يقول عند موت أمه:
” فكلانا ميتان ، الفرق أنها نامت مغمضة العينين ، وأنا نائم بعيون مفتوحة أرقب بوابة كوت مطرح حتى تفتح” (26).

إنَّ هذه المرحلية هي التي تجعل هذه القصة في مأمن من المأخذ الذي سبقت ملاحظته في ” قناديل مطرح” ، ففرق كبير بين أن تمر الحالة النفسية للشخصية في مراحل متنوعة تتراوح فيها المشاعر وتتفاوت مداً وجزراً، وبين أن تكون اللحظة الواحدة واللوحة المعينة مشوبة بشيء من عدم استواء البنية النفسية والشعورية.
ويُحسب لهاتين القصتين أنَّ المشاعر السوداوية الناقمة إزاء مطرح كانت فيهما وليدة التجربة ذاتها، ولم تكن مقحمة متصنعة بدافع تقليد الأدباء الغربيين في نقمتهم على المدينة – أية مدينة – حين يضيقون ذرعاً بكل ما تمثله من تعقيدات الحضارة الحديثة ، فيصبون عليها لعناتهم ورفضهم القصتان إذن في منجى من المأخذ الذي أخذه كثير من الباحثين على الأدباء العرب، والذي يتلخص في أنهم لا يتحدثون عن الغربة والقلق والضياع في المدينة إلاّ لمحاكاة أدباء الغرب (27).

إذا ولينا وجوهنا بعد هذا شطر القصة الأخيرة ” يوم صمت في مطرح” ، وجدنا القضية مختلفة تماماً عما وجدناه في القصتين السالفتين فهنا العلاقة مع مطرح علاقة محبة وعشق جارفين :
” أخبرته أنني مسكون بمطرح ، وأنَّ مطرح  الحلوة في دمي ” (28)
وهذه العلاقة ليست جديدة طارئة ، فهي قديمة موغلة في القدم:
” عشقتها منذ نعومة عقلي ”  (29)

والحق أنَّ القاص لم يكن في حاجة إلى التصريح بحقيقة مشاعر بطل القصة وساردها ، فكل كلماته وتعبيراته التي يستعملها في وصف مطرح مغنية عن هذا التصريح ، فهي تشي بل تجأر بمحبة بالغة لمطرح ولكل ما فيها ، وفي المقاطع التي سبق نقلها من القصة كفاية لبيان هذا.

(3-3)

انتهينا في الحلقة السابقة/ الثانية إلى القول بأنّ الحقائق الأدبية التي لا يتطرق إليها شك أنَّ المكان “سواء أكان واقعياً أم خالياً يبدو مرتبطاً بل مندمجاً بالشخصيات” (20) فالشخصيات تحيا في المكان ، وغالباً ما تربطها به وشائج وصلات تتصل بذاكرتها ، وتؤثر في حاضرها، وتسعى إلى رسم ملامح مستقبلها.

وبدهي بعد هذا ألاّ يكون المكان محايداً معزولاً عن كل المكنونات  الرؤيوية والعاطفية للشخصيات ، فهو مؤثر فيها ومتأثر بها، وهو أداة مهمة بيد الأديب لإبرازها للقارئ بنحو تعبيري مؤثر ، ففي وسع الأديب ” أن يحّول عنصر المكان إلى أداة للتعبير عن موقف الأبطال من العالم  ”  (21).

3- إشكالية الانتماء:
ثمة قضية لا مناص مـن الانتباه إليها والترقب لأثرها ونحن نتحدث عن أهمية مطرح في القصص الثـلاث ، هي أنَّ الشخصية الرئيسة في كل منها ليست في الأصل من مطرح ، وإنما وفدت إليها من مكان آخر يختلف في صفاته وظروفه عنها0 ففـي كل من ” قناديل مطرح” و ” بوابات المدينة ” نجـد أنَّ الشخصية الرئيسة قد أتت من قريةٍ ما لم تحدد بالاسم ، وفي ” يوم صمت في مطرح” أتت الشخصية من نزوى وهذه ، وإن لم تكن قرية ، تختلف اختلافاً كبيراً عن مطرح.

هذه الحقيقة كفيلة بأن تستثير أمامنا سؤالاً مهماً يرتبط بإشكالية الانتماء: أكان وجود هذه الشخصيات في مطرح مترافقاً مع استقرار نفسي واطمئنان وجداني نابع من شعور حقيقي بالانتماء إليها أم أنها ظلت مرتبطة القلب ومعلقة الفؤاد بمكانها الأصلي تتحين الفرصة الملائمة للعودة إليه؟

تستوقفنا في البدء ملاحظة ترتبط بعنوان القصة الأولى:” قنــاديل مطرح” ، محصلها أنَّ الكلمة الأولـى ( قناديل ) لم ترد في القصة كلها نعم وردت فيها ” قنديل ” بصيغة الإفراد ، ليس عند الحديث عن مطرح ، وإنما عند الحديث عن ذكريات القرية :
“وهو صياد يزف ظلمة الليل وهدير الأمواج بقنديل صغير ، يحمل شباكه على ظهر قاربه ويدشن البحر” (30).

عنوان القصة إذن يربط شيئاً- كان أساساً مرتبطاً بالقرية – بمطرح ، وكأنَّ الوجود في مطرح يتلخص في البحث عن شيء كانت الشخصية قد تركته وراءها في قريتها0 والبحث ليس عن قنديل فرد، وإنما عن ” قناديل” بصيغة منتهى الجموع ، مما قد يحمل دلالة على شدة سطوة الحنين إلى الماضي ، الماضي البعيد عن مطرح.
ووصف البحر في القصة فيه دلالة خاصة عندما يكون المرء في مطرح ، وهي دلالة تختلف عن دلالته عندما يكون المرء في القرية ، وكأنَّ البحر هنا غيره هناك ففي مطرح يتخذ البحر الصورة الآتية:
” فيتقاذف قدامه الزبد الذي يحمل الصرخات الآتية من الأعماق يرقب بلهفة موج البحر والامتداد
تتناثر الأسماك بكثرة على الشاطئ كجثث جنود خلفوا إثر معركة بحرية طاحنة “(31).

وهي صورة تزكم أنف القارئ بقوة روائح الخوف والغموض والموت فيها ، لكنها سرعان ما تتحول إلى صورة مغايرة عندما يكون الحديث عن البحر في القرية:
” تفعم أنفه رائحة البحر، حين يكون عائداً على حيزوم قارب أبيه ، يسمع للصيادين القادمين بنكهة الانتشـاء بعد يوم ثري تتجاذب الأنوف روائح السمك والغليون يغني أبوه ، فيأتي صوته رقراقاً ينساب بأعذوبة مع موسيقى الموج ومن خلفه تسمع المرددين بأصواتهم المالحة، فيأتي الغناء الرطب عذباَ كأوركسترا متكاملة كثيراً ما يداهم فجر القرية الطري دقات الطبول العائدة مع أناشيد الصيادين الريانة” ( 32).

هذا التباين في وصف البحر يكشف عن عدم قدرة على الإحساس بالانتماء إلى مطرح، فثمة دوماً حنين إلى الماضي، وإلى القرية وهذا ما يولّد الإحساس الطاغي بالتيه:

” أين أنت؟ كلهم يسمعون صوتك القادم من السماء ، وأنا تائه أبحث عنك في الممرات الحالكة وفوق الهضاب”( 33).
إنَّ هذا الإحساس بالتيه يتكرر ذكره في ” بوابات المدينة ” أيضاً فتحت وقع مطارق الواقع وضغط الظروف القاهرة ، صارت مطرح مقرونة بالتيه وفقدان الذاكرة :
” مطرح بروائح البهارات والسّمّاكين  ، بالتيه ، بفقدان الذاكرة ، برائحة البحر العفنة تسكن  في خياشيم أسماك القرية الفارة من مصيدة الموت إلى حافة الغموض”( 34).

ثمة إذن هوة عظيمة بين مطرح والقرية تحول دون الإحساس بالانتماء إلى الأولى ، فمطرح تتلخص صورتها في الضياع والتنكر للذاكرة المكانية والركون إلى عفونة الغموض المسيطر ،والقرية تعني عكس هذا كله لكن يبدو أنَّ القاص عزّ عليه أن يبقى بطله أسير الضياع مدة طويلة، فتدخّل في القصة منهياً المشكلة كلها بإجراء مصالحة لا تخلو من تعّمل وتكلّف بين مطرح والقرية :
” حملت بندقية أبي إلى قريتي علقتها على وتد الزمان ونمت0 فهنا في قريتي الصغيرة تولد بندر جديدة فيها كل شيء : الهاتف والثلاجة وآخر موديلات السيارات ، وهنا أرتدي نفس كمة المطرحي ، وأتغدى بطبق من السمك الطازج مثله” (35).

هذه المصالحة وإن كانت سائغة وحقيقية بالنظر إلى الواقع الخارجي بعد دخول مظاهر الحياة المدنية في القرى والمناطق الريفية بالسلطنة ، تبدو مقحمة على بناء القصة ، وغير متلائمة مطلقاً مع خط سيرها الطبيعي الذي كان يعج بالآلام والصعوبات التي واجهها خلفان وأسرته في حياتهم المريرة بين القرية ومطرح وإذا بالابن – بعد موت والده مباشرة – يعود إلى القرية فرحاً مسروراً بمظاهر الحياة الجديدة التي أخذت تسري إلى القرية !

وتتخذ قضية الانتماء وجهاً آخر مختلفاً في ” يوم صمت في مطرح” ، فمعيشة السارد الطويلة الهانئة في مطرح رسخت لديه شعوراً بالانتماء إليها أقوى من شعوره بالانتماء إلى نزوى التي أتى منها أصلاً ؛ لذا لم يكن غريباً أن يفضل مطرح على كل بقاع كوكب الأرض كله:
” إنَّ الناس ، ناس العالم كله ، من الهند ، من السند ، من نيويورك المخيفة ، ومن لندن الواسعة ، كلهم يأتون إلى مطرح ليشموا لساعات بسيطة رائحة الهدوء الفريد ويتسكعوا بحرية حلوة ، وأمان لن يجدوه أبداً في كوكب الأرض إنَّ أبي الذي زارني قبل ليلتين لم يفلح في محاولته الطويلة في إقناعي بالنكوص معه إلى نزوى ، أخبرته بأنني مسكون بمطرح ، وأن مطرح الحلوة في دمي “(36).

4- الارتباط بالزمن :
يرتبط المكان بالزمان ارتباطـاً وثيقاً يستعصي على كـل محاولات الفصل بينهما ؛ لأن ” علاقات الزمان تتكشف في المكان ، والمكان يُدرك ويقاس بالزمان هذا التقاطع بين الأنساق ، وهذا الامتزاج بين العلاقات هما اللذان يميزان الزمكان الفني ” (37) وإذا كان هذا الارتباط يعم كل الأمكنة ، فإنه يكتسب خصوصية خاصة وبروزاً مميزاً عندما يكون الحديث عن المدينة ؛ لأنَّ” من أبرز ما يميز المدينة الإحساس فيها بعامل الزمن ، وانعكاس هذا العامل على الحياة نفسها وعلى علاقات الناس بعضهم ببعض”( 38).

إنَّ عنوان القصة الأولى ” قناديل مطرح ” ليكشف عن ارتباط واضح لمدينة مطرح بالزمان؛ ذلك أنَّ ” القناديل” إنما تُستعمل في الليل ، والليل زمان، وقد أضيف هذا الزمان إلى مطرح ليجعل ذهن القارئ مفتوحاً لكل الاحتمالات التي يحتملها هذا الارتباط الوثيق بين الزمان والمكان ويشعر قارئ القصة بأنَّ مطرح ليست مكاناً وحسب ، فهي أيضاً زمان فاصل ابتدأ فيه واقع الضياع والقلق بعد ماضٍ في القرية هادئ مطمئن.

وعنوان القصة الثانية ” يوم صمت في مطرح ” أوضح دلالةً على الارتباط الزمكاني ؛ فمطرح المكان حلّ فيها هذا الزمان الخاص ، هذا اليوم الغريب ، يوم الصمت المطبق على الكل وقد حار السارد في تفسيره دون أن يتمكن من حل اللغز إلى نهاية القصة.

أما القصة الأخيرة” بوابات المدينة” فهي أيضاً تربط مطرح ربطاً وثيقاً بالزمان:
” هذه مطرح إذن ، وهذا كوتها هنا يحرث الجميع تعاسة الزمان ، وهناك أبي يخفق قلبه مع خفقان العلم الأحمر في الكوت وهذا ليل مطرح يفح كأفعوان “(39).

ليس من المجازفة إذن الذهاب إلى أنَّ ” البوابات ” في عنوان القصة ليست بوابات عادية يقتصر الهدف من وجودها على الانتقال من المدينة وإليها، فلها أيضاً أبعادها الرمزية التي تجعلها صالحة لأن يُنتقل من خلالها من زمان إلى زمان آخر مختلف تماماً.

الهوامش:
(1) يمكن الرجوع في هذا الصدد ، على سبيل المثال ، إلى :
–    عز الدين إسماعيل : الشعـر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية ) ، دار الثقافة ، بيروت 1966م ،ص325- 349
–    إحسان عباس : اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، ط2 ، دار الشروق ، عمّان ، 1992م ، ص89- 108
–    شاكر النابلسي : جماليات المكان في الرواية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1994م ، ص30- 38

(2) مدينة ساحلية من أهم مدن محافظة ” مسقط ” ، لا تبعد عن مسقط القديمة سوى بضعة كيلومترات ، وتعرف بمينائها (ميناء السلطان قابوس ) وبأسواقها التراثية القديمة.

(3) وهي إحدى قصص مجموعته : “النذير ” ، المطابع العالمية ، روي 1992م

4) وهي في مجموعته : “حبس النورس” ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1996م.

(5) وهي قصة من قصص مجموعته التي تحمل الاسم ذاته ، مطابع دار جريدة عمان ، مسقط 1993م.

(6) شاكر النابلسي: النهايات المفتوحة( دراسة نقدية في فن أنطوان تشيكوف القصصي) ، ط2 ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1985م ، ص114.

(7) يونس الأخزمي : النذير ، ص61- 62.

(8) حميد لحمداني : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي ، بيروت والدار البيضاء 1993م ، ص65.

(9) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص11

(10) محمد بن سيف الرحبي : بوابات المدينة ، ص32

(11) المصدر نفسه ، ص34

(12) غالب هلسا : المكان الرواية العربية ، دار ابن هانئ ، دمشق 1989م ، ص11

(13) حميد لحمداني : بنية النص السردي ، ص63
(14) يونس الأخزمي : النذير ، ص59
(15) المصدر نفسه ، ص62- 63
(16) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص10
(17) المصدر نفسه ، ص18
(18) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص28
(19) المصدر نفسه ، ص33
(20) رولان بورنوف وريال أوئيليه : عالم الرواية ، ترجمة نهاد التكـرلي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1991م ص98
(21) حميد لحمداني : بنية النص السردي ، ص70
(22) يونس الأخزمي : النذير ، ص 59
(23) المصدر نفسه ، ص61
(24) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص36 0 و “الحواجيل ” أراد بها القيود
(25) المصدر نفسه ، ص35
(26) المصدر نفسه ، ص37
(27) راجـع مناقشة الدكتور إحسان عباس لهـذا الموضوع في كتابه ”  اتجاهات الشعـر العربي المعاصر” ، ص89
(28) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص13-14
(29) المصدر نفسه ، ص18
(30) يونس الأخزمي : النذير ، ص59
(31) المصدر نفسه ، ص59
(32) المصدر نفسه ، ص60
(33) المصدر نفسه ، ص61
(34) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص33
(35) المصدر نفسه ، ص38
(36) يونس الأخزمي : حبس النورس ، ص13-14
(37) ميخائيل باختين : أشكال الزمان والمكان في الرواية ، ترجمة يوسف حلاق ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1990م ، ص6
(38) عز الدين إسماعيل : الشعر العربي المعاصر ، ص331
(39) محمد الرحبي : بوابات المدينة ، ص35

المصادر والمراجع
1- الأخزمي ، يونس : النذير ، المطابع العالمية ، روي 1992م
2-الأخزمي ، يونس:حبس النورس،المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت1996م
3- إسماعيل ، عزالدين : الشعر العربي المعاصر ( قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية) ، دار الثقافة ، بيروت 1966م
4- باختين ، ميخائيل : أشكال الزمان والمكان في الرواية ، ترجمة يوسف حلاق ، منشورات وزارة الثقافة ، دمشق 1990م
5- بورنوف ، رولان وريال أوئيليه : عالم الرواية ، ترجمة نهاد التكرلي ، دار الشؤون الثقافية العامة ، بغداد 1991م
6- الرحبي،  محمد بن سيف : بوابات المدينة ،مطابع دار جريدة عمان،مسقط 1993م
7- عباس ، إحسان : اتجاهات الشعر المعاصر ، ط2 ، دار الشروق ، عمّان 1992م
8- لحمداني ، حميد : بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي ، ط2 ، المركز الثقافي العربي، بيروت والدار البيضاء 1993م
9- النابلسي، شاكر:النهايات المفتوحة (دراسة نقدية في فن أنطوان تشيكوف القصصي) ، ط2، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 1985م
10- النابلسي ، شاكر : جماليات المكان في الرواية العربية ، المؤسسة العربية للدراسات
والنشر ، بيروت 1994م
11- هلسا ، غالب : المكان في الرواية العربية ، دار ابن هانئ ، دمشق 1989م

جريدة الرؤية العمانية