محمد بن رضا اللواتي – الرؤية
تحتل خدمات بعض الأجهزة الإدارية للدولة أعلى درجات الأهمية، بالنسبة لراحة الموطن وتوفير الحياة الكريمة له، من قبيل الخدمات المقدمة من وزارة الإسكان، ووزاة التربية والتعليم، ووزارة الصحة كذلك. وباستقراءٍ للحال، فسوف تأتي خدمة امتلاك المواطن لقطعة أرض يبني عليها منزلا له، من أهم تلك الخدمات، إن لم تكن أهمها على الإطلاق؛ إذ إن الأرض أرضه، وحقه الأول منها سكنه واستقراره، ولا يُتصور استقرار حقيقي دون ذلك بتاتا.
لقد نصَّت الوثيقة الأولية لرؤية عمان 2040، والتي شاركت في إعدادها قطاعات متنوعة من المواطنين، وأشرف عليها صاحب الجلالة السطان هيثم بن طارق المعظم بنفسه، على أنه من الأولويات الوطنية: رفاه المواطن وحياته الكريمة، كما تحدثت عن تنمية مستدامة في جميع محافظات السلطنة، وفي البُنى الأساسية والخدمات الحكومية، لجعل المدن العمانية ذكية عبر تنفيذ نظام التسلسل الهرمي للتجمعات السكنية لتصبح عمان إحدى الدول الأكثر قابلية للعيش في العالم، ومن الوضوح بمكان أنه وما لم يتمكن المواطن بعده من العيش على أرض يملكها، فليس بالإمكان حينها التقدم، وإنْ قيد أنملة، في مشوار تحقيق الرفاه والعيش الكريم؛ لأنه حينها ستصبح الأرض الأقل عيشا بالنسبة للمواطن!
إنَّ مجموعة من المواطنين، مما يضعُونه في الملفات التي يكتبون أسماء ورثتهم عليها، يضعون مقاطع إيصال لطلبات كانوا قد قدموها، وقبل عشرات السنين، لوزارة الإسكان الموقرة، فإنْ ماتوا، سعى الورثة في التحري عن حال الطلب والسؤال عن الزمن المتبقي والمتوقع لقطعة الأرض أن تطلع! إنهم يفعلون ذلك لعلمهم بأنَّ مدة السنين المكتوبة لهم في سجلات القدر الإلهي، قد لا تكفي لأن يتم اعتماد الطلب وتصريف الأرض لهم! فلقد مات بين ظهرانيهم من تقدَّموا بطلبات الحصول على أرض في الوزارة المعنية لسنين طويلة، ولا يزالون في قوائم الانتظار! فهل باتت الأرض التي مساحتها تصل إلى 309500 كم، عاجزة عن إيواء قرابة 4 ملايين مواطن؟
عندما كنتُ أكتب هذا المقال، أخرج لي زميل، كان يجلس بجواري، بعد أن سألني عن الموضوع الذي وجدني منهمكًا في إعداده، أخرج لي إيصالًا أزرق اللون، كان قد طواه بعناية فائقة في جيب محفظته، وقد بدا عليها الترهُّل الشديد. الإيصال كان لوزارة الإسكان، عن معاملة تقدمت بها والدته، للحصول على قطعة أرض، في أعقاب صدور المرسوم السلطاني رقمه 125/2008، والذي منح المرأة العُمانية حق الحصول على أرض سكنية مثلها مثل الرجل ودون أي تمييز، آنذاك، تهافتتْ نساء عُمان للحصول على أرض وفق المرسوم، إلا أنه ومضى على طلب والدة هذا الزميل قرابة 12 عاما، ولا شك، ألوفا أخرى من المواطنات، كمثيلات والدة الزميل هذا، لا نعلم إن كُنَّ يحتفظن إلى اليوم بقطعة الإيصال لطلباتهن كما لا يزال يحتفظ الزميل بالإيصال بعناية في جيب محفظته، أم أنَّ الزمن مزَّق تلك القطع الورقية الصغيرة ونثرها في السنين والشهور والأيام التي جرى عليها!
عُمان التي تتَّجه بخطى حثيثة نحو تحقيق طموحات رؤية 2040، لن يكون بوسع مواطنيها قبول هذا اللون من الإدارة لطلباتهم الجوهرية، فعزاؤهم أنَّ الرؤية المستقبلية نصَّت على حوكمة الجهاز الإداري للدولة، وكُلنا يعلم أن الحوكمة يتم اللجوء إليها عندما تتدنَّى جودة الخدمات الحكومية إلى أدنى مُستوياتها، وتضعف الإنتاجية في ظل نظام يفتقد كليًّا لمنظومة الرقابة، ونهج المساءلة، وتجتاحه تداخل الصلاحيات، وتدني مستوى الإفصاح والشفافية، هذه العوامل التي تنبثق عنها حالات الفساد والترهل الإداري والبيروقراطية القاتلة.
العزاء في أنَّ وثيقة رؤية عمان 2040 قد تحدثت عن آليات كفوءة ومحفزة لإدارتها، ونظام يكافئ المنتجين ويحاسب المقصرين، ويدعو لإفساح المجال للمبدعين، كما ينادي بوضع معايير واضحة لشغل المناصب القيادية. المتوقع في ظل السير نحو تطبيق هذه الرؤية الفذة والحضارية، أن لا يرفق المواطن مع طلب الحصول على قطعة أرض، طلبا كتابيا آخر معه، يقول فيه: رجاء، لا أريد الأرض بعد الموت!