الملح من الأصناف التي لا يُمكن أن تخلو منها مائدة الإفطار؛ بل ربما لا يخلو منه طبق من أطباق الأطعمة التي تتناولها، إلا أننا قد لا ننتبه إليه ولا نهتم به إلا عندما نفتقد طعمه في طعام من الأطعمة أو عندما يتم الإكثار منه.
لكن الملح من الأطعمة التي حفلت بتاريخ عريق، فلقد كانت له قيمة كبيرة في فترة من فترات التاريخ تضاهي قيمة الذهب، فكانت بعض الأمم تبادل أوقية الذهب بما يساويها من الملح، وكان الملح يخزن في أوانٍ من الذهب والفضة؛ بل كانت له قدسية كبيرة في بعض الحضارات فكان يستخدم في طرد العين وتجنب الحسد، فكانت بعض الشعوب تلجأ إلى نثره على الأرض أو على المحسود، وربما يعود السبب في ذلك إلى أنه ينفرد بكونه الغذاء الصخري الوحيد الذي يتناوله الإنسان، فالأغذية التي يتناولها الإنسان، إما ذات مصدر نباتي أو حيواني، أما الملح فمصدره الصخور.
لكن الملح الذي كان يتم تناوله في ذلك الوقت كان يختلف في تركيبته ومكوناته باختلاف موقع استخراجه، وكان في واقعه خليطًا من الأملاح؛ إذ كان يحتوي على عدد من المعادن كالبوتاسيوم، والكالسيوم، والمغنيسيوم، إضافة إلى أيونات البيكربونات والكبريت وغيرها من المعادن، ولذا فلم يكن الملح أبيض اللون؛ بل كان مشوبا بألوان مختلفة كالأسود والأحمر، ولذا كان العرب مثلا يطلقون كلمة أملح على البياض المشوب بسواد قليل، كما كان يقال أيضاً للظبي الأبيض الميال للحمرة ظبي أملح.
وقد وردت بعض الآثار عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الملح كقوله “سيد إدامكم الملح”، وورد عنه أيضًا “من ابتدأ غداءه بالملح أذهب الله عنه كل دائه”.
ولا شك أنَّ للملح أهمية بالغة وخاصة في المناطق شديدة الحرارة كشبه الجزيرة العربية، فالإنسان العربي كان يفقد كميات كبيرة من الملح نظرًا لارتفاع درجات الحرارة وعدم توفر وسائل التبريد،
ولذا كان لا بُد من تعويض ما يفقده من أملاح من خلال تناوله لهذا الخليط من المعادن والذي كان يلعب دورا شبيها بدور محلول معالجة الجفاف في أيامنا هذه.
وما زال “الملح” في الوسط العلمي يحتفظ بمعناه التاريخي فهو مصطلح لا يطلق على مركب معين؛ بل يطلق الملح علميًا على أي مركب يتحد فيه أيون موجب الشحنة مع آخر سالب الشحنة، وعند ذوبانه في الماء ينتج محلولًا موصلًا للكهرباء.
واحتفظ الملح بقيمته ومكانته حتى في عصر النهضة الأوروبية، لكن العصر الصناعي شهد بداية انهيار قيمته وسقوط مقامه، فلقد تم استبدال الطرق التقليدية لاستخراج الملح بطرق صناعية حديثة، أدت إلى أمرين مهمين؛ الأول أن الطرق الصناعية أنتجت كميات ضخمة من الملح مما قلل من قيمته كثيرًا، والأمر الثاني أن الطرق الصناعية قامت بعمليات تنقية وتكرير للملح فأصبح الملح الصناعي يتكون من مركب واحد فقط وهو كلوريد الصوديوم وعدت جميع الأملاح الأخرى شوائب يتم التخلص منها في عملية إنتاج الملح، ولذا يتميز الملح الصناعي بلونه الأبيض.
وهناك صناعات مختلفة تعتمد على الملح اليوم، ومن أهم الاستخدامات اللافتة للنظر استخدامه في الدول التي تتميز ببرودة أجوائها وخاصة في فصل الشتاء؛ حيث يكثر سقوط الثلوج، فيتم رش الشوارع بكميات ضخمة من الملح لمنع تكون الجليد، كما إنه ما زال يُستخدم بكميات كبيرة في الأطعمة المُعلبة، وفي المطاعم وخاصة مطاعم الوجبات السريعة، ولذا فإنَّ الإنسان في عصرنا الحالي يتناول كميات كبيرة منه دون أن يشعر بذلك، وقد غدا في عالمنا اليوم من الأغذية التي ينظر لها بكثير من الحذر ويصفها البعض بـ”السموم البيضاء”.
إن الملح الذي يتواجد على مائدة إفطارك، والذي يتميز بلونه الأبيض هو ابن الآلة الحديثة فليس له تاريخ كبير ولم يمض على تواجده سوى قرنين من الزمن فإذا أردت أن تتناول ملحًا له تاريخ عريق فربما عليك بتناول الملح البحري أو الملح الصخري فهما أقرب الأنواع إلى الملح الذي كانت الحضارات البشرية المختلفة في غابر العصور تتناوله وتعظمه وأحيانا تقدسه!
*كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصادر
الملح في التراث الشعبي، أ.د. يحيى عبد الرؤوف جبر، مجلة مأثورات شعبية/ قطر 2009.
Mark Bitterman, Salted: A Manifesto on the World’s Most Essential Mineral, with Recipes, 2010