يعد توفر مياه صالحة للشرب من التحديات الكبيرة التي واجهت البشرية، فطبيعة الماء وخواصه تجعله موطنا مثاليا لنمو مختلف أنواع الحياة، فبه تنمو الطحالب والبكتيريا والفطريات وغيرها من الكائنات التي لا يمكن إبصارها بالعين المجردة، وعدد لابأس به من هذه الكائنات المجهرية تسبب أمراضًا؛ بل وتفتك بالإنسان وترديه صريعا، ولذا فإنَّ عملية التعقيم التي تجري في المستشفيات مثلًا تستخدم سوائل أخرى غير الماء فالماء شريان الحياة لكل الكائنات.
ولذا فقد نجد في بعض النصوص التاريخية التحذير من الإكثار من شرب المياه وربما يعود سبب التحذير إلى عدم توفر مصادر المياه الصالحة للشرب فأغلبها كانت ملوثة وكان الإكثار من شرب مياهها يؤدي إلى المرض أو الموت، ولذا يلاحظ في عدد من هذه النصوص أنها اعتبرت أن “الماء مادة لكل داء”.
ومن هنا فقد كانت مياه الأنهار من أهم مصادر الشرب عند الإنسان منذ القدم إذ إنَّ ما يميزها هو جريانها وتجددها المستمر مما يجعلها أقل تلوثًا من غيرها ولذا ازدهر عدد من الحضارات وارتبط اسمها بالأنهر التي بجوارها، كحضارة بلاد ما بين النهرين والحضارة الفرعونية، أما أغلب مناطق الجزيرة العربية فكانت تعتمد على المياه الجوفية المتمثلة بالآبار أو العيون وتعد المياه الجوفية عرضة للملوثات بشكل كبير جدًا وخاصة مع عدم وجود نظم منفصلة للصرف الصحي، فينتج عن ذلك اختلاط بين مياه الصرف الصحي وبين هذه المياه الجوفية.
وفي منتصف القرن السابع عشر، وبعد بروز فكرة المجهر، تمَّ اكتشاف عالم مجهري عظيم كان مخفيًا عنَّا، فلم يكن أحد يتوقع أن عالمًا يغص بالكائنات الحية مخفي عن أعيننا ولا نراه، ويُعد فان لييوينهوك وهوك من أوائل العلماء الذين استخدموا المجهر بصورته البدائية وشاهدا خلايا الدم الحمراء والخلايا التناسلية وينسب لهوك أنه أطلق مصطلح “الخلية” على بعض ما شاهده.
وكان لمرض الكوليرا في القرن التاسع عشر دور مهم في الكشف عن تلوث المياه؛ إذ تمَّ الكشف عن سبب المرض وهو المياه الملوثة ببكتريا تسبب هذا المرض القاتل.
ومع بدايات القرن العشرين بدأ الاهتمام بتنقية المياه من الملوثات الكيميائية والبيولوجية، كما تم إيجاد أنظمة خاصة بالصرف الصحي وفصلها عن مصادر مياه الشرب، ونتج عن ذلك وبعد عقود قليلة تطور مذهل وانعكس هذا التطور بارتفاع معدلات الأعمار بصورة ملحوظة، فلقد ارتفع متوسط الأعمار من منتصف الأربعينيات قبل منتصف القرن الماضي إلى ما بين الستين والسبعين، ومن المهم الانتباه إلا أن ارتفاع معدل الأعمار كان نتيجة لانخفاض وفيات الأطفال، فنسب وفيات الأطفال كانت مرتفعة بصورة ملحوظة، لأن المياه الملوثة تسبب أمراضًا عديدة مثل الإسهال والكوليرا والدوسنتاريا والتيفود وشلل الأطفال، ومع توفر المياه الصالحة للشرب وأنظمة الصرف الصحي انخفض معدل وفيات الأطفال بصورة كبيرة.
وعلى الرغم من مرور أكثر من نصف قرن على توفر المياه الصالحة للشرب، إلّا أن توفرها ما زال يعد تحديًا كبيرًا يواجه جزءًا كبيرًا من البشرية؛ إذ يقدر ما يعادل حوالي مليار إنسان على وجه الأرض لا يحصل على مياه نظيفة صالحة للشرب، فالمياه التي نستخدمها في تنظيف دورات المياه عندنا أكثر نظافة من المياه التي يضطرون لشربها، ومن المتوقع أن يرتفع عدد الذين يواجهون شحًا شديدًا وتحديات بالغة في الحصول على مياه صالحة للشرب إلى ملياري إنسان عام 2050 ميلادية.
وتشير الإحصائيات أيضًا إلى أنَّ هناك ما يعادل 1.8 مليار إنسان على وجه هذه البسيطة يحتاج أن يقطع ما يقارب الكيلومتر الواحد للحصول على مياه نقية يستطيع أن يتناولها هو وأسرته، وإذا فرضنا أن الأسرة تتكون من أربعة أفراد فإنَّ عليه أن يحمل حوالي 100 لتر من الماء (وهو ما يعادل 100 كجم)، ويقطع هذه المسافة متكبدًا عناء ومشقة بالغة طيلة أيام الأسبوع ودون توقف ليسد حاجته وحاجة أفراد أسرته من الماء، كما تشير الإحصائيات إلى أن هناك حوالي 1.8 مليون طفل ما بين الخامسة والثانية عشرة يموتون سنويًا بسبب عدم توفر المياه أو بسبب توفر مياه غير صالحة للشرب.
إذا كانت مائدة إفطارك تحوي على قنينة ماء صالحة للشرب، فعليك أن تشكر ربك على هذه النعمة العظيمة، فالبشرية عبر تاريخها الممتد لم تنعم بمثل هذه النعمة، إلا في النصف الأول من القرن الماضي، ومازال ما يقارب الـ40% من سكان العالم يحلمون بقنينة ماء صالحة للشرب كتلك التي تتواجد على مائدة إفطارك!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس
المصادر:
• The Big Thirst: The Secret Life and Turbulent Future of Water by Charles Fishman