يُعد كتاب الملياردير الأمريكي بيل جيتس- الصادر العام الماضي، بعنوان “How to Avoid a Climate Disaster” وترجمته “كيف نتفادى كارثة مناخية”- أهم الكتب التي اطلعتُ عليها خلال الأشهر القليلة الماضية؛ فالكتاب يسلط الضوء على قضايا متعددة فيما يتعلق بموضوع الاحتباس الحراري؛ إذ يوضح الموضوع بشكل مبسط ومدى خطورته، ثم يعرض التحديات التي نواجهها وآخر البحوث العلمية في هذا الصدد، والحلول المُقترحة.
ومن أبرز ما دعاني إلى تناول هذا الكتاب في هذه المقالة، أنه يتحدث عن المستقبل القريب للبشرية، فنحن في عالمنا العربي والإسلامي مغرمون بإحياء ذكريات الماضي والاحتفال بالمناسبات التاريخية، والأخطر أننا نشغل الأجيال الجديدة بهذه الأمور، بحيث أصبحت محط اهتمامهم يقضون أوقاتهم وجهودهم عليها على حساب الاهتمام بالمستقبل والانشغال به، ولذا ربما الاطلاع على هذا الصنف من الكتب يوجه الأجيال الى أمور هي من الأهمية بمكان علينا أن ننشغل بها، وأن علينا أن نعي أن التاريخ ليس حاضرا نعيشه أو مستقبلا نخطط له بل هو للعظة والعبرة نستفيد منه دروسا لحاضرنا ولمستقبلنا، أما إذا أردنا أن نضع لنا بصمة مؤثرة في الحاضر والمستقبل فعلينا أن ننشغل بالتحديات التي تواجه مستقبل البشرية كبعض الأمثلة التي تناولها جيتس في كتابه.
يتناول الكتاب موضوع الاحتباس الحراري والتغير المناخي والذي يعد أصعب التحديات وأخطرها على البشرية، وما يزيد من خطورتها أن البشرية تواجهه لأول مرة في تاريخها ولم يعد لديها الكثير من الوقت لإيجاد حلول فاعلة لهذا التحدي الكبير.
والتغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة له تبعات كبيرة جدًا على البيئة والنظام الحيوي، فمن المتوقع حدوث كوارث ضخمة خلال العقود المقبلة؛ إذ يشير الكاتب إلى أننا في الخليج العربي- على سبيل المثال- معرضون إلى ارتفاع غير مسبوق في درجات الحرارة في بعض فصول السنة مما سيزيد من مخاطر الوفاة بسبب ضربات الشمس بصورة كبيرة لم يسبق لها مثيل، وهذا التغير ستظهر آثاره خلال أقل من 3 عقود من الزمن، وإن كانت بعض آثاره بدأت بالظهور؛ إذ يشير عدد من الدراسات إلى أن السنوات الأخيرة تعد أسخن السنوات وأكثرها حرارة منذ أن بدأ رصد درجات الحرارة في نهايات القرن التاسع عشر.
والسبب وراء هذا التغير المناخي يعزى إلى الغازات الدفيئة التي يتم إنتاجها عبر الأنشطة المختلفة التي سنشير لها لاحقًا، ومن أهم هذه الغازات غاز الميثان وأكسيد النيتروجين وغاز ثاني أوكسيد الكربون، فهذه الغازات تتسبب في احتباس الحرارة على الكرة الأرضية وارتفاع درجات حرارتها.
لذا يضع بيل جيتس هدفًا واضحًا وصريحًا وغاية في الطموح ومنذ بداية كتابه وهو أن يصل انبعاث الغازات الدفيئة إلى الصفر!، علماً بأن العالم ينتج حاليا 51 مليار طن من الغازات الدفيئة سنويًا.
وللقيام بذلك لابُد من التوقف نهائياً عن أي نشاط يصدر هذه الغازات الدفيئة قبل عام 2050؛ لأن التقليل من الانبعاث لن يكون مجديًا بعد ذلك التاريخ، أما ما هي هذه الأنشطة التي تنتج هذه الغازات الدفيئة؟ فيقسمها الكاتب إلى 5 أقسام رئيسية؛ وهي: التصنيع، وينتج عنه قرابة 31% من الغازات الدفينة، ومن الكهرباء 27%، ومن الزراعة وتربية الحيوانات 19%، ومن المواصلات 17%، وأخيرًا من وسائل التبريد والتسخين 7%.
والملاحظ أنَّ أغلب هذه الأنشطة مرتبطة بالوقود الأحفوري؛ إذ يدخل الوقود الأحفوري كعنصر أساسي في سبب الانبعاثات الحرارية في جميع الأنشطة المشار إليها. إلَّا أنه في الوقت نفسه، هناك بعض الصناعات كصناعة الحديد الصلب ينتج منها كميات ضخمة أيضًا من الغازات الدفيئة والتي لا علاقة لها باستخدام الطاقة الأحفورية، وكذلك الحال بالنسبة لصناعات أخرى كصناعة الإسمنت.
ومن الأمور الملفتة أنَّ تربية الحيوانات وخاصة الأبقار والخنازير بغية الحصول على منتجات الألبان واللحوم ينتج حاليًا ما يقارب من 4% من الغازات الدفيئة التي تنبعث سنويًا، ولهذا فالغازات الدفيئة لا تنتج فقط من استخدامك لسيارتك؛ بل حتى عند تمتعك بوجبة البرج البقري!
وعندما يتناول الكاتب الأنشطة الخمسة يتناول أيضًا بعض الحلول المقترحة، ثم يطرح حلًا آخر لا بُد من السعي إليه، جنبا إلى جنب مع حلول التحول إلى تقنيات صديقة بالبيئة، ألا وهي الحلول المبنية على التأقلم مع البيئة، في فصل رائع وجميل، ومرة أخرى يوضح كيف يتم التخطيط لها.
لكن الحلول التي يطرحها في أغلبها ما زالت في مرحلة البحوث العلمية، وبعضها يحتاج إلى موارد مالية كبيرة وأخرى مكلفة، ولذا لا توجد حلول سحرية تقضي على المشكلة برمتها، لكن جيتس يصرح أيضًا في كتابه مرارًا وتكرارًا أن جريمة الاحتباس الحراري هي من صنع الدول الصناعية الكبرى، فلو جمعنا ما تنتجه الصين والولايات المتحدة وروسيا واليابان وألمانيا والهند لتجاوز 60% من مجموع الغازات الدفيئة التي تنتجه دول العالم أجمع، لكن المتضرر الأول والأكبر هي الدول الفقيرة وسكان العالم الذين يعيشون في خط الفقر أو دونه، لأن التغير المناخي سيقضي عليهم وعلى مزارعهم ومواشيهم وسيموتون جوعا إن لم يتم تداركه ووضع حد له.
كتاب جيتس يلقي بالمسؤولية على دول العالم الصناعي وأن عليها القيام ببذل أقصى جهودها في سبيل التصدي لهذا التحدي وإنقاذ فقراء البشر وهذا ليس تفضلا منهم بل هو من واجباتهم الإنسانية والأخلاقية فهم من تسببوا بهذا الضرر لمئات الملايين من فقراء العالم من أجل رفاهية أغنياء العالم ومترفيه.
إن الاحتباس الحراري والتغير المناخي صورة أخرى من صور ظلم الانسان لأخيه الانسان وللطبيعة، فالرفاه الذي ينعم به الكثير منا يُساهم ببؤس وشقاء الآخرين من فقراء البشر، فبيوتنا الضخمة المبنية من الإسمنت، وسياراتنا الفارهة ووجباتنا الغذائية الدسمة، واستهلاكنا المفرط لمصادر الكهرباء والماء، هو المسبب لجفاف الأراضي الزراعية للفقراء في جزء آخر من العالم، مصدر غذائهم الوحيد.
لقد أوضح الاحتباس الحراري أن تمتعنا بالرفاه هو على حساب جوع الفقراء في بقاع أخرى من العالم وربما موتهم في قادم الأيام!
** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس