Image Not Found

كيف وثّقت الكاميرا والفن صراع البشر مع الوباء والوحدة والجمود والموت؟

عُمان: استطلاع ـ فريق التحرير

إذا كان الوباء، أي وباء، إلى زوال وإن طال بقاؤه، فإن أصدق ما يوثق بشاعته وسطوته على البشرية هي شواهد قبور ضحاياه التي تنتشر في كل مكان، وكذلك الكاميرا التي تملك قدرة تجميد الزمن في صورة تبقى دلالتها ناطقة حتى بعد ألف عام من لحظة التقاطها. وفي هذا الاستطلاع المصور نحاول إلقاء الضوء على أعمال مجموعة من المصورين والتشكيليين الذين عاشوا وسط الجائحة منذ أيامها الأولى ووثقوا كل تفاصيلها بالريشة والضوء.. وجميعها أعمال تكشف صراع البشر مع الوباء من أجل البقاء.

زهير السيابي، مصور فوتوغرافي عماني

دأب زهير على توثيق ما يدور حوله منذ فترة احترافه التصوير، وكانت الجائحة فرصة لا تتكرر لممارسة هوايته الوثيرة، لكنها كانت تجربة لا تشبه ما شهده قبل.

صحيح أنه حَلَمَ لفترة طويلة بأن يصوّر حدثاً استثنائياً، لكنه لم يكن يعرف ما قد يكون ذلك، أو متى سيحدث. كانت الجائحة حدثاً مفاجئاً، واستثنائياً، أخذت الجميع على حين غرّة، ومنحت زهيراً فرصة لكنها دفعته كذلك للتساؤل كيف يوثّق اللحظة وكيف ينقلها إلى المتابع، هل يُعمِلُ أساليبه والتقاطاته السابقة؟ أم يأخذ منحى مختلفاً؟

كان زهير ضمن المصورين القلائل الذي تجولوا في المناطق المغلقة، واصفاً إياها «بأرض زومبي»، حينما حُظر على الناس أن يخرجوا من بيوتهم، ورصد بذلك مشاهداً غير مألوفة. انتشرت صوره في وسائل التواصل الاجتماعي، والتقطتها والصحف ومختلف وسائل الإعلام. كانت الرسالة التي تصل المشاهد واضحة لا لبس فيها: «قد تكون الضحية المقبلة لكوفيد 19».

أظهر صور زهير كباراً في السن يلبسون الكمامات وهم يؤدون أعمالهم اليومية.

ورغم تلك الجسارة والنشاط، إلاّ أن زهيراً، كبقية المصورين العمانيين الذين تجشّموا رصد أثر الجائحة في عمان، تملّكه الخوف من أنّ المخالطة المتكررة سوف تؤدي به إلى التقاط العدوى. لم يخف على نفسه، وإنمّا على أسرته ودائرته الصغيرة. لكن ذلك لم يحصل.

يقول زهير: «هناك أمل، لقد تجاوز المجتمع بنسبة كبيرة فترة الجائحة». لقد تأقلمنا، لكنني أخشى من المتغيرات الجديدة وما تحمله لنا.

سارة البلوشي، فنانة تشكيلية عمانية

كانت الجائحة فترة عصيبة وغير مسبوقة، لكن فترات الإغلاق وتقييد القدرة على الخروج من المنزل دفعت سارة إلى التفكير بالفن كوسيلة للتوعية والإرشاد، خصوصاً مع انتشار نظريات المؤامرة انتشار النار في الهشيم. تقول سارة: «فكّرتُ في أوّل أيام الحظر في مناداة العالم للالتزام بطرق الوقاية والحد من انتشار الفيروس. كان الفن وسيلة». ركّبت سارة مقطعاً لأغنية فيروز «خليك بالبيت، الله يخليك» على لوحة كانت قد رسمتها بعنوان «أتمنى أن تراني كيفما أراك» في عام 2016.

صوّرت اللوحة فتاة بالكمامة، وتظهر الكمامة وإطار اللوحة بألوان مختلفة في مقاطع فيديو أنتجتها سارة من هذه اللوحة. نشرت سارة الصورة والفيديو في صفحتها في إنستجرام، ولقت تفاعلاً كبيراً، ثم عُرضت الصورة على أكبر شاشة إلكترونية في مدينة دبي من قبل المتحف الفني الخليجي. شعرتْ سارة بالفخر والفرح حينما وصلت رسالتها إلى جمهور كبير لم تتصور أن تصله حينما كانت تركّب عملها الفني.

تقول سارة: «لم أرد أن أبدو وكأني أفرض على الناس رسالة ما، لذا استخدمت أغنية فيروز. كنتُ أترجّاهم أن يمكثوا في البيت». كانت سارة تدعو الناس إلى شيء من العزلة، وهو ما كانت تتوخاه في حياتها الخاصة، كانت العزلة وقوداً للفن والإبداع، حيث ترجع فيها إلى ذاتها، وتتنقّل ما بين المرسم والقراءة.

«الإنسان في معركة صراع من أجل البقاء»، هذا ما تراه سارة. وهي معركة مستمرة إلى اليوم والغد.

مرجان محبوبيان، فنانة تشكيلية نمساوية

علقتْ مرجان في عُمان في أثناء الجائحة، لم تستطع الرجوع إلى النمسا ولا السفر إلى بلد آخر، تقولُ: «خِلتُ أنّ هذا هو مستقبلنا، عالقين في أحداث اللحظة وشراك المكان، دون أن نفهم ما يعني كل ذلك». مع مرور الأيام، ازدادت المسافة التي تفصل البشر، وغدت التكنولوجيا هي ما يربط الناس، وينقل رغباتهم ومخاوفهم. «كانت الجائحة هي مثال بسيط لما نفعله نحن البشر بالبيئة وبمجتمعاتنا».

استلهمت مرجان أعمالها الفنية مما يحيط بها من بيئة وبشر، ومن نظرة هؤلاء للحياة، وطريقة عيشهم. وقد أثرّث الجائحة في كل لحظة من لحظاتنا في السنتين الماضيتين، مما انعكس في أعمال مرجان التي صوّرت صراعها وعائلتها مع فيروس كورونا، بل دفعتها الجائحة والبعد عن وطنها وفترة الانتظار الطويلة إلى التفكير في معنى هويتها، وكانت فرصة لاستكشاف الذات بعيداً عن صخب الحياة اليومي، مما ألهمها رؤية وأفكاراً جديدة لأعمالها القادمة.

تقول مرجان «إن البشرية لا تتفهّم سبب معاناتها، إنها لا تعرف حدودها، ولا تعرف متى تتوقف. إنْ لم نتوخّ الطبيعة في أفعالنا، فإنّها سوف تجبرنا على أن نستمع لها».

في إحدى لوحاتها المرسومة في أثناء الجائحة، رسمت مرجان على لوح ألمونيوم صراعاً بين حيوانيْ مها عربيين وجسمهما يذوبان بفعل هذا العراك. كانت اللوحة تعبّر عما عاشه البشر في أثناء الجائحة.

وفي لوحة أخرى رسمتها مرجان في أثناء إقامتها في الجبل الأخضر في فترة الإغلاق، تظهر أشجار الرمان ويحيط بها أوجه متلاشية من طفولتها. كانت مرجان بعيدة ومعزولة عن أسرتها، وكانت الأسرة معزولة عنها. إنه زمن سائل، لم نخبره من قبل.

هيثم الفارسي، مصور فوتوغرافي عماني

لقد صوّر هيثم صوراً لا تُنسى عن الجائحة، صوّرَ الوحدة والخوف والموت وهي تزحف على مناطق عُمان ومدنها.

لم يتوقع هيثم أن يرى كل ذلك عند بدء الجائحة، لم يتوقع أن توثّق عدسته مساجداً خالية إلاّ من عمال التعقيم، وشوارعاً كانت عامرةً فيما مضى لكنها غدت مليئة بالدخان الذي تنفثه آلات التعقيم والتنظيف، وأكفاناً تُنزل في اللحود لا يرافقها سوى فريق تكريم الموتى، بعيداً عن الأقارب والمعارف، وبعيداً عن طقوس الدفن وعاداته في عُمان.

يعترف هيثم أن تلك المشاهد أصابته بالذعر من تلك العاقبة، خاف أن ينقل العدوى إلى أسرته وإلى أمه وأبيه؛ لذا أمضى هيثم فترة بعيداً عن أهله، مدمناً التصوير وتوثيق تلك اللحظات الغريبة. في أحد المرات رأى شاباً لا يتوقف عن البكاء في إحدى المقابر. اكتشف هيثم أن ذلك الشاب كان يبكي في ذلك المكان لليوم الثالث على التوالي، وكانت قصته هي عودته من السفر حاملاً للفيروس الذي أصاب والده. كان واقعاً سريالياً، فكيف لحضن أن يودي بحياة من نحب.

كان هاجس هيثم هو توعية الناس بما كان يحصل على الأرض، بحجم العدوى وشدة بأسها في الواقع. لم يتسنَّ لعامة الناس أن يكونوا قرب أجنحة العناية المركزة في المستشفيات، أو في مغاسل الموتى، أو في الميادين الخالية إلاّ من أفراد الشرطة، غير أنّ الصور المعبّرة التي نقلها هيثم كانت كفيلة بنقل جميع تلك المشاهد إلى الناس.

يرى هيثم أن هذه الجائحة قد وسّعت من مرونة البشر، وأنّها ساهمت في تبديد الفوارق بينهم، فمع الألم والفقد كلنا سواء.

محمد الرحبي، مصور فوتوغرافي عماني

كان محمد ضمن المصورين الذين وثّقوا الحياة في المناطق الموبوءة في السلطنة، وتحديداً في مطرح. يعترفُ: «شعرتُ بالخوف، لكنني أدركتُ أنها ليست نهايتنا. كانت المدينة خالية، وكأنها غريبةٌ عليّ، وكأنني جديدٌ فيها، كان الشرطة في الشوارع، وفرق التعقيم تعمل في الأزقة وعلى أرصفة المحلات». كانت مطرح مختلفة عن مطرح النابضة بالبشر والحياة والسياح والتجار. لقد قلب الوباء مفاهيمنا، وغيّر ذكرياتنا الوثيرة.

هدف محمد إلى استخدام الصورة من أجل توثيق تلك اللحظات وإلى توعية الناس، رمى إلى توثيق الجهود التي كانت تحفظ النظام وحياة البشر، أولئك الذين كانوا في الخطوط الأولى من المواجهة، أي الكادر الطبي وأفراد الشرطة.

يعترف محمد أنها «كانت لحظات موحشة». ورغم نشاطه الفوتوغرافي إلاّ أنه كان يخشى أن ينقل المرض إلى أسرته، لذلك تجنب لأشهر طويلة أن يزور أهله، خوفاً من أن يصيب والديه بالفيروس.

في بادئ الأمر انتشرت نظريات المؤامرة حول الفيروس والجائحة، لكن مشاهد المرضى وقوافل الموتى دفعت بالكثيرين إلى الإدراك أنّ الأمر حقيقة وليس إشاعة. بدأ الناس يأخذون اللقاحات، وبدأت الوفيات تقلّ، وكان محمد يشعر بالسعادة، إذ أنّ بعض أهدافه من التصوير كان يتحقق.