Image Not Found

التعمين وشؤونه وشجونه.. مناقشة موضوعية

إرشاد اللواتي – الرؤية

مُتعددة هي العناصر التي بتضافرها تستقيم حياة البشر، ولا ينفرد عنصر منها بذاته لتحقيق النجاح المتكامل المستدام. وفي مركز ذلك التعدد الاستقرار والوئام الاجتماعي. كما لا يتحقق الاستقرار والوئام الاجتماعي دون أن يلفه الاستقرار الاقتصادي. ولا شك أنَّ ثمة عنصرَ العدل والبناء العقدي السليم والبناء الأخلاقي القويم وغير ذلك العديد من مقومات النهضة والحضارة والرخاء في عالم البشر.

في بعض الأحيان ينشأ توجه تصحيحي لانحراف أي من تلك العناصر أو أكثر منها، فتصبح تلك أولوية تقتضي التفاف الأيادي حولها لتحقيق المبتغى، وذلك التوجه لا يُمكن أن يكون سليمًا إلا إذا تمركز حول المجتمع؛ فمصلحة المجتمع ككل هي مبتدأ ذلك التوجه، ومقياس نجاحه حين يحين وضع حساب الربح والخسارة. ولا يجوز مطلقًا قبول نتيجة أو مسار يتعارض مع مصلحة المجتمع. ومن ثمّ نرى أن التعمين، برنامج توطين الموارد البشرية في بيئتها الاجتماعية، يمثل تصحيحاً لظاهرة انتشار وهيمنة العمالة الوافدة على عدد من القطاعات.

ولا يمكن أن يختلف اثنان حول كون المصدر الهيدروكاربوني هو الركيزة التي دعمت نهضة بلادنا، في ظل القيادة الحكيمة التي وجهت الموارد نحو تشييد البنية التحتية والفوقية للبلاد، والتي نقلت الأمة العمانية من مرحلة المُعاناة من الحرمان من شتى الأساسيات المدنية والحضارية إلى مراقي تشرئب لها الأعناق في ركب التنمية الوطنية المتكاملة. ولا شك أن التسارع الناتج من تلك المسيرة قد شكل تحديًا في مواكبة توفير الكادر الوطني ليتسنم دوره الكامل في التأسيس والإدارة والتوسع، مما استدعى استقطاب الخبرات واليد العاملة الماهرة وغير الماهرة من المناطق المجاورة حيث تتواجد، من خلال توفير الحافز لوفادتهم. ومنها انطلقت اللبنات الأولى للاقتصاد الوطني الحديث في السلطنة.

ويدًا بيدٍ مع حركة البناء انطلقت الحملة الواسعة لوضع البنية التحتية للمنظومة المعرفية والعلمية والمهنية في البلاد بدءًا ببناء وتجهيز المدارس ومراكز التدريب تتبعها المعاهد والجامعات ومراكز البحث والتطوير. ولا شك في أن تجذير وإنجاح هذا المشوار قد برّر توفير المنظومة والتسهيلات لتمكين رواد وأصحاب الأعمال من استقدام الكادر الأجنبي تحت كفالات مؤسسية وفردية لمواكبة التطور المتسارع، لتتحول العمالة الوافدة إلى جزء جوهري لنجاح تلك المؤسسات والأفراد تجاريًا، وتصبح وكأنها حق مكتسب غير مؤقت أو مشروط.

وانقضت عقود من الزمن في ركب التطور الذي اكتمل من ناحية البنية التحتية الوطنية وجَهَّزَ المواطنين بما يغطي كافة الخدمات الأساسية، ومَنَحَ المنظومة التعليمية التدريبية ما يوفر مخرجات وطنية تحمل المؤهلات المعتمدة، تبحث عن فرص التوظيف في بيئة استحوذت أركانَها العمالة الوافدة على مر عقود من الزمن، في وضع أصبح أصحاب الأعمال فيه معتمدين على خدمات الوافدين. التغيير- كل تغيير- مكلف ومجهد، وليست بيئة العمل مؤاتية للإحلال، حيث إن إدراج المواطن في مراكز العمل يعني إحلال الوافد الذي أصبح متمسكًا بمركز عمله ومنافحًا ومدافعًا عنه خوف فقدان مصدر رزقه.

الطبيعة البشرية تنطوي على الأنانية من صاحب العمل الذي قد يتردد في خوض الجهد المترتب على تغيير وإحلال الوافد والتكلفة المترتبة على استقبال المواطن المستجد في سوق العمل غير المسلح إلا بشهادة التخرج من البرنامج الدراسي أو التدريبي، وتنقصه ثقافة الانخراط في خدمة صاحب العمل ويفتقد الخبرة العملية التي ينافسه بها الوافد الذي قدم من بيئة يتنافس فيها الناس بشدة على فرص العمل، فضلاً عن كونه تدرب ميدانيًا بعد اكتسابه المعارف الأساسية في بلده. ومن السهولة بمكان إطلاق حكم “قلة الكفاءة” على المواطن الساعي لملء وظيفةٍ ظلّ الوافد يشغلها طوال عقود. وليس هنا موقف دفاع عن كون المنظومة التعليمية التي أخرجت المواطن بالشهادة المعتمدة كاملة متكاملة في تسليح الطالب بما يتوازى مع الوافد الذي ينافسه، فلا شك أن ثمة ثغرات يتطلب تغطيتها. وهنا تنشأ البطالة.

من المعروف عالمياً أن البطالة تعمّ كافة البلدان؛ حيث يعجز الاقتصاد الوطني عن استيعاب كل الباحثين عن العمل، وتتعدد الأسباب وتتراوح بين نقص المهارات المطلوبة لدى الباحثين من ناحية، ومن الناحية الأخرى محدودية سعة الاقتصاد لاستيعاب مخرجات التعليم والتدريب في كل بلد. وتصبح من أولويات الحكومات إدارة ملف البطالة من خلال السعي لخلق فرص العمل وتوفير فرص اكتساب المهارات. ولكن، هل يجوز أن تتجه الحكومة لإجازة استغناء الاقتصاد عن استيعاب الباحثين عن العمل، بل وتسليح أصحاب العمل بالعمالة الوافدة كبديل عن العمالة الوطنية…؟! هنا تصبح مسألة توطين اليد العاملة أولوية وطنية، حتى لو أدت إلى مشقة مرحلية في أجزاء من الاقتصاد الوطني لتسهيل استيعاب المواطنين الباحثين عن العمل.

لقد بينت العقود الأولى من النهضة أن المسؤولية تقع على عاتق المؤسسات التي تمتنع عن تكبّد جهد إحلال الوافد بالعماني، وكذلك الإدارات العليا في المؤسسات الخاصة التي يهيمن عليها الوافد الذي قد تتضارب لديه المصلحة في التضحية بفرص توظيف أقرانه من نفس الجنسية مقابل التوطين (التعمين). فلجأت الأنظمة إلى فرض نسب التعمين والتغريم في حالات الفشل في تحقيق المستويات المفروضة. ولم ينتج التصحيح المتوقع، بينما تبين أن الموقع الاستراتيجي في تحقيق المطلوب هو إدارة الموارد البشرية في المؤسسات الخاصة، الذي تم فرضه ليشكل جسراً إلى تفعيل برنامج التعمين.

لكن.. هل نجحنا؟ وماذا نقول عن الوضع الذي يطرح قضية عشرات الآلاف من المواطنين الباحثين عن عمل، في حين أن القطاع الخاص يستمتع بعمالة سهلة التوفر ورخيصة التكلفة من الوافدين، وبتصاريح ممنوحة رسميًا من الحكومة؟

نعم، لا شك أن ثمة نجاح على نطاق محدود في القطاع الخاص؛ حيث يتبنى أصحاب الأعمال الهدف الوطني لتحقيق برنامج التعمين، وبالضغوط والجهود المبذولة من الجهات المسؤولة. لكن يبقى الجزء الأكبر من البرنامج منتظرًا المخلصين من أصحاب الأعمال لمواجهة التحدي. ولا شك أن الأوضاع الجديدة التي يواجهها الإقتصاد العالمي من التعثر الطارئ- وخصوصاً في ظل آثار الجائحة التي نعاني منها- تجعل التحدي مزدوجًا. إذا كان العذر انخفاض إنتاجية المواطن لثغرة في تعليمه وتدريبه بالمقارنة مع الوافد، فهل سيكون مدير الموارد البشرية الوافد أجدر بإصلاح ذلك من المواطن؟ هل من المعقول أن نبحث عن الحلول في التضحية بما تم تحقيقه جزئياً من تفعيل برنامج التعمين في جزء تعمين إدارة الموارد البشرية في المؤسسات؟

ما لكم كيف تحكمون؟!